تقوم فلسفة جورج فريدرك هيغل في تطور الحضارات على أن الفكر أساس كل موجود, والأفكار هي التي تسيير التاريخ, وما التاريخ إلا صراع بين فكرة وفكرة أخرى, وقد تخيل هيغل نهاية التاريخ في المجتمع الحر فكريا, ونتيجة للجانب المثالي في نظريته كثر أنصاره من المفكرين ومنهم المؤرخ الإنجليزي ويلز الذي قال: "تاريخ الإنسانية يكمن في التاريخ الجوهري للأفكار".
بينما يرى كارل ماركس الذي يصف هيغل بالمعلم ويقول في كتابه رأس المال "إنني لست سوى تلميذا لهذا المفكر العملاق"
لقد وجد كارل ماركس الديالكتيك في فلسفة هيغل فأعجب به, ولكنه وجده مثاليا يتحدث عن صراع الأفكار, فأخذ الفكرة وغيْر ميدان الصراع القائم عند هيغل بين الأفكار إلى صراع قائم بين طبقات المجتمع نقالا إياه من مثاليات الفكر إلى إحترابات الواقع, ووجد أن نهاية العالم وسعادته في مجتمع اللاطبقات حيث تسود المساواة وينتهي الجشع ويعيش الإنسان جنة الأرض التي يحلم بها في السماء. وقال بأن القوي إقتصاديا ومن يسيطر على وسائل الإنتاج هو من يسيطر على العالم, وحارب الرأسمالية بشدة لإحتكارها أقتصاد العالم مسببة الجوع والفقر, كما تهيمن اليوم على دول العالم الثالث لإطعام شعوبها.
يؤخذ على هيغل أنه مجّد القومية الألمانية, وكان ذلك نتيجة واقع الظروف التي عاشتها ألمانيا آنذاك وأثرت في عواطف هيغل حيث كان يرى وطنه مشتتا وموزعا بين الإقطاعيين, ومهددا من القوى الخارجية. ودعوته تلك لتمجيد الحضارة الجرمانية هي البداية التي سيطورها بعد ذلك أدولف هتلر (1889-1945) القائد الألماني وزعيم الحزب الإشتراكي الوطني الذي إشتهر فيما بعد بالحزب النازي, وهي تقوم على فكرة ساذجة في الأصل ذات نزوع عنصري كبير, فكرة تفوق الجنس الآري الجرماني على باقي الأجناس الأخرى التي أنجبتها الطبيعة " الشعب الأري فوق الجميع لذلك يجب الحفاظ على نقاوته", من هذه الجملة ينطلق هتلر ليمنع زواج الألمان من أجناس أخرى حتى لا يختلط دمهم النقي بدماء الأجناس الأخرى الفاسدة.
وعندما قرأت هذا إستذكرت موقف من أحد المواقف عندما تقدم أحد المختلفين معنا عقائديا لطلب إحدى قريباتي فدار حديث مع عائلتي, على كل حال لم يكن حديثي مهما للكبار فهم يؤمنون بما يؤمنون ويتصرفون كما يحبون, لا أجد إلا أختي الكبيرة القريبة من القلب والعقل تسمعني عندما أتكلم وتفهمني قبل أن أتكلم. فقلت إن من تقدم ليطلب يد إمرأة وهو يعلم انها تختلف معه عقائديا لهو إنسان نقي. ولكنه حدثت بعض الأمور التي تحدث دائما في مثل هذه المواقف نتيجة البيئة السلفية التي يعيش فيها مجتمعنا العربي ذو النزوع الطائفي الذي لا يختلف عن النزوع العنصري, تنتهي هذه المواقف في هذا المجتمع عادة بفراق حبيبين، غالبا تكون الحالات المشابهة لهذه محكومة بالنهاية. يحتاج هذا الحب إلى بيئة علمانية بين الحبيبين والعائلة, وإلى حب عميق مضحي ليكلل بالفرح. ما يهمني على أي حال هو إنسان يقدر حقوق الزوجة والمرأة. أما الإعتناق فلا يد لنا فيه إن ورثناه عن أبائنا فهو لا يحدد مدى نقاوتنا الفكرية وإستقامتنا الخُلقية وإنسانيتنا.
لقد قامت النازية وكل فكرة عنصرية مشابهة على أن البشر لم يُخلقوا من نفس واحدة, بل خُلق قسم منهم وضيعا وآخر رفيعا, وأن هناك أجناس قادرة على صناعة حضارة وأجناس أخرى بطبيعتها غير قادرة على صناعة حضارة. وقد إنتشرت هذه النظرة في أوربا خلال القرن التاسع عشر, وكانت الثورة الصناعية وإنتشارها سببا رئيسيا, إذ ان رغبة الأوربيين في البحث عن سوق خارجية لتصريف فائض الإنتاج وفائض السكان وجلب المواد الأولية من نفط وغاز وغيرها من أهم المحفزات الرئيسية للبحث عن تبريرات منطقية تساعدهم على إستعمار الشعوب الغير أوربية والتغلغل فيها, من قبيل الترويج لبعض المفاهيم كحمل رسالة التقدم من الرجل الأبيض المتنور إلى الرجل المختلف, كتب الفرنسي جوزيف آرثر جوبينو مثلا: "إن التفاوت العنصري كاف لتفسير مصائر الشعوب, حيث تستطيع الأجناس الراقية إحراز التقدم وفي الوقت التي تظل فيه أجناس أخرى كالهنود الحمر الأمريكيين والصينيين مثلا محكومة إجتماعيا وثقافيا بميراثها العنصري". ونجد مقولة اكثر تطرفا للمؤرخ الفرنسي أرنيست رينان: "جنس واحد يلد السادة والأبطال هو الجنس الأوربي, فإذا نزلت بهذا الجنس النبيل إلى مستوى الحضائر التي يعمل بها الصينيون والزنوج فإنه يثور" وقد بالغ بعضهم في حصر الحضارة في الجنس الآري فقط. وهذه هي مركزية الحضارة الأوربية, ما يسميها العلوي في قاموسه (الأورومركزية).
ربما نسي هؤلاء المفكرين والمؤرخين والفلاسفة ماضيهم عندما كانوا يركعون أمام أباطرة الرومان لسنين في حالة من الإذلال والإستعباد, يُلعب بهم كالدمى في ساحة روما فيموت من يموت ومن يفوز يُكافئ بأن يكون على قيد الحياة. وربما نسي ؤلائك أنهم في فترة من التاريخ كانوا من أكثر الأمم تراجعا في حين كان العرب يؤسسون حضارتهم. وأين هم في بداية التاريخ عندما سجلت الحضارة السومرية تاريخها على رقوق من الطين؟ وما يحزن أن جمع من مثقفينا المحسوب على الثقافة يتشدقون بمثل هذه الكلمات فينكروا كل ما هو في تاريخهم العربي. وتاريخ الأمم الأخرى. مدافعين عن كل ماهو أوربي وكأن أوربا هي جنة الأرض ومفكريها هم ما يستحق أن يذكر على كل لسان.
يذكر د. حسين مؤنس في كتابه الحضارة (دراسة في أصول قيامها وتطورها)
"ومن أكثر القائلين بهذا الرأي هم من أهل الغرب, ومن المؤسف أن إبن خلدون في زمرة هؤلاء, فيربط بين الخصائص الخَلقية والخُلقية ويقول بأن هناك أجناس مخصوصة بالتقدم (أهل المناطق المعتدلة) وأجناس أقرب إلى البهائم لا تتقدم قط".
من وجهة نظر حسين مؤنس الحضارة ظاهرة إنسانية محكومة بالطبيعة ومناخها:
"والذي يحدث هو أن تمر على شعب من الشعوب ظروف تدفع به إلى التحرك, والخروج من سكون البداوة إلى حركة الحضارة, وتكون هذه الظروف من صنع الطبيعة, فهناك ظروف مواتيه وظروف غير مواتية لقيام الحضارات وتطورها فهناك حضارات كثيرة قامت ثم توقفت في مكانها دون تقدم, لأن الظروف التي قامت فيها تغيرت, أو لم تسمح بالتقدم إلا بذلك القدر اليسير أو لأن الجماعة لم تجد ما يحفزها على متابعة التقدم, وهذا هو حال بعض الجماعات في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا وأستراليا وغابات الأمزون, فهذه كلها تعيش عصور ما قبل التاريخ, لأن البيئة الجغرافية وفرت لها المأوى والطعام, ثم أن الرطوبة والحرارة الزائدتين عن الحد تحددان القدرة التي يستطيع أن يبذلها الإنسان من مجهود, وفي أحيان كثيرة نجد أن الجماعات البدائية كبلت نفسها بقيود سياسية أو إجتماعية أو دينية, حبستها داخل إطار فأصبحت كالدودة التي تتحول إلى شرنقة".
من الجدير بالذكر انه ما من حضارة نشأت في حالة إنغلاق فكري, كان الإسلام الكلاسيكي تعدديا ومنفتحا وكان يشمل الفقه والتصوف والفلسفة وعلم الكلام قبل أن يغدو على ما غدا إليه متحجرا متقوقعا في الطائفة والفرقة الناجية.
