تقديم
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ويـــرى لـلأوائــل التقــــديما
إن ذاك القــــــديم كــان جـديدا وسيغدو هذا الجديـــد قــديما
هل معركة الجديد والقديم مستمرة في حركة
التاريخ؟
ان معركة الجديد والقديم ليست جديدة بل إن
هذا الصراع صراع إنساني منذ نقطة البدء، وهو صراع الأنبياء والمصلحين والفلاسفة
على واقعهم الإجتماعي. واليوم هناك حقيقة علمية في قراءة التاريخ تقول بأن لكل
تجديد ثقافي وفكري تاريخ مادي يسبقه على ارض الواقع, هذا التاريخ بما يحمل من صراع واقعي (سياسي إجتماعي)، فالمعرفة
لا تولد فجأة مع الحدث فالإنسان يكتسب المعرفة من محيطة الخارجي بما فيه من أفكار
وصراعات واقعية. على سبيل المثال, كانت الثورة الإسلامية الاولى تعتبر نقطة البدء
والمفصل الذي غير وجه الإنتاج الأدبي والفكري العربي, والذي كان يسبقه حالة تجديد
وإنتقال مادي من المجتمع القبلي الذي يعتمد نظام الأسياد والعبيد إلى النظام
الإستثماري النقدي في العصر الجاهلي الأخير, ثم الإقطاعي مع بداية العهد العباسي. والصراع
بين الجديد والقديم صراع طويل يبدأ وكأن الغلبة فيه للقديم ومن ثم يتعايش القديم
مع الجديد ومن ثم يفرض الجديد نفسه إذا ما إشتد ساعده في حركة تأبد مستمرة.
وتاريخ الفكر الإسلامي لم يبدأ فجأة مع الثورة وإنما بعدها بقرن تقريبا من الصراع
بين القديم الجاهلي والجديد الإسلامي مكللاً بـ "علم الكلام" في أوائل
العهد الأموي، ومن ثم أنتج لنا الفقه والمذاهب والتصوف، مع الفلسفة ملقحة بالأرث اليوناني.
ونستطيع أن نقول جازمين الآن بأن هذا الصراع
غير ثابت او متوقف بل هو صراع مستمر في حركة التاريخ ما دام الإنسان ينتج معنويا
وماديا وما دام العقل البشري مستمر في التطور والحركة.
أحمد السعيد / يونيو 2014
معركة القديم و الجديد في العصر العباسي
بدأت الدولة العباسية بالتأسس في ثلاثينيات
القرن الثاني الهجري بعد ضعف الدولة الأموية سياسيا وانحلالها، وبعد قرن من الزمن على
التأسيس العباسي دخل الإقطاع على الإستثمار التجاري، وبدأت تأخذ المباني
بالإزدهار.
في هذا الواقع من التحول في نظام المعيشة وكل
حركة الإنتاج المادي، كان لا بد لحركة الأدب أن تتغير وتستجيب، فقد أصبحت هناك
مدرستين "للشعر" أقوى الفنون الأدبية عند العرب؛ مدرسة تقليدية تريد الحفاظ على
النظام التقليدي في بناء القصيدة والتي كانت في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر
الأموي، والتي تبدأ بذكرى الرحيل ووصف الأطلال والإبل ومشاهد الصحراء ثم الدخول
فجأة في الموضوع أياً كان مدحٌ أو رثاءٌ أو غزل.
في الوقت نفسه كان هناك في الكوفة والبصرة
وبغداد التي كانت تضم مختلف العلوم والمنفتحة على الجديد تحاول التمرد؛ فكيف يعبر
الشعر الجديد الحضري بلغة البادية وتراكيبها واساليبها وأوزانها. إن دعاة الجديد
كانوا يشعرون أن حاجات حياتهم وجديدها يتطلب منهم شعرا حضريا يندمج مع الحياة
المستجدة بأفكارها ومعانيها ومشاهدها العمرانية والطبيعية من قصور وحدائق وغناء
ورقص وخمريات...
يذكر المؤرخ وباحث الفلسفة اللبناني حسين مروه
في "تراثنا كيف نعرفه" ما أكدنا عليه في المقدمة: "انه بالرغم من
التحولات السياسية والإجتماعية والفكرية التي حدثت بعد قيام العباسيين، لم يحدث
تطور في الأدب يتناسب مع هذه التحولات إلا بعد إنقضاء وقت طويل, وبعد رسوخ
التغيرات الجديدة في كيان الدولة وفي النظام الإجتماعي وبعد أن أصبحت التحولات
الفكرية جزءاً كيانياً من المجتمع العباسي"
ونجد في تاريخنا المعاصر صراع بين أفكار
تقدمية وأخرى تقليدية، ومن يريد دولة تقليدية ذات نظام عقائدي أو ديني ومن يريد
دولة مدنية يتساوى فيها أصحاب المعتقدات
دون أن يؤثر أي منها على نظام الدولة. إن هذا الجديد في الواقع لم ينتج عبثا أو
فجأة، وإنما نتيجة تجربة وصراع واقعي دام ثلاثين عاما داخل النظام الديني للدولة
الأوربية ذهب ضحيتها الآلاف ولكنها أنتجت رواد العصر الحديث.
إن القديم يتشبث أكثر بالمجتمع المحافظ، كلما
أعلن الجديد عن نفسه، فينذرهم بأن مخالفة القديم إنتهاك للتقاليد الموروثة. وشاء
القديم أو لا فإن الجديد لا بد أن يعاود الظهور حتى يشتد شيئا فشيئا مع حركة
التاريخ وتطوراته الواقعية المادية والفكرية ويبقى القديم شيئا في مخيلة التاريخ. وهؤلاء
المحافظون على الشعر الجاهلي كانوا يجدون في مدرسة اللغويين والنحويين سلاحاً
صارماً مخيفا يسلطونه على رؤوس أنصار الجديد. لأن أصحاب هذه المدرسة ظلوا طوال
العصر العباسي الأول هم المرجع في نقد الأدب، وتبