الجمعة، 30 سبتمبر 2016

لماذا أُغتيلَ "ناهض حتر" المسيحي اليساري الذي دافع عن الإسلام؟




في يوم الأحد الموافق ٢٥ سبتمبر ٢٠١٦ أُغتيل الكاتب الأردني ناهض حتر أمام قصر العدل بالعاصمة الأردنية عَمّان بسبب كاريكاتور اعتُبِرَ بأنه يسيء للذات الإلهية، وبلغة الرصاص البارد ذاتها التي أُغتيل بها الشهيد المفكر اللبناني حسين مروّة في شقته، والشهيد مهدي عامل في الشارع الوطني في بيروت؛ لتؤكد لنا هذه اللغة بأن ذاتها الإلهية ضيقة ومتضخمة وضد الإنسان، ولا تعني ذاتهم تلك شيئا للغة الذات الإلهية الرحيمة المنزهة عن كل فعل دموي قابض بالحديد والنار على لغة العقل وحريته، وذاتهم تلك لشبيهة بالذات الأميرية السلطوية، لها العرش الذي لا يمس، وإن حق واقتربت منه توأد حياً، تُكبل، أو تُشنق.

لم يكن من المخطط كتابه هذه المقالة ونشرها؛ إلا أن ردود الفعل السلبية في كثير من وسائل التواصل الإجتماعي، والأخرى التي نصادفها يومياً من الآراء المؤيدة لإعدام ناهض دفعتني للكتابة، كما أنها تبين بأن المؤيدين لمثل هذا الفعل كما قال ناهض حتر في رده على من لم يفهم رسمه الكاريكاتوري نوعان: (أناس طيبون لم يفهموا المقصود بأنه سخرية من الإرهابيين وتنزيه للذات الإلهية، وآخرون إخونج داعشيون يحملون الخيال المريض نفسه لعلاقة الإنسان بالذات الإلهية)... فالذات الإلهية لم تُمس ولا تُمس، إنما هو مسَّ ذاتهم التكفيرية الشهوانية، التي تنتهي قدسيتها بالظفر بالجنة وخمرها وحورياتها ولذائذها الحسية، ولهذا لم يردوا على ناهض بذات لغة الفكر والعقل إنما بالرصاص الذي تبيحه ذاتهم تلك، وهذا هو الفرق بين ذاتهم  الإلهية والذات الإلهية المنزهة التي تحترم كرامة الإنسان، ولهذا قال ناهض في مقابلة له على قناة "OTV": (اليوم لا يوجد إسلام واحد، هناك إسلام دمشقي، وصوفي، وسلفي غير جهادي، و إسلام وهابي تأسس مع الدولة السعودية) فبالنسبة لنهاض لا يمكن أن نساوي بين الإسلام الصوفي الذي يقول فيه ابن عربي: بأن الحق في هدم النشأة لا يحق إلا لله، ويحرم قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وبين الإسلام السلفي التكفيري الجهادي الذي ينصب نفسه على عرش الله ويسفك الدماء.

كان ناهض يساريَ الفكر، مسيحيَ الولادة، قومياً-علمانياً في السياسة، هكذا وصف نفسه على مقالة نشرت له في العام ٢٠١٢ على موقع "ساتل" بعنوان "انتصارا لرمزنا القومي". لم يمنعه كل ذلك من أن يكون أول المدافعين عن النبي محمد ضد كيل الإساءات وأن يقرأ شخصيته في سياقها التاريخي، قائلا: (ولدت في عائلة مسيحية، وأنا ماركسي في الفكر، وقومي علماني في السياسة، وبسبب كل ذلك –ليس برغمة- تجرحني الإساءة للرسول) وأضاف أيضا..: (ليس قساً أمريكياً صهيونياً أو مجرد جمع متطرف من يرتكب ذلك العدوان على رمز أمتنا، بل هو تيار عريض من الغرب عامةً، وفي الولايات المتحدة خاصة، يعبر عن انحطاط الإمبريالية الأمريكية الروحي والثقافي والفكري). وأضيف أنا إلى جانب ذلك تيار عريض من المثقفين الغرباويين العرب  الذين سَخَّروا جل كتاباتهم من أجل ترسيخ فكرة الكراهية والحقد وإبعاد الناس عن جذورهم الثقافية المتعلقة بالتاريخ العربي الإسلامي والإشادة بكل ما هو غربي ففي كل تراث وثقافة هناك الغث والسمين، ويخلطون بين الثقافة الحديثة التي هي نتاج الإنسانية جمعاء وبين الثقافة الغربية الإمبريالية الوحشية منذ المدرج الروماني وحتى حروب الإبادة ضد السكان الأصليين للقارة الامريكية.


لماذا أغتيل ناهض حتر؟... يقال: (أينما وجدت مثقفاً مضطهداً فابحث عن سبب اضطهاده في السياسة لا في الفكر الخالص). فمن حرض على قتل ناهض يعرف توجهه السياسي جيداً، ففي بقعة يتعذر فيها أن نجد صوتاً، كان الوحيد ربما الذي قدم إعتذار للشعب البحريني في العام ٢٠١١ لأنه أردني أولاً وعربي ثانياً، ووجه نقداً لاذعا للحركة الوطنية الأردنية التي  لم تفعل شيئاً ذا بال حسب قوله، وكان معارضاً صلبا ضد تطبيع العلاقات العرب-إسرائيلة في الكثير من كتاباته منذ تواطؤ السادات ١٩٧٧م وحتى الحرب على سوريا اليوم... هذا هو السبب في اغتيال ناهض وهو السبب نفسه لاغتيال مهدي عامل والسبب نفسه في بقاء الكثير من اعوان الظلمة ممن يسيئون فِعلاً للذات الإلهية من داخل الإسلام وخارجه لا يمسهم الرصاص، ولا قوانين الإعدام. سلام لروح ناهض الإنسان الإنسان، وتقبله الله شهيداً.

الخميس، 22 سبتمبر 2016

المراثي والمآتم في التاريخ

"حلقات اللطم" لوحة فنية للمستشار السابق لحكومة البحرين: تشارلز بلغريف


ترجم الصينيون مصطلح رجعي إلى "فان دونغ" أي ضد الحركة. ولا يعني ذلك عدم العودة إلى الماضي. لأن الماضي هو تاريخ زاخر من صراع القيم المشاعية ضد قيم العبودية والإقطاع. من هنا تستلهم شعوب العالم من حكماء المشاعية وثوارها الإنسانيين قيمها ضد التسلط الإقطاعي والرأسمالي. فدمج الصينيون قيم الاشتراكية مع تراثهم الذي يحتوي على حكمة التاو العريقة، وطبع الهنود على عملاتهم صورة المهاتما غاندي، كما تحيي شعوب العالم ذكرى أبطالها التاريخيين، فالمقدس بالنسبة لقراءتنا للماضي ليس الأسماء ولا الأشخاص، وإنما القضية والثوابت المبدئية.

من هذا المنطلق يمكننا أن ننتقي من تراثنا ليس كما ينتقي الفرد العقائدي، وإنما ننتقي ما يساهم في صناعة حاضرنا وتوسيع مداركنا، وما يساهم أيضا في ترسيخ القيم الإنسانية المناهضة للظلم، ففي مقابل ثورة الحسين نجد ثورة شبيب الخارجي وأمه غزالة حيث قادا أطول حرب عصابات في تاريخ الإسلام، ومأساة شبيب مشابهة لمأساة الحسين إلا أنها لم تحضَ بنفس الوهج الإعلامي. ونجد في الأمويين الخليفة يزيد الناقص الذي نقّصَ من رواتب الجنود بغية ترسيخ قيم العدل وإلغاء القيم البوليسية، وقام بإسقاط الجزية عن الذميين، إضافة لذلك لم يتخذ لنفسه قصراً، ويرجح البعض أنه قُتل مسموماً من قِبل عائلته التي خرج عن سياساتها. ومن الأمويين أيضاً عمر بن عبدالعزيز الذي قرّب المعارضين منه وحاول الإصلاح بين الطوائف المختلفة، وفي العلويين زيد بن علي، أما في المثقفين من فلاسفة وشعراء، فنستشهد بالمعري الشاعر والفيلسوف الثائر على كل شيء، وكذلك الشاعر بشار بن برد الذي كان والده أحد ضحايا السبي جراء الفتوحات الإسلامية في طخارستان، وفي المتصوفة الحلاج المصلوب. 

في مجتمعنا البحريني تُقام في بداية كل عام هجري ذكرى يوم عاشوراء الحسين، وتُستذكر بطولاته التاريخية في المراثي والمآتم التي يشارك فيها جاليات من مختلف الأعراق، أو على شكل احتفالات شعرية، أو على طريقة اللطم والعزاء، وفي العصر الحديث دخل الفن التشكيلي والرسم ضمن الفعاليات التي تُقام في العاصمة المنامة، و كذلك تُقام مسابقات في فن التصوير الفوتوغرافي. فكيف بدأ هذا الأحياء وبأي شكل؟ وهل كل تلك الأشكال نتجت مرة واحدة أم لكل منها جذره وتاريخه المختلف؟

أثارت مأساة الحسين وما تخللها من بطولات شجون ومشاعر الشعراء، فكان الشعر هو أول وسيلة من قِبل مواليه عبروا فيها عن حزنهم وعواطفهم، ولعل أول من نظم مرثية حسينية في التاريخ هو تابعي معاصر للحدث يدعى (خالد بن غفران) من أهل دمشق، وقد توارى عن الأنظار عند وصول رأس الحسين، وسألوه عن السبب فقال: أما ترون ما حلّ بنا؟ وأنشدهم تلك الأبيات. ورويت مرثية صغيرة لرجل يدعى سليمان بن قُتَّة وُصف بأنه من موالي بني هاشم. والرجلان ليسا من الشعراء.

أما أول شاعر رثى الحسين فهو (الكميت بن زيد الأسدي) من قبيلة بني أسد المعروفة بموالاتها لأهل البيت، وهو المولود في العام الذي حدثت فيه واقعة عاشوراء، وقد كرر رثاء الحسين في هاشمياته ليُعرف كواحد من أكبر الشعراء في هذا المجال. وبعد سقوط الأمويين دشن السيد الحميري تاريخ المراثي الحسينية المتوارثة، على أن الكثير من المراثي بقيت على شكل رثاء عام لأهل البيت بدءاً من علي، ثم بدأت المراثي المطولة المخصصة للحسين وأقدم غرار لهذا الصنف قد يكون مراثي الشريف الرضي، التي تميزت بإحساس شديد بالفجعية تبين انتماء الأخير للحسين كإمام وجد.

في أواخر العصر العثماني اتّخذ الشعر شكل مبارزة سنوية تنعقد في المحرم ولا يسع أي شاعر التخلف عنها، على أنها لم تكن دائما مجرد ارتباط بالفاجعة، حيث أخذ الشعر الحسيني في القرن العشرين وصعود الاحتجاجات ذات الطابع الوطني أو الإسلامي دور المحرض للنهوض الممزوج بالفاجعة والبطولة. ويخفت هذا التقليد ويشتد حسب الظروف السياسية ولم يفلت منه حتى الشاعر الوطني الكبير محمد مهدي الجواهري الذي نظم قصيدة هي من أروع ما أنتج الشعر المعاصر في حق الحسين، وهو يخلده هنا كرمز للثورة والبطولة بخلاف قصيدة المديح في علي بن ابي طالب لغازي حداد التي يختلط فيها الافتخار بالأصول القبلية مع النزعة الطائفية. وهنا بالتأكيد تلعب ثقافة الشاعر ومشروعه الحاضر بين الوطنية والطائفية دوراً بارزاً.

وفي مجال المسرحية ألّف عبدالرحمن الشرقاوي مسرحيتين شعريتين بعنوان الحسين شهيداً و أخرى الحسين ثائراً، وفي غير العرب ألّف الشاعر الألباني نعيم فراشري ملحمة شعرية من عشرة آلاف بيت، وقد تم بعد ذلك توضيف الأدب في المسرح، حيث  تقام سنويًا في العراق والبحرين وعموم المناطق التي يتواجد فيها الشيعة احتفالات داخل المجالس وفي الساحات تقوم بإعادة المشهد على شكل مسرحي،  من المشهود ايضا له أن هناك أعلام معاصرة من الطائفة السنية الكريمة قد خصصت محاضرات في أحد أعوام عاشوراء تتعلق بالحسين أمثال د. عدنان إبراهيم وهو شافعي المذهب، وفي لبنان يخرج المسيحيون في الباحات ليحيون هذه المناسبة التي تتشابه مأساتها مع مأساة النبي المصلوب.

تعود مجالس التعزية إلى عهد طويل يرجعه المؤرخ العراقي هادي العلوي إلى القرن الرابع الهجري. وقد أمتدّ التقليد في العصر العثماني من مبارزة شعرية تقام في العاشر من محرم إلى احتفاءات من اليوم الأول في بداية العام الهجري حتى خمسين يوماً "٢٠ صفر" ويسمى هذا اليوم: "مرد الرأس".

ظهرت بعد ذلك شعائر اللطم في الساحات العامة والباحات أو قاعات المساجد والحسينيات. ويتولّاها حادي يُسمى رادود، يردّد عبارات قصيرة موزونة تسمى ردة ويلطم الجمهور على إيقاعها، وقد أرجع عبدالكريم إسماعيل في كتابه "شعائر الصورة" أول موكب لطم موحَّد يخرج من المأتم إلى الساحة في البحرين إلى العام ١٨٩١م، ويكون اللاطم أحياناً مكشوف الصدر حتى تؤثر اللطمة في جلده، وللمبالغة في الإيلام تستعمل زناجيل يضرب بها الظهر عارياً وفي مشاهد أكثر إيلاماً تستعمل قامات (سيوف) تُضرب بمقدمة الرأس وتحدث فيه جروح تكون أحياناً عميقة وتؤدي للوفاة، ولا يوافق معظم فقهاء الطائفة الشيعية على تلك الطقوس لكن الجمهور يؤديها بحكم العادة، وتعود بدايات شعائر التطبير في البحرين حسب الدلائل المتوافرة إلى عام ١٩٠٧م، إذ كان جزءاً من عزاء مأتم العجم، وفي سنة ١٩٣٧م بدأت القنصلية البريطانية بإصدار شهادة للأجانب تبيح لهم اقتناء الأسلحة في البحرين، وكان المأتم يتبع نظاماٌ في توزيع السيوف بحيث كانت تُعطى للمعزين في يوم العاشر وتُسترجع من عندهم لتحفظ بعد الانتهاء وتنظيفها جيداً. ويعود أيضا إدخال الموسيقى في شعائر العزاء البحريني إلى مأتم العجم في العام ١٩٣٠م، وأبرز الآلات كانت الطبل والمزمار، وكان العازفون يلتزمون بزي موحد، وتقام التدريبات قبل الموسم بأسابيع.

أما الفنون التشكلية والرسم فقد بدأت ضمن فعاليات جمعية المرسم الحسيني للفنون الإسلامية عام ٢٠٠١م، والتي ستطفئ شمعتها السادسة عشر هذا العام، ومن بعدها ظهرت مسابقات سنوية أخرى في فن التصوير الفوتوغرافي الحسيني.

وهكذا فإن الشعائر والتقاليد لا تنبثق مرة واحدة وإنما لها جذرها وتاريخها، وهي تتسع وتختلف وتتمايز بقدر اتساع رقعة الفكر وامتازجه بثقافات الشعوب المختلفة ووسائلها. وقد رأينا هنا كيف تطورت الشعائر من الشعر والرثاء إلى المأتم ، ثم اللطم والعزاء والمسرح، ثم الفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي.

ــــــــــــــــــــ
مصادر:
- شخصيات غير قلقة في الإسلام، هادي العلوي، فصل الحسين في كربلا: المآتم والمراثي
- شعائر الصورة، عبدالكريم إسماعيل