إنتقال الحضارات عند هادي العلوي
"الحضارات لا تسقط وإنما تنتقل في المكان. ولو تحدثنا عن سقوط الحضارات كما يتحدث كتابنا لكان علينا أن نبحث عن الحضارة الحديثة وأين هي الآن. إن ما يسمونه سقوط الحضارة هو توقفها في المكان الذي نشأت فيه وتحركها في مكان آخر. وقد تتسلسل الحضارات في موقع واحد كما حصل لحضارات وادي الرافدين (السومرية-الأكدية-البابلية). وفيما يخص حضارة الإسلام فقد جاءت في فترة توقف حضاري عمت منطقة الهلال الخصيب بعد إنتهاء العصر البابلي الأخير في القرن الخامس الميلادي. ومن حيث أوربا كانت فترة توقف بعد إنتهاء عصر الحضارة الرومانية ودخول القارة في ظلام قرونها الوسطى. وإستلم المسلمون الإرث السامي مع إرث اليونان والفرس والهنود ليصنعو حضارتهم الإسلامية. ولما توقف مد الحضارة الإسلامية كانت منجزاتها قد إنتقلت إلى أوربا. وبينما نسي المسلمون علماءهم وفلاسفتهم كان الأوربي يدرس ويطور. وبينما كان المثقف الأوربي يتباهى بالإنتساب إلى ابن رشد كان ابن رشد شبه مجهول في العهد العثماني. وهكذا لم تسقط حضارة الإسلام ولم تفشل وإنما غيرت موطنها".
فلسفة الحضارة عند توينبي
تعد فلسفة أرنولد توينبي عن تطور الحضارة وإنهيارها من أهم الفلسفات التي ظهرت في القرن العشرين والتي يعتد بها الكثير من الباحثين, وهي لا تعتمد على العامل الجغرافي للطبيعة فقط, بل ذهبت لأبعد من ذلك حيث قالت بأن إزدهار الحضارة وإنهيارها يعتمد على عامل التحدي والإستجابه, وهي نظرية تقوم على أمثلة ودعائم تاريخية.
تقول نظرية الإستجابة والتحدي: "إن الحضارات تنشأ نتيجة التحدي الذي تفرضه الطبيعة التي تضع الإنسان دائما أمام تحديات جديدة غير متوقعة تخلقها خلقا, مثل الهجرات التي كان سببها الجفاف, وقد يكون التحدي في صورة غزو أو حرب أو تهديد بالإسترقاق"
تساؤل: "إن الحضارة لا تنشأ في البيئة السهلة, وإذا كان نهر النيل هو سر قيام الحضارة المصرية الفرعونية القديمة فلماذا لم تنشأ إذن حضارات مماثلة في البيئات المشابهة للبيئة المصرية؟ لماذا لم تنشأ في واد الأردن او حوض الكونغو أو حوض الدانوب مثلا؟ إن السر يكمن في طبيعة التحدي وإسلوب الإستجابة"
أمثلة في تاريخ التحدي والإستجابة: "هناك مجموعة من الحضارات والدول نشأت نتاج تحدٍ بشري, فحافز الإستجابه قد يكون نتيجة لضربات خارجية أو داخلية, حيث تنهض هذه التجمعات البشرية للدفاع عن نفسها كرد فعل, فمثلا في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية تمسّكَ السكان بالثورة الجديدة والنظام الديني الجديد أمام تحدي الثقافة الإغريقية بعد الإحتلال اليوناني للمنطقة ثم الروماني.
كما كان لجوء الزنوج الأمريكيين للمسيحية ردا طبيعيا على العنصرية والرق الممارس عليهم من قبل الإنسان الأوربي الأبيض, ذلك أنهم رأوا في يسوع رسالة من الله لكافة البشرية لإعلاء صوت المستضعفين لا تعزيز مراكز الأقوياء ومساندتهم.
كما أن إغتصاب اليهود لأرض فبسطين نتيجة لتشتتهم وتجمعهم فيها ناتج عن تحدي التشتت وتأسيس الموطن القديم الذي كانوا يعيشون فيه, ويشكل وجودهم تحديا دائما للعرب سيثير فيهم يوما إرادة الإستجابة الذي يترتب عليه تشتت اليهود مرة أخرى وخروجهم من فلسطين"
هذا ما تنبأ به توينبي فمتى يتحقق هذا النبأ العظيم!
المصادر المتبعة في كتابة هذا المقال:
في فلسفة التاريخ / خاليد فؤاد طحطح
د. حسين مؤنس / الحضارة, دراسة في أصول قيامها وتطورها
هادي العلوي / مدارات صوفية