السبت، 22 مارس 2014

صحوة السُكران



ها هُنا أنا الآنَ
نِصفُ القَلبِ مُمتزِجٌ بِنِصفِ الليلْ
فَهذا البَحْرُ مُنسدِلاً عَنْ الكَونِ
وَهذا النَجمُ مَكشوفُ
وهذا القلب عُطشاناً بِوِحدَتهِ لِسَكرَتِهِ
وَيَبْدو العِشْقُ للسُكرانِ مَختومُ
"أَلا فالتُكسَر الجُدرانْ"
 
بَحارُ الأرضِ قَدْ ماجَتْ
وَشَمْسُ القلبِ سكرانه
أَهَلْ لِلهِ أَمْ إبليسْ قَدْ سَجَدَتْ
أَبو التَوحيِدِ شَيطانُ
فَلَمْ يَسْجُدْ سِوى لِلحقِ سُبحانَه
ولَيسَ العالَمُ الفَوقِيْ سِوى السُفليْ
ماءٌ مازجتهُ النّارْ
فبِالحِيرَةْ نَرَى الأَشياءْ
المَفْصُولُ مُتَصِلٌ والمَوصُولُ مُنفَصِلُ
"أَلا فالتُكسَر الجُدرانْ"
 
إنَّ القَلبَ ماءٌ مازَجتهُ النّارْ
مُحْتَرِقاً بِنارِ الفِكرْ
لَيْسَ لَهُ دِيْارٌ يَستَقِرُ بِها
ولِلإيمانِ أَلْوانٌ رَمادِيةْ
قالَتْ حِكمةُ الأَزْمانْ:
"أَتَحْسَبُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغيْرْ" وَفيكَ وَفيكَ وَفيكَ الإلهْ
أَنتَ المُطلقُ الأَوحَدْ
وَرُوحُ الكَونِ ساريةٌ في بَدَنِكْ
بِقَلبِكَ تَسكُنُ الأَرواحْ
أَنْتَ المُطلقُ الأَوحَدْ
فَهَلْ تَقنَعْ بِالنِسبي؟
"ألا فالتكسر الجدران"
 
فأَنْا هُوَ وَهُوَ أَنْا وَأَنْا أَنْا وَهُوَ هُوَ
عَرَفْتُ الآنَ مَعنايَ ومَعناهُ
بَعِيدٌ عَنكَ قَدْ ظَنّوا
قَريبٌ مِنكَ لَو عَرِفوا
كَساقِ الوَردِ مُنقَطِعٌ عَنْ الأَغيارْ
"رِجالُ الدينِ والدَولةْ والتُجّارْ"
مُتَّصِلٌ بِحَبْلِكَ أَنتْ
أَنْتَ المُطلَقُ الأَوحَدْ
فَلَوْ عَرَفوكَ ما لَبِسوا عِمامَتَهُم, وَما سَرَقوكْ,
وَ ما قالوا بِأنَّكَ مُلكَهُمْ يَوماً, وَما حَجَبُوكَ عَنْ خَلقِكْ.
"أَلا فالتُكسَر الجُدرانْ"
 
فَصَحويْ الآنَ مُلتَبِسٌ مَعَ السُكرِ
أُجيدُ النُطقَ لكِنّي مُنصَرفٌ عَنْ النُطقِ
أُحِبُّ السُّكْر لأنَّ الصّحوَ فيْ سُكْريْ
وَلَيسَ السُكْر إلا فُرقَةَ الجَسّدِ
فَخُذْ جَسَديْ
وَاِفْتَحنِيْ عَلى العالَمَينْ
فَلَيْسَ القَلبْ سِوى جِسرٌ
بُطَينٌ أَيسَرٌ لِلأَرضْ
بُطَينٌ أَيمَنٌ لِلنَبضْ
ماءٌ مازَجَتهُ النّارْ
"أَلا فالتُكسَر الجُدرانْ"
 
فَدَعْ سُكْرِيْ وحَلِلْ جِسمِيْ الإنْسيْ
خُذْ روحيْ وَدَعْ قَلبيْ يُحَلِقُ فِيكْ
أَنْتَ المُطْلقُ الأَوحَدْ
فَسِرْ نَحويْ أَسِر نَحوَكْ
لا إيمانْ يَقنَعُنيْ
فَبِالحِيرَةْ نَرى الأَشيْاءْ
كُلُّ الكَونِ مُتَصِلٌ وَكُلُّ الكَونِ مُنفَصِلٌ
أَنتَ الّذيْ بِنِسبَةِ إيمانِنْا تُرى
وَبِما حَمَلنا لَكَ فيْ قُلُوبِنْا تَتَجَلّى
فَكُنْ حَجَرَاً تَكُنْ حَجَرَاً
وَكُنْ شَمْساً وَكُنْ رُوحاً تَكُنْ طَيراً
يُحَلِّقُ في سَماءَ الوَجدْ
وَكُنْ لاشَيءَ كُنْ عَدماً تّكُنْ عَدَماً
يُجَلجِلُ عَطفَ ناقُوسِ القِلوبِ هَواكْ
قالَ رِياضُ النُعماني: "إلَهيْ أَنقذنيْ
لا أَحْتَملَ الدُلَّ
وَأَنتَ تُطيلُ دَلالَكَ فِيّ"
يا سِربَ حَمامْ
يا غَيمَةً بَيضاءْ
يا نَجماً
ويا شَجَرَاً
وَإنّ كُنتُّ بَلا كأسٍ
فهذا السُكْرُ في صَحويْ
وهذا الصَحْو في سُكريْ
ماءٌ مازجتهُ النّارْ
 
 


في عيد أمي








يقولون "صلي لروح الإله" يا أمي
و أي صلاةٍ تُغذي الكونَ غير صلاتكِ؟
حملتيني تسعاً
فأي صلاة أفضل من صلاتك؟
وحولين ثدي الجنان يغذي روحي
فأي صلاة أفضل من صلاتكِ؟

كبرت قليلاً
تعلمت كيف أقرأ حرفاً
وأحملُ قلماً
فقبل الرحيل صباحاً
تقومي لتصنعي خبزاً وجبناً
فأي صلاةٍ أفضلَ من صلاتكِ؟

وحين مرضتُ
آهٍ حينَ مرضتُ
كنتِ أنتِ دواءً لوجعي
وحمّى الليل لا تهدأ
سوى لأن يديكِ تمسح عيني
فأي صلاة أفضل من صلاتكِ؟

وحين كَبُرتً
وحان يومُ زِفافي
بكيتي؟! فرحتي؟! لم أعرف!
شُعورُ الأُمِ هذا اليوم لا يوصف
وما للسعادة غير البكاءِ معنىً يُعَرِّفُها
فأيّ بُكاءٍ أجملُ مِنْ بُكائِكِ

كبرت أكثر
وأكثر وأكثر
ولا زلت طفلا بعينيكِ أمّي

وحين أغيب
يطول الغياب
تحنين لي
ويقلق قلبكِ
قبل قلوب الناس جميعاً

فأي صلاة تغذي الكون غير صلاتكِ؟
وأيّ إلهٍ أجملُ مِنْ ذاك الذي حلّ بذاتكْ؟


... كتبت في 21 مارس 2014





الثلاثاء، 18 مارس 2014

فلسفة التاريخ عند "كارل ماركس"

كارل ماركس في متحف الشمع


كتب خاليد فؤاد طحطح في كتابه "في فلسفة التاريخ": "لقد بالغت الماركسية في إعطاء الإقتصاد الدور المسيطر في حركة التاريخ، وتجاهلت التأثيرات الروحية الكبرى في الإنتفاضات الإجتماعية, وبالأخص إذا كانت الآيدلوجيات الدينية هي المحرض الأول"


من خلال هذه الجملة راودتني بعض الأسئلة  ولم أعرف النوم قبل الكتابه: هل يرجع كل من الدين والإخلاق والفكر والفلسفة والثقافة والقانون إلى إنعكاسات للأحوال الإقتصادية والمصالح الطبقية؟ ولماذا إنشغل كارل ماركس بالهم الإقتصادي؟

عدت لأراجع ما كتبه المؤرخ هادي العلوي في مداراته وموجز عن كارل ماركس, حيث يقول: "لا نجد في كتابات ماركس عروضاً مفصلة لماديته التاريخية سوى جذرها الأكبر, العمل الإقتصادي الذي يسير التاريخ. لكن ماركس لم يجعل العامل الإقتصادي حاصراً لحركة التاريخ. وهذا ليس في فلسفته بل في منهجه. ومنهج ماركس غير فلسفته"

من الجدير بالذكر أن كارل ماركس مولود في عائلة يهودية فهو نشأ في بيئة دينية, ودرس الفلسفة المثالية وتأثر بالفيلسوف الألماني جورج هيغل, ومن ثم إنتقل من المثالية إلى المادية فأسس المنهج المادي لنظريته الثورية.



ما الفرق بين فلسفة ماركس ومنهجه؟



سألني الصديق العزيز محمود الجابري يوما وهو من الأصدقاء الذين أحب التحاور معهم وبالرغم من إختلافنا في بعض الجزئيات إلا أنه قد يتفق معي في النهاية في كثير من الأمور, وأنا أعد إختلافنا إختلاف في النظرة والفهم وليس إختلاف في السلوك فهو يملك قلبا مشاعيا.

سألني: هل الماركسية هي الشيوعية؟


أولا يجب أن نغير الفهم السائد للشيوعية وما يروج له الإعلام الغربي والإعلام الديني, هذا المنهج والسلوك الإنساني الذي لطالما نظرت أنا إليه بأنه فكر يعني الإلحاد وضد الإسلام والدين.

الشيوعية هي منهج ماركس الإجتماعي. ولا علاقة لمنهجه الإجتماعي بفلسفته المادية الصرفة للتاريخ. فيمكن أن يكون الإنسان شيوعيا مؤمنا بالآلهة ووجودها, ويمكن أن يكون الإنسان ماديا ولكنه ليس شيوعيا, ككانط وديكارت ومعظم فلاسفة الغرب.

كلمة الشيوعية هي مشتقه من شيوع الشيء, وقد سعى ماركس في تنظيره للشيوعية الإقتصادية لجعل المال مشاعا بين الناس والفقراء غير محصور في أيدي التجار والمتنفذين بل تكون في يد الدولة وقد وضع شروط لهذه الدولة بأن تكون ملتزمة بالزهد فلا يكفي أن يكون هناك فكرا ومجتمعا مشاعيا بل يجب أن يمتلك الحكام قلبا مشاعيا. وهي ما تسمى بشيوعية القاعدة لا دكتاتورية الحزب والهرمية كما حدث في نهايات الإتحاد السوفيتي على يد ستالين. والشيوعية نقيض الرأسمالية التي تدعو لخصخصة الأملاك والسوق الحر وعولمة الإقتصاد, فبذلك تخرج أموال الدولة من إقتصاد الدولة وسيطرتها إلى إقتصاد السوق العالمي فيحتكرها ويسيطر عليها التجار. وليست الشيوعية أو ما يفضل أن يسميها هادي العلوي المشاعية بِنِدٍّ للدين, بل إن هناك نزعات مشاعية في كل تراث وإن الحرب بين الجشع والإكتناز وبين الإيثار وخدمة الإنسان لهي حرب منذ أزلية الخلق إلى أبديته, ولكن وضعها ماركس في قالب نظري, فإقترنت الشيوعية بالماركسية.

هناك نزعات مشاعية في تراثنا الإسلامي تمثلت في الإمام علي الذي قال في نهج البلاغة: "إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس حتى لا يتسع على الفقير فقره" وتمثلت خارج سلك الخلافة والحكم عند أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعند أقطاب التصوف الإجتماعي الذين قرنوا الحس المشاعي بالثقافة وكمال المعرفة فقالوا: "تُقاس درجة إلتزام المثقف بثقافته بدرجة إلتزامه بالخَلق" ورأينا ذلك الحس عند حكماء الصين, لاوتسه, مونشيوس ,شاو يونغ, وغيرهم. و من جانب آخر هناك نزعات إكتناز وسيطرة وتَمَلُكْ عند حكام الأمويين والعباسيين ما عدا عمر بن عبدالعزيز الذي سعى للإصلاح وقرر أن يترك كل ثروته لمعرفته أن الثري لا يملك وقتا للشعور بجوع الآخرين ومن ثم الإصلاح. ففي القرآن: "إن الإنسان ليطغى إن رآه إستغنى". وعندما جاء أحد الأثرياء إلى المسيح طالبا أن يدخل معه في ملكوت الله (في حركته) طلب منه أن يترك ثروته أولا ومن ثم اللحاق به.

أما الماركسية فهي إندماج معرفي إجتماعي: معرفي مادي مضبوط في فلسفته للطبيعة والوجود والتاريخ. وإجتماعي في حركته المناضلة ضد الفقر والجوع كما ذكرناها، وهذه الحركة لا علاقة لها بالفكر والثقافة الفلسفية بل هي حس إنساني مشترك. من هنا يدمج هادي العلوي صفتي الفيلسوف والحكيم في كارل ماركس وهي نادرا ما تجتمع, فمن يشتغل بهموم المعرفه والعقل ينفصل عن الجانب الإجتماعي في أغلب الأحيان ويركز على الفلسفة. فيصنف العلوي كارل ماركس بأنه من ضنائن الله الذي لا يفضل هو أن يحصرهم في فكر معين ومذهب أو عقيده ولكنهم يجتمعون في السلوك الروحاني فيعرفنا بالشاعر الألماني غوته وإيفار لو يوهانسون والحلاج وحكماء الصين والإسلام.

 

الفلسفة المادية للتاريخ عند كارل ماركس



يعتمد المنهج المادي في التاريخ عند كارل ماركس على التحليل فهو لم يركز على العامل الإقتصادي وحده بل يقرأ كل العوامل فلا يهمل العامل الروحي ولكنه يستنتج في نهاية الأمر شيئا ما, فيعيد كل تلك التشريعات والأديان والإخلاقيات والفلسفات ونشوئها إلى صراع الإنسان الطبقي, فعندما يحلل المؤرخ الماركسي التاريخ الإسلامي مثلا فهو يرجع هذا الحدث التاريخي أو التشريع القانوني للفترة الزمنية التي عاشها هذا التشريع  ويحلل (العلة) السبب المادي والصراع الطبقي للحدث التاريخي الذي أدى إلى (المعلول) التشريع. فمثلا عندما كان النبي محمد في فترة صراع مع وجهاء قريش المتنفذين بالأمول وقبل تأسيس الدولة كان يحتاج لتكافل إجتماعي قوي بين المسلمين فشرع قانون تحريم الكنز {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}. وبعد تأسيس الدول نسخ تشريع تحريم الكنز بجوازه بهدف النهوض بإقتصاد الدولة وإزدهارها مع فرض ضريبة (الزكاة).

إني في الواقع معجب بهذا المنهج في تحليل التاريخ وفهمه لأنه لا يترك مساحه للغموض والتسليم الغيبي ، ولا يقدس الشخصية أو الفرقة فهو يعلل كيف أدى التناحر المادي والسياسي وكيف نتج من بين حرب الجشع والمشاعية ظهور الفرق الإسلامية والمذاهب. فهوي يعطي نظرة شاملة للأسباب والنتائج المادية وأثرها  في حركة التاريخ. ومن أهم مؤرخينا العرب في هذا المجال هو هادي العلوي و حسين مروة الذي يطلق عليه هادي في كتاباته بـ (الشيخ العلامة). وبالرغم أن هناك من ينتقد ويؤيد هذا المنهج في قراءة التاريخ إلا أني أراه منهج يملك شيء من الصحة الكثير وأميل إليه كون الصراعات الدينية التي نشهدها اليوم بأسم التحريض الديني وغيره من الأمور هي في الواقع ترجع إلى إحتراب سياسي إقتصادي ورغبة في الهيمنة على منافذ القوة والسيطرة الإقتصادية. ولكنه على أي حال لا يمكن معرفة التاريخ الحقيقي في الزمن الماضي فهو يخضع لرؤية وفلسفة وخلفية الإنسان العقائدية، ومن ناحية أخرى لقلبية المؤرخ فليس التاريخ علما صرفا كالكيمياء والرياضيات والفيزياء.

إني أتفق مع هذا الإستنتاج الماركسي في القول بأن حرب الإنسان التي غيرت التاريخ هي حرب طبقية وليست حرب فكرية خالصة, فالدين والإخلاق وحدها لا تغير شيئا إذا جردناها من العمل السياسي.

ولذاك لا يحبذ رجل الدين الفصل بين الدين والسياسة فالدين يكون مغزى ووسيلة لتعزيز آيدلوجية الصراع الطبقي، والعمل السياسي هو في والواقع صراع طبقي يهدف للسيطرة والتحكم في الحياة المادية والنفوذ.

لهذا يقول هادي العلوي: "لم يكن ماركس ينظر للإنسان بوصفه بهيمة بل كائن مادي روحي. لكن تجريد الإنسان من حاجاته المادية على يد سلطة الدولة وسلطة المال جعل ماركس يركز على هذه الحاجات أولاً. وهذا هو الأمر المشترك مع ضنائن الله كلهم: التفكير في حرمان الناس من حاجاتهم والنضال لإشباعها. وهم لذلك لا يمحضون الحاجات الروحية لعامة الناس".



الماركسية والدين؟



"الدين أفيون الشعوب"
هذه مقولة لطالما رددها رجال الدين على المنابر وإتخذوها كمقولة عار على الماركسية, فقد كانوا يجدون في المنهج الإجتماعي الذي قدمه ماركس مبارزا في شعارات المساواة الإجتماعية والتقسيم العادل للثروات، إن كارل ماركس ليس الفيلسوف المادي الوحيد بل هناك ديكارت الأكثر عداوة وتمجيدا للعقل وكذلك معظم فلاسفة التنوير الفرنسي, ولكن إهتمام ماركس بالجانب الإجتماعي البارز كان يشكل مخاوف إذ أنه وفي الستينات إلى سبيعنات القرن المنصرم كانت المنافسة الأشد بين حركات النضال الإشتراكي والدينيين. وهم لا يذكرون هذا المنهج الإنساني عند ماركس بل يركزوا على عداء الفلسفة المادية للدين, فإن كلمته "إن أصل الدين يدعو للبساطة" لا تذكر على أي لسان.

كانت مقولة "الدين أفيون الشعوب" نتيجة لذلك الدين الذي يسيطر عليه الأكليروس، حيث كان يتعاون مع سلطة الدولة والبرجوازيين ضد الطبقة العاملة. أما كلمته "أصل الدين الدعوة إلى البساطة" فهو كان يقصد المسيح، ،وليس الكهنة المسيحيين في عصر ماركس كالمسيح.

فالماركسية حاربت دين الأكليروس الذي يستغل الناس ولم تحارب دين ثورات الانبياء على الظلم، ولكن الفلسفة المادية بطبيعتها تصطدم مع فلسفة الدين للوجود.


مصادر متّبعة في كتابه هذا المقال:

في فلسفة التاريخ / خاليد فؤاد طحطح
مدارات صوفية / هادي العلوي

السبت، 15 مارس 2014

الأورومركزية الإقصائية من هيغل إلى هتلر



تقوم فلسفة جورج فريدرك هيغل في تطور الحضارات على أن الفكر أساس كل موجود, والأفكار هي التي تسيير التاريخ, وما التاريخ إلا صراع بين فكرة وفكرة أخرى, وقد تخيل هيغل  نهاية التاريخ في المجتمع الحر فكريا, ونتيجة للجانب المثالي في نظريته كثر أنصاره من المفكرين ومنهم المؤرخ الإنجليزي ويلز الذي قال: "تاريخ الإنسانية يكمن في التاريخ الجوهري للأفكار".

بينما يرى كارل ماركس الذي يصف هيغل بالمعلم ويقول في كتابه رأس المال "إنني لست سوى تلميذا لهذا المفكر العملاق"
لقد وجد كارل ماركس الديالكتيك في فلسفة هيغل فأعجب به, ولكنه وجده مثاليا يتحدث عن صراع الأفكار, فأخذ الفكرة وغيْر ميدان الصراع القائم عند هيغل بين الأفكار إلى صراع قائم بين طبقات المجتمع نقالا إياه من مثاليات الفكر إلى إحترابات الواقع, ووجد أن نهاية العالم وسعادته في مجتمع اللاطبقات حيث تسود المساواة وينتهي الجشع ويعيش الإنسان جنة الأرض التي يحلم بها في السماء. وقال بأن القوي إقتصاديا ومن يسيطر على وسائل الإنتاج هو من يسيطر على العالم, وحارب الرأسمالية بشدة لإحتكارها أقتصاد العالم مسببة الجوع والفقر, كما تهيمن اليوم على دول العالم الثالث لإطعام شعوبها.

يؤخذ على هيغل أنه مجّد القومية الألمانية, وكان ذلك نتيجة واقع الظروف التي عاشتها ألمانيا آنذاك وأثرت في عواطف هيغل حيث كان يرى وطنه مشتتا وموزعا بين الإقطاعيين, ومهددا من القوى الخارجية. ودعوته تلك لتمجيد الحضارة الجرمانية هي البداية التي سيطورها بعد ذلك أدولف هتلر (1889-1945) القائد الألماني وزعيم الحزب الإشتراكي الوطني الذي إشتهر فيما بعد بالحزب النازي, وهي تقوم على فكرة ساذجة في الأصل ذات نزوع عنصري كبير, فكرة تفوق الجنس الآري الجرماني على باقي الأجناس الأخرى التي أنجبتها الطبيعة " الشعب الأري فوق الجميع لذلك يجب الحفاظ على نقاوته", من هذه الجملة ينطلق هتلر ليمنع زواج الألمان من أجناس أخرى حتى لا يختلط دمهم النقي بدماء الأجناس الأخرى الفاسدة.

وعندما قرأت هذا إستذكرت موقف من أحد المواقف عندما تقدم أحد المختلفين معنا عقائديا لطلب إحدى قريباتي فدار حديث مع عائلتي, على كل حال لم يكن حديثي مهما للكبار فهم يؤمنون بما يؤمنون ويتصرفون كما يحبون, لا أجد إلا أختي الكبيرة القريبة من القلب والعقل تسمعني عندما أتكلم وتفهمني قبل أن أتكلم. فقلت إن من تقدم ليطلب يد إمرأة وهو يعلم انها تختلف معه عقائديا لهو إنسان نقي. ولكنه حدثت بعض الأمور التي تحدث دائما في مثل هذه المواقف نتيجة البيئة السلفية التي يعيش فيها مجتمعنا العربي ذو النزوع الطائفي الذي لا يختلف عن النزوع العنصري, تنتهي هذه المواقف في هذا المجتمع عادة بفراق حبيبين، غالبا تكون الحالات المشابهة لهذه محكومة بالنهاية. يحتاج هذا الحب إلى بيئة علمانية بين الحبيبين والعائلة, وإلى حب عميق مضحي ليكلل بالفرح. ما يهمني على أي حال هو إنسان يقدر حقوق الزوجة والمرأة. أما الإعتناق فلا يد لنا فيه إن ورثناه عن أبائنا فهو لا يحدد مدى نقاوتنا الفكرية وإستقامتنا الخُلقية وإنسانيتنا.

لقد قامت النازية وكل فكرة عنصرية  مشابهة على أن البشر لم يُخلقوا من نفس واحدة, بل خُلق قسم منهم وضيعا وآخر رفيعا, وأن هناك أجناس قادرة على صناعة حضارة وأجناس أخرى بطبيعتها غير قادرة على صناعة حضارة. وقد إنتشرت هذه النظرة في أوربا خلال القرن التاسع عشر, وكانت الثورة الصناعية وإنتشارها سببا رئيسيا, إذ ان رغبة الأوربيين في البحث عن سوق خارجية لتصريف فائض الإنتاج وفائض السكان وجلب المواد الأولية من نفط وغاز وغيرها من أهم المحفزات الرئيسية للبحث عن تبريرات منطقية تساعدهم على إستعمار الشعوب الغير أوربية والتغلغل فيها, من قبيل الترويج لبعض المفاهيم كحمل رسالة التقدم من الرجل الأبيض المتنور إلى الرجل المختلف, كتب الفرنسي جوزيف آرثر جوبينو مثلا: "إن التفاوت العنصري كاف لتفسير مصائر الشعوب, حيث تستطيع الأجناس الراقية إحراز التقدم وفي الوقت التي تظل فيه أجناس أخرى كالهنود الحمر الأمريكيين والصينيين مثلا محكومة إجتماعيا وثقافيا بميراثها العنصري". ونجد مقولة اكثر تطرفا للمؤرخ الفرنسي أرنيست رينان: "جنس واحد يلد السادة والأبطال هو الجنس الأوربي, فإذا نزلت بهذا الجنس النبيل إلى مستوى الحضائر التي يعمل بها الصينيون والزنوج فإنه يثور" وقد بالغ بعضهم في حصر الحضارة في الجنس الآري فقط. وهذه هي مركزية الحضارة الأوربية, ما يسميها العلوي في قاموسه (الأورومركزية).

ربما نسي هؤلاء المفكرين والمؤرخين والفلاسفة ماضيهم عندما كانوا يركعون أمام أباطرة الرومان لسنين في حالة من الإذلال والإستعباد, يُلعب بهم كالدمى في ساحة روما فيموت من يموت ومن يفوز يُكافئ بأن يكون على قيد الحياة. وربما نسي ؤلائك أنهم في فترة من التاريخ كانوا من أكثر الأمم تراجعا في حين كان العرب يؤسسون حضارتهم. وأين هم في بداية التاريخ عندما سجلت الحضارة السومرية تاريخها على رقوق من الطين؟ وما يحزن أن جمع من مثقفينا المحسوب على الثقافة يتشدقون بمثل هذه الكلمات فينكروا كل ما هو في تاريخهم العربي. وتاريخ الأمم الأخرى. مدافعين عن كل ماهو أوربي وكأن أوربا هي جنة الأرض ومفكريها هم ما يستحق أن يذكر على كل لسان.



يذكر د. حسين مؤنس في كتابه الحضارة (دراسة في أصول قيامها وتطورها)


 "ومن أكثر القائلين بهذا الرأي هم من أهل الغرب, ومن المؤسف أن إبن خلدون في زمرة هؤلاء, فيربط بين الخصائص الخَلقية والخُلقية ويقول بأن هناك أجناس مخصوصة بالتقدم (أهل المناطق المعتدلة) وأجناس أقرب إلى البهائم لا تتقدم قط".

من وجهة نظر حسين مؤنس الحضارة ظاهرة إنسانية محكومة بالطبيعة ومناخها:

"والذي يحدث هو أن تمر على شعب من الشعوب ظروف تدفع به إلى التحرك, والخروج من سكون البداوة إلى حركة الحضارة, وتكون هذه الظروف من صنع الطبيعة, فهناك ظروف مواتيه وظروف غير مواتية لقيام الحضارات وتطورها فهناك حضارات كثيرة قامت ثم توقفت في مكانها دون تقدم, لأن الظروف التي قامت فيها تغيرت, أو لم تسمح بالتقدم إلا بذلك القدر اليسير أو لأن الجماعة لم تجد ما يحفزها على متابعة التقدم, وهذا هو حال بعض الجماعات في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا وأستراليا وغابات الأمزون, فهذه كلها تعيش عصور ما قبل التاريخ, لأن البيئة الجغرافية وفرت لها المأوى والطعام, ثم أن الرطوبة والحرارة الزائدتين عن الحد تحددان القدرة التي يستطيع أن يبذلها الإنسان من مجهود, وفي أحيان كثيرة نجد أن الجماعات البدائية كبلت نفسها بقيود سياسية أو إجتماعية أو دينية, حبستها داخل إطار فأصبحت كالدودة التي تتحول إلى شرنقة".

من الجدير بالذكر انه ما من حضارة نشأت في حالة إنغلاق فكري, كان الإسلام الكلاسيكي تعدديا ومنفتحا وكان يشمل الفقه والتصوف والفلسفة وعلم الكلام قبل أن يغدو على ما غدا إليه متحجرا متقوقعا في الطائفة والفرقة الناجية.

 

 

إنتقال الحضارات عند هادي العلوي

 
"الحضارات لا تسقط وإنما تنتقل في المكان. ولو تحدثنا عن سقوط الحضارات كما يتحدث كتابنا لكان علينا أن نبحث عن الحضارة الحديثة وأين هي الآن. إن ما يسمونه سقوط الحضارة هو توقفها في المكان الذي نشأت فيه وتحركها في مكان آخر. وقد تتسلسل الحضارات في موقع واحد كما حصل لحضارات وادي الرافدين (السومرية-الأكدية-البابلية). وفيما يخص حضارة الإسلام فقد جاءت في فترة توقف حضاري عمت منطقة الهلال الخصيب بعد إنتهاء العصر البابلي الأخير في القرن الخامس الميلادي. ومن حيث أوربا كانت فترة توقف بعد إنتهاء عصر الحضارة الرومانية ودخول القارة في ظلام قرونها الوسطى. وإستلم المسلمون الإرث السامي مع إرث اليونان والفرس والهنود ليصنعو حضارتهم الإسلامية. ولما توقف مد الحضارة الإسلامية كانت منجزاتها قد إنتقلت إلى أوربا. وبينما نسي المسلمون علماءهم وفلاسفتهم كان الأوربي يدرس ويطور. وبينما كان المثقف الأوربي يتباهى بالإنتساب إلى ابن رشد كان ابن رشد شبه مجهول في العهد العثماني. وهكذا لم تسقط حضارة الإسلام ولم تفشل وإنما غيرت موطنها".


 

فلسفة الحضارة عند توينبي

 
تعد فلسفة أرنولد توينبي عن تطور الحضارة وإنهيارها من أهم الفلسفات التي ظهرت في القرن العشرين والتي يعتد بها الكثير من الباحثين, وهي لا تعتمد على العامل الجغرافي للطبيعة فقط, بل ذهبت لأبعد من ذلك حيث قالت بأن إزدهار الحضارة وإنهيارها يعتمد على عامل التحدي والإستجابه, وهي نظرية تقوم على أمثلة ودعائم تاريخية.
 
تقول نظرية الإستجابة والتحدي: "إن الحضارات تنشأ نتيجة التحدي الذي تفرضه الطبيعة التي تضع الإنسان دائما أمام تحديات جديدة غير متوقعة تخلقها خلقا, مثل الهجرات التي كان سببها الجفاف, وقد يكون التحدي في صورة غزو أو حرب أو تهديد بالإسترقاق"
 
تساؤل: "إن الحضارة لا تنشأ في البيئة السهلة, وإذا كان نهر النيل هو سر قيام الحضارة المصرية الفرعونية القديمة فلماذا لم تنشأ إذن حضارات مماثلة في البيئات المشابهة للبيئة المصرية؟ لماذا لم تنشأ في واد الأردن او حوض الكونغو أو حوض الدانوب مثلا؟ إن السر يكمن في طبيعة التحدي وإسلوب الإستجابة"
 
أمثلة في تاريخ التحدي والإستجابة: "هناك مجموعة من الحضارات والدول نشأت نتاج تحدٍ بشري, فحافز الإستجابه قد يكون نتيجة لضربات خارجية أو داخلية, حيث تنهض هذه التجمعات البشرية للدفاع عن نفسها كرد فعل, فمثلا في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية تمسّكَ السكان بالثورة الجديدة والنظام الديني الجديد أمام تحدي الثقافة الإغريقية بعد الإحتلال اليوناني للمنطقة ثم الروماني.
 
كما كان لجوء الزنوج الأمريكيين للمسيحية ردا طبيعيا على العنصرية والرق الممارس عليهم من قبل الإنسان الأوربي الأبيض, ذلك أنهم رأوا في يسوع رسالة من الله لكافة البشرية لإعلاء صوت المستضعفين لا تعزيز مراكز الأقوياء ومساندتهم.
 
كما أن إغتصاب اليهود لأرض فبسطين نتيجة لتشتتهم وتجمعهم فيها ناتج عن تحدي التشتت وتأسيس الموطن القديم الذي كانوا يعيشون فيه, ويشكل وجودهم تحديا دائما للعرب سيثير فيهم يوما إرادة الإستجابة الذي يترتب عليه تشتت اليهود مرة أخرى وخروجهم من فلسطين"
 
 
هذا ما تنبأ به توينبي فمتى يتحقق هذا النبأ العظيم!
 
 
 



المصادر المتبعة في كتابة هذا المقال:

في فلسفة التاريخ / خاليد فؤاد طحطح
د. حسين مؤنس / الحضارة, دراسة في أصول قيامها وتطورها
هادي العلوي / مدارات صوفية