يُعرّف التابو على أنه فعل محظور يوجد ميل شديد نحوه في اللاشعور، وهو عند الناس موقف ازدواجي بين ميولهم وبين محضوراتهم التابوية والتي تصبح مع مرور الوقت قيماً. ينقل بو علي ياسين عن فونت: "من ينتهك تابواً يصبح هو نفسه التابو"(١) هذه المقولة تعبر عن جدلية الأخلاق وتطورها في المجتمعات. فمن ينتهك محرماً يصبح هو ذاته محرماً، بعبارة أخرى من ينتهك المقدس/الصنم يصبح هو ذاته مقدساً/يؤسس لصنميات أخرى. ولكن هل المسألة الأخلاقية بهذه البساطة؟ وما هي القوانين التي تحرك المجتمع نحو تبديل قيمه؟ وما الذي يجعل الشيء أخلاقيا هنا وغير أخلاقي هناك؟ مقبولا في زمان ما ويعبر عن قيمة عليا، ثم يصبح محط للنقاش والجدل، ثم ينتهك ويستبدل في زمن آخر؟
في مطلع القرن السابع عشر وتحديداً في العام ١٦١٢م رسم بيتر بول روبنز لوحة لفتاة إيطالية، هذه الصورة أصبحت خيطاً دقيقاً بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وحين نشرها الفنان التشكيلي العراقي "ستار كاووش" على صفحته في الفيسبوك أثارت جدلاً واسعاُ، وكان من الأجدر لكاووش أن يوضح الحدث من وراء هذا الرسم الذي هز روماً أنذاك: "كانت للوحة تُصور فتاة ترضع والدها الذي حُكِم عليه بالموت جوعاً، وكانت الفتاة ابنته تأتيه يومياً ويتم إدخالها بعد أن تُفتش جيداً، ويتم التأكد من أنها لم تحضر معها أي طعام، وفي سبيل ذلك لم تجد الإبنة غير هذه الطريقة لإطعام والدها وإنقاذه من الموت، وعندما اكتُشف أمرها تعطاف معها شعب روماً، وقامت السلطات بإطلاق سراح والدها".
ما الذي جعل شعب روما يتعاطف مع قضية هذه المرأة، بالرغم من أن هذا الفعل سفاح محرم ليس في الدين فقط بل في التابو الذي يسبق مرحلة اندماج الأخلاق في الأديان؟!
peter paol rubens - roman charity 1612 |
يمكننا ان نبين من خلال بعض الأمثلة أن غريزة البقاء تمتلك الدور الأهم لدى البشر في تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير كذلك. على سبيل المثال: "قد ترى شاباً يضرب عجوزاً، فتقول ما أقسى ذلك الشاب، لكنك ستقف معه لو علمت أن العجوز قام باغتصاب أحد الأطفال"... "وقد ينحرف سائق قطار عن سكته فيقتل رجلاً، لكن السلطات لن تحاكمه، وربما ستمنحه وسام الشرف إذا ما علمت أن السائق انحرف عن مساره لأن سكة الجسر على الطريق الآخر متهالكة وستودي بحياة الآلاف... لكن هناك من لن يغفر لسائق الباص أيضاً، وهم أقارب الرجل المقتول، إذ يلعب الجين/القرب/وصِلة الدم مسألة أخرى في تحديد القيم الآخلاقية لدى الفرد"
تختلف المعايير الأخلاقية من مجتمع لآخر أيضا باختلاف الظروف التي تمر بهذا المجتمع أو ذاك في سبيل الحفاظ على كيانه: "يُذكر أن موظفا هنديا احتفل في أحد المؤسسات بمناسبة قدوم مولوده الجديد، فتعجب أقرانه لأنهم لم يحسبوا أنه غادر البلاد منذ سنتين، وأصابهم العجب اكثر حين أجابهم بأن الطفل من زوجته لأخيه" ويقال أن الهندي أخذ يناكف أقرانه حول تشريع تعدد الزوجات في الإسلام، متعجبا هو الآخر. ولو أننا بحثنا في الظروف التاريخية لجميع التشريعات التي تثير استغراب واستهجان الآخرين اليوم لوجدنا ألف مبرر ومبرر. ولكن يبقى السؤال: هل الظروف هي دائما نفسها؟ ولماذا تبقى القيم ثابتة ومقدسة وفوق النقد رغم عدم توافقها مع البنى الإجتماعية الأخرى؟ ورغم تغير الظروف في المجتمع ذاته؟
إن هذه ليست دعوة للانحلال الأخلاقي، وإنما هي دعوة للنظر فيما هو ثابت وقراءته في سياقه التاريخي، فالعودة إلى البنية الإجتماعية لكافة التشريعات تجعلنا نفهمها، وحين نفهمها نتحرر من النظر إليها بعين المقدس الثابت، او الإزدراء الغير مفهوم والمعادي. إننا حين نفهم لا نعادي ولا نقدس، وإنما نقارن ونُطور.
بالعودة إلى التاريخ ما قبل الإسلامي -الجاهلي الأخير- يمكننا أن نفهم مثلا أن الإسلام في سياقه التاريخي لم يشرع لتعدد الزوجات، وإنما قننه بأربع، وكان رجال من بني ثقيف يملكون ١٠ نساء فتم تسريح ٦ منهن، واعطي للمرأة نصف الميراث بعد أن كانت محرومة منه، ومع تطور المجتمع الإسلامي، قام الدروز -الإسماعيليون في الأصل- بنسخ تشريع التعدد وجعلوا زوج واحد لزوجة واحدة، وساووا بين الجنسين في الميراث، إلا أن تجربة الفلاسفة الإسماعيليين انكفأت بعد أن كانت تحتل مساحات شاسعة في العصور الإسلامية. وتركت نصيب التوسع بعد ذلك للفقه الأصولي. وينحو الشيخ كمال الحيدري منحى تقدمياً على منهج الإسماعيليين في قوله بوجوب المساواة بين الجنسين في الميراث وذلك بقارنته بين وضع المرأة في المجتمع البدائي/الإقطاعي "مرحلة نزول القرآن" ووضعها في المجتمع الصناعي اليوم، وقدرتها على أن تفوق الرجل في مجال الصناعات والفكر، وقوله أيضا: لا يمكننا ان نخضع حروب اليوم لقوانين حروب الأمس التي كانت تعامل الأسير كعبد يمكن أن يباع ويشترى في سوق الرقيق(٢).
السؤال هنا: هل يمكننا أن نخلع عن الذين ينسخون التشريعات الأخلاقية إيمانهم-عقيدتهم أيا كانت تلك العقيدة-؟ وهل يمكننا أن نخرج طائفة بحجم الإسماعيلية كما الشيخ كمال الحيدري من الديانة الإسلامية؟
حسب مفهوم علي الديري فإن وظيفة الفلسفة أنسنة الوجود، أما المستشرق الفرنسي (إيرك جوفروا) والذي دخل الإسلام وعمره 27 عاما من باب الفلسفة الإسلامية لا من باب الفقه الإسلامي، أي من باب الفكر والسؤال لا من باب الأجوبة، فيقول: "إن الآيات القرآنية التي تدعو إلى التسامح واحترام حرية الإعتقاد ينبغي اعتبارها ذات صلاحية عامة وكونية، وأما آيات القتال فهي مرتبطة بظروفها الخاصة في ذلك العصر"(٣). في الواقع أن هذه المسأله: "مسألة السياق التاريخي/ أو ما يعرف بأسباب النزول" لا تؤخذ بعين الإعتبار من قبل المسلم اليوم، فيجري نقل آيات التسامح ذات القيم الكونية، وآيات القتال والتكفير التي تخص حرب النبي محمد بينه وبين مجتمع اليهود والنصارى ومشركي قريش إلى واقعنا اليوم. توضع هذه وتلك في سلة واحدة، يختلط في الثابت المقدس الأبيض والأسود، ما هو أخلاقي وكوني بما هو تكفيري ويخص مرحلة من مراحل الصراع البشري.
فهل يمكن القول بأن الأسباب التي دعت لقتال هذه الفئة بالأمس نفسها الأسباب التي تحتم قتالها اليوم؟ هل القيم التي يحملها التكفيري اليوم هي ذاتها القيم التي كان يخوضها النبي محمد في الأمس؟!
ما نريد قوله في النهاية أن المشكلة بين ثنائية التشريع والأخلاق ليست في التشريعات وثوراتها التاريخية بوصفها ثورات في زمان ومكان معين، إن الفجوة بين التشريعات والأخلاق تكمن في ثبات التشريع رغم تقدم وتطور الأخلاق، الفجوة بين التشريع والإخلاق تنمو بقدرة التشريع على تخطي زمانه ومكانه إلا أن خطاه تبقى ثابته رغم ذاك التخطي، ما يجعل من الأخلاقي يحتوي في داخله قيم غير أخلاقية، ما يجعله غير قادر على التأقلم والبقاء، ما يجعل هناك تشريعات عدة لمدارس فكرية واحدة، أو معتقد واحد عبر التاريخ، المعتقد يمكن أن يثبت في القلب، لكن التشريع دائما ما كان يُنتهك وينسخ ما قبله في سبيل تقدم المجتمعات وتطورها وتقلبها.
ـــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(١) خير الزاد من حكايات شهرزاد، بوعلي ياسين، ص٢٣٥
(٢) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة
https://www.youtube.com/watch?v=QUt9oxQL9Lo
(٣) هل ينسخ الإسلام الأديان السابقة؟، إيريك جوفروا، موقع طواسين للتصوف والإسلاميات
http://tawaseen.com/?p=3213
ـــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(١) خير الزاد من حكايات شهرزاد، بوعلي ياسين، ص٢٣٥
(٢) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة
https://www.youtube.com/watch?v=QUt9oxQL9Lo
(٣) هل ينسخ الإسلام الأديان السابقة؟، إيريك جوفروا، موقع طواسين للتصوف والإسلاميات
http://tawaseen.com/?p=3213