كارل ماركس في متحف الشمع |
كتب خاليد فؤاد طحطح في كتابه "في فلسفة التاريخ": "لقد بالغت الماركسية في إعطاء الإقتصاد الدور المسيطر في حركة التاريخ، وتجاهلت التأثيرات الروحية الكبرى في الإنتفاضات الإجتماعية, وبالأخص إذا كانت الآيدلوجيات الدينية هي المحرض الأول"
من خلال هذه الجملة راودتني بعض الأسئلة ولم أعرف النوم قبل الكتابه: هل يرجع كل من الدين والإخلاق والفكر والفلسفة والثقافة والقانون إلى إنعكاسات للأحوال الإقتصادية والمصالح الطبقية؟ ولماذا إنشغل كارل ماركس بالهم الإقتصادي؟
عدت لأراجع ما كتبه المؤرخ هادي العلوي في مداراته وموجز عن كارل ماركس, حيث يقول: "لا نجد في كتابات ماركس عروضاً مفصلة لماديته التاريخية سوى جذرها الأكبر, العمل الإقتصادي الذي يسير التاريخ. لكن ماركس لم يجعل العامل الإقتصادي حاصراً لحركة التاريخ. وهذا ليس في فلسفته بل في منهجه. ومنهج ماركس غير فلسفته"
من الجدير بالذكر أن كارل ماركس مولود في عائلة يهودية فهو نشأ في بيئة دينية, ودرس الفلسفة المثالية وتأثر بالفيلسوف الألماني جورج هيغل, ومن ثم إنتقل من المثالية إلى المادية فأسس المنهج المادي لنظريته الثورية.
ما الفرق بين فلسفة ماركس ومنهجه؟
سألني الصديق العزيز محمود الجابري يوما وهو من الأصدقاء الذين أحب التحاور معهم وبالرغم من إختلافنا في بعض الجزئيات إلا أنه قد يتفق معي في النهاية في كثير من الأمور, وأنا أعد إختلافنا إختلاف في النظرة والفهم وليس إختلاف في السلوك فهو يملك قلبا مشاعيا.
سألني: هل الماركسية هي الشيوعية؟
أولا يجب أن نغير الفهم السائد للشيوعية وما يروج له الإعلام الغربي والإعلام الديني, هذا المنهج والسلوك الإنساني الذي لطالما نظرت أنا إليه بأنه فكر يعني الإلحاد وضد الإسلام والدين.
الشيوعية هي منهج ماركس الإجتماعي. ولا علاقة لمنهجه الإجتماعي بفلسفته المادية الصرفة للتاريخ. فيمكن أن يكون الإنسان شيوعيا مؤمنا بالآلهة ووجودها, ويمكن أن يكون الإنسان ماديا ولكنه ليس شيوعيا, ككانط وديكارت ومعظم فلاسفة الغرب.
كلمة الشيوعية هي مشتقه من شيوع الشيء, وقد سعى ماركس في تنظيره للشيوعية الإقتصادية لجعل المال مشاعا بين الناس والفقراء غير محصور في أيدي التجار والمتنفذين بل تكون في يد الدولة وقد وضع شروط لهذه الدولة بأن تكون ملتزمة بالزهد فلا يكفي أن يكون هناك فكرا ومجتمعا مشاعيا بل يجب أن يمتلك الحكام قلبا مشاعيا. وهي ما تسمى بشيوعية القاعدة لا دكتاتورية الحزب والهرمية كما حدث في نهايات الإتحاد السوفيتي على يد ستالين. والشيوعية نقيض الرأسمالية التي تدعو لخصخصة الأملاك والسوق الحر وعولمة الإقتصاد, فبذلك تخرج أموال الدولة من إقتصاد الدولة وسيطرتها إلى إقتصاد السوق العالمي فيحتكرها ويسيطر عليها التجار. وليست الشيوعية أو ما يفضل أن يسميها هادي العلوي المشاعية بِنِدٍّ للدين, بل إن هناك نزعات مشاعية في كل تراث وإن الحرب بين الجشع والإكتناز وبين الإيثار وخدمة الإنسان لهي حرب منذ أزلية الخلق إلى أبديته, ولكن وضعها ماركس في قالب نظري, فإقترنت الشيوعية بالماركسية.
هناك نزعات مشاعية في تراثنا الإسلامي تمثلت في الإمام علي الذي قال في نهج البلاغة: "إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس حتى لا يتسع على الفقير فقره" وتمثلت خارج سلك الخلافة والحكم عند أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعند أقطاب التصوف الإجتماعي الذين قرنوا الحس المشاعي بالثقافة وكمال المعرفة فقالوا: "تُقاس درجة إلتزام المثقف بثقافته بدرجة إلتزامه بالخَلق" ورأينا ذلك الحس عند حكماء الصين, لاوتسه, مونشيوس ,شاو يونغ, وغيرهم. و من جانب آخر هناك نزعات إكتناز وسيطرة وتَمَلُكْ عند حكام الأمويين والعباسيين ما عدا عمر بن عبدالعزيز الذي سعى للإصلاح وقرر أن يترك كل ثروته لمعرفته أن الثري لا يملك وقتا للشعور بجوع الآخرين ومن ثم الإصلاح. ففي القرآن: "إن الإنسان ليطغى إن رآه إستغنى". وعندما جاء أحد الأثرياء إلى المسيح طالبا أن يدخل معه في ملكوت الله (في حركته) طلب منه أن يترك ثروته أولا ومن ثم اللحاق به.
أما الماركسية فهي إندماج معرفي إجتماعي: معرفي مادي مضبوط في فلسفته للطبيعة والوجود والتاريخ. وإجتماعي في حركته المناضلة ضد الفقر والجوع كما ذكرناها، وهذه الحركة لا علاقة لها بالفكر والثقافة الفلسفية بل هي حس إنساني مشترك. من هنا يدمج هادي العلوي صفتي الفيلسوف والحكيم في كارل ماركس وهي نادرا ما تجتمع, فمن يشتغل بهموم المعرفه والعقل ينفصل عن الجانب الإجتماعي في أغلب الأحيان ويركز على الفلسفة. فيصنف العلوي كارل ماركس بأنه من ضنائن الله الذي لا يفضل هو أن يحصرهم في فكر معين ومذهب أو عقيده ولكنهم يجتمعون في السلوك الروحاني فيعرفنا بالشاعر الألماني غوته وإيفار لو يوهانسون والحلاج وحكماء الصين والإسلام.
الفلسفة المادية للتاريخ عند كارل ماركس
يعتمد المنهج المادي في التاريخ عند كارل ماركس على التحليل فهو لم يركز على العامل الإقتصادي وحده بل يقرأ كل العوامل فلا يهمل العامل الروحي ولكنه يستنتج في نهاية الأمر شيئا ما, فيعيد كل تلك التشريعات والأديان والإخلاقيات والفلسفات ونشوئها إلى صراع الإنسان الطبقي, فعندما يحلل المؤرخ الماركسي التاريخ الإسلامي مثلا فهو يرجع هذا الحدث التاريخي أو التشريع القانوني للفترة الزمنية التي عاشها هذا التشريع ويحلل (العلة) السبب المادي والصراع الطبقي للحدث التاريخي الذي أدى إلى (المعلول) التشريع. فمثلا عندما كان النبي محمد في فترة صراع مع وجهاء قريش المتنفذين بالأمول وقبل تأسيس الدولة كان يحتاج لتكافل إجتماعي قوي بين المسلمين فشرع قانون تحريم الكنز {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}. وبعد تأسيس الدول نسخ تشريع تحريم الكنز بجوازه بهدف النهوض بإقتصاد الدولة وإزدهارها مع فرض ضريبة (الزكاة).
إني في الواقع معجب بهذا المنهج في تحليل التاريخ وفهمه لأنه لا يترك مساحه للغموض والتسليم الغيبي ، ولا يقدس الشخصية أو الفرقة فهو يعلل كيف أدى التناحر المادي والسياسي وكيف نتج من بين حرب الجشع والمشاعية ظهور الفرق الإسلامية والمذاهب. فهوي يعطي نظرة شاملة للأسباب والنتائج المادية وأثرها في حركة التاريخ. ومن أهم مؤرخينا العرب في هذا المجال هو هادي العلوي و حسين مروة الذي يطلق عليه هادي في كتاباته بـ (الشيخ العلامة). وبالرغم أن هناك من ينتقد ويؤيد هذا المنهج في قراءة التاريخ إلا أني أراه منهج يملك شيء من الصحة الكثير وأميل إليه كون الصراعات الدينية التي نشهدها اليوم بأسم التحريض الديني وغيره من الأمور هي في الواقع ترجع إلى إحتراب سياسي إقتصادي ورغبة في الهيمنة على منافذ القوة والسيطرة الإقتصادية. ولكنه على أي حال لا يمكن معرفة التاريخ الحقيقي في الزمن الماضي فهو يخضع لرؤية وفلسفة وخلفية الإنسان العقائدية، ومن ناحية أخرى لقلبية المؤرخ فليس التاريخ علما صرفا كالكيمياء والرياضيات والفيزياء.
إني أتفق مع هذا الإستنتاج الماركسي في القول بأن حرب الإنسان التي غيرت التاريخ هي حرب طبقية وليست حرب فكرية خالصة, فالدين والإخلاق وحدها لا تغير شيئا إذا جردناها من العمل السياسي.
ولذاك لا يحبذ رجل الدين الفصل بين الدين والسياسة فالدين يكون مغزى ووسيلة لتعزيز آيدلوجية الصراع الطبقي، والعمل السياسي هو في والواقع صراع طبقي يهدف للسيطرة والتحكم في الحياة المادية والنفوذ.
لهذا يقول هادي العلوي: "لم يكن ماركس ينظر للإنسان بوصفه بهيمة بل كائن مادي روحي. لكن تجريد الإنسان من حاجاته المادية على يد سلطة الدولة وسلطة المال جعل ماركس يركز على هذه الحاجات أولاً. وهذا هو الأمر المشترك مع ضنائن الله كلهم: التفكير في حرمان الناس من حاجاتهم والنضال لإشباعها. وهم لذلك لا يمحضون الحاجات الروحية لعامة الناس".
الماركسية والدين؟
"الدين أفيون الشعوب"
هذه مقولة لطالما رددها رجال الدين على المنابر وإتخذوها كمقولة عار على الماركسية, فقد كانوا يجدون في المنهج الإجتماعي الذي قدمه ماركس مبارزا في شعارات المساواة الإجتماعية والتقسيم العادل للثروات، إن كارل ماركس ليس الفيلسوف المادي الوحيد بل هناك ديكارت الأكثر عداوة وتمجيدا للعقل وكذلك معظم فلاسفة التنوير الفرنسي, ولكن إهتمام ماركس بالجانب الإجتماعي البارز كان يشكل مخاوف إذ أنه وفي الستينات إلى سبيعنات القرن المنصرم كانت المنافسة الأشد بين حركات النضال الإشتراكي والدينيين. وهم لا يذكرون هذا المنهج الإنساني عند ماركس بل يركزوا على عداء الفلسفة المادية للدين, فإن كلمته "إن أصل الدين يدعو للبساطة" لا تذكر على أي لسان.
كانت مقولة "الدين أفيون الشعوب" نتيجة لذلك الدين الذي يسيطر عليه الأكليروس، حيث كان يتعاون مع سلطة الدولة والبرجوازيين ضد الطبقة العاملة. أما كلمته "أصل الدين الدعوة إلى البساطة" فهو كان يقصد المسيح، ،وليس الكهنة المسيحيين في عصر ماركس كالمسيح.
فالماركسية حاربت دين الأكليروس الذي يستغل الناس ولم تحارب دين ثورات الانبياء على الظلم، ولكن الفلسفة المادية بطبيعتها تصطدم مع فلسفة الدين للوجود.
مصادر متّبعة في كتابه هذا المقال:
في فلسفة التاريخ / خاليد فؤاد طحطح
مدارات صوفية / هادي العلوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق