ربما أمكن لنا من خلال معرفة التصوف نقض قاعدة الكاتب الإماراتي "ياسر حارب": (الأديان أعظم من معتنقيها) لأن هنالك أفراد قد يعتنقون فكراً ما؛ فيروحنونه ويؤنسنون علاقته مع الوجود، بينما يعتنق أفراد آخرون الفكر ذاته فيُسيئون له ويجعلونه أكثر ظلامية. ويبقى الفِكر/الدين ونصهُ وسطاً يحمل أوجه، وهو الحالة النفس-إجتماعية للظروف التاريخية للفئة المتحدثة بإسمه، وكما يقول شكسبير: "في وسع الشيطان أن يستعين بالكتاب المقدس لتنفيذ مآربه"، وحسب مقولة شكسبير فإن المقدس لا يوجد في النص بقدر وجوده في الذات الإنسانية القادرة على تأويل النص تأويلاً قيمياً إنسانياً رفيعاً، في مواجهة تدنيس النص/الفكر وقدرة الذات التكفيرية الآخرى على تأويله تأويلاً ضيقاً ذاتياً طائفياً تكفيرياً.
كان أول من جمع بين الماركسية والتصوف هو المفكر العراقي الراحل هادي العلوي، حيث كان مهتماً بالحضارة الصينية أيضاً، فأضاف لكتابه "مدارات صوفية" حكمة التاو، ليقدم لنا فكرة جديدة تجمع بين ثلاثة محاور: الماركسية-التصوف الإسلامي-التاو. وبالرغم من التنافر المعرفي بين مادية ماركس وروحانية الإشراق الصوفي، يبدو لنا أن مشروع الجمع بين المحاور الثلاثة عند العلوي كان يعول على الموقف الوجداني المشترك في معاداة أهل الدولة والأغنياء من أهل المال وأصدقائهم الذين يعادون ضعاف الخلق، فالموقف الوجداني هنا يعني حب الخلق وتحريرهم من الحدود الضيقة التي تسعى لتمييز أفراد النوع الإنساني عن الآخرين، وهنا أيضا يكمن عداء أهل التصوف للحقائق المطلقة، وإستبدالها بالمجهول المطلق القابل لكل الأشكال والمعتقدات واللغات والأعراق.
المواقف الإجتماعية: "فتشت الأعمال كلها، فما وجدت أفضل من إطعام الطعام، وددت لو أن الدنيا بيدي لأطعمتها للجياع" - عبد القادر الجيلي
يُذكَر أنه عندما انتصرت الثورة البلشفية امتنع لينين عن اتخاذ الأدوية اللازمة لحالته الصحية في سبيل توفير طعام لازم للشعب الروسي، وهذا يذكرنا بقصة القطب الصوفي عبدالقادر الجيلي حيث "يُحكى أن أحد مريدي القطب الصوفي عبدالقادر الجيلي رأى شيخه يشتري دجاجة محمصة، وخبزاً ومقبلات، فهالهُ ما رأى: أيجوز من شيخنا أن يأكل من هذا ونحن لا ندري؟! فتبعه من حيث لا يشعر، حتى انتهى إلى منزل فدق بابه فخرجت إمرأة عليها سيماء الفقر فدفع الدجاجة إليها وعاد من حيث أتى. فعلم المريد أن الشيخ لم يشتري الدجاجة لنفسه"
هناك مباحات في الشريعة الإسلامية، مثل: "إتخاذ الجواري والعبيد مع تقنين العلاقة بين العبد والسيد، أكل لحوم الحيوانات مع تهذيب طريقة الذبح، تعدد الزوجات مع شرط العدل" إلا أن مجمل أقطاب التصوف حرموا على أنفسهم تلك المباحات كإلتزامات شخصية، فلم يتخذو الجواري والعبيد بحكم أن لا سلطة لإنسان على إنسان آخر، فالذلة تحق لله وحده. لم يأكلوا اللحوم وكانوا أقدم من عارض قوانين الإعدام بصفة أن الحق في هدم النشأة لله وحده ولا يجوز للبشر، وحرموا على أنفسهم التسري (تعدد الزوجات) وكان منهم من لم يتزوج على طريقة يسوع (عيسى بن مريم)، أما من يتزوج فعليه أن يلتزم بزوجة واحدة.
نظرية المعرفة في سبيل حرية الإعتقاد: "لون الماء لون إنائه" - الجنيد البغدادي
هل يمكن أن نضع المحيط في كأس من الماء؟! بشكل آخر يمكننا أن نختصر نظرية المعرفة الصوفية في العبارة التالية: (المحدود لا يحتوي اللامحدود، والواحد يتضمن الكثرة). المحدود هنا هي الحقائق البشرية التي تدخل قلب المؤمن لمحدوديته، فالمعتقدات كلها محدودة ولما كان قلب الإنسان محدوداً انعقد على الإيمان بها. أما الحقيقة/الإله الحق: فهو المجهول أبداً لأنه فوق العقل البشري المحدود. وإقرار الإنسان بحقيقة جهله هو الطريق الأول لتحرير العقل من التعصب المذهبي والغرور العقائدي، فيتأله الإنسان هنا ويصبح الواحد الذي يتضمن الكثرة.
- سمع الشبلي قائلا يقول: "أُسائل عن سلمى، فهل من مخبرٍ/ يكون له علمٌ بها اين تنزلُ؟ فصاح وقال: لا والله ما في الدارين مخبرٌ عنه. وسلمى كناية عن الله/الحق. المتصوفة دائما ما يستخدمون الإستعارات والمجاز للتعبير عن آرائهم نتيجة ملاحقة أهل الدولة والدين لهم بصفتهم زنادقة إلا أنهم كانوا من الإيمان ما يجعلهم مستعدون للموت ولقاء المحبوب، ويُذكر أن الحلاج كان يضحك وهو يردد نشيده الآخير مصلوباً على خشبة المقتدر العباسي عام 309هـ.
- في عوارف المعارف سُئل الجنيد عن النهاية فقال: هي الرجوع إلى البداية. المعرفة هنا تختلط باللامعرفة والطريق إلى العلم هو اللاعلم. ففي بداية أمره كان في الجهل، ثم وصل إلى المعرفة، ثم رد إلى التحير والجهل. ولهذا قال "لون الماء لون إنائه" والماء هنا هو الذات الإلهية والإناء هو المعرفة الإلهية، والماء لا لون له إنما يتلون بلون الإناء، فإذا كان الإناء/المعرفة أسوداً أصبح الماء أسود، وإذا كان أبيضاً إتخذ الماء/الذات الإلهية لون البياض، أما إذا كان شفافاً فإنه يصبح والماء شيئا واحداً "يتألّه". يتضمن الكثرة ويستقبل كافة الألوان. هذه هي الحالة الصوفية، ولهذا كان على هذه المعرفة ان تقف بطبيعتها في وجه التكفير، الأحادية الفكرية، اللون الواحد للحقيقة، وتُطارد وتُلاحق من قِبل أصحاب الشكل الواحد الذي لا يستقبل الا ما هو داخل إنائه.
- يقول السهروردي المقتول: "رقّ الدنان ورقّت الخمرُ*فتشابها فتشاكل الأمرُ - فكأنها خمرٌ ولا قدحٌ*وكأنما قدحٌ ولا خمرُ"
بين العلمية والغيبية الصوفية
حسب قول الروائي الروسي دوستويفسكي: "إن الأفكار العظيمة إلى حد ما هي ثمرة قلب كبير وليست نتيجة ذكاء كبير" من هنا يمكننا قراءة التصوف والإهتمام به كمعرفة وجدانية تقوم على تهذيب النفس، فالتصوف ليس فكراً علمياً، بل ليس لديه القدرة على تطوير الواقع العلمي شيء، وقد لا يعطي في ذلك إلا المخاريق والغيبيات. إلا أنه يستطيع من خلال تسفيهه لمحدودية العلم أن يهدي غروره إلى لامحدودية ولانهائية الروح الإنساني. فالعلمي قد يزدري التصوف بصفته وهم، ولكن التصوف في وهمه استطاع أن يقبل العلمي بصفته طالب حقيقة، ومفارقة دوستويفسكي هنا تدعونا لإعادة النظر في الأدب الرومانسي للأوربيين الذين إلتحموا مع روحانية الشرق من أمثال غوته وتولستوي. فبالرغم من أن العقل البشري أستطاع بذكائه أن يكتشف الطاقة المتجددة وعلم الذرة، إلا أنه لا يزال متعلقاً بالقلب الحجري البدائي الذي لايزال يوظف العقل في سبيل الكراهية والحروب والفتك بالأمم. علينا إعادة إحياء التصوف كفكر إسلامي ينتمي لتراثنا؛ لو كان يُدرّس هذا الفكر في المدارس بدل تدريس التمذهب والأحقاد والكراهية لكان قادراً على أن يكون علاجاً لمحدودية الفكر الإنساني وغروره، فهو الطريق إلى روحنة العقل المتأدلج واعادته إلى الروح اللامحدود، الكوني، المطلق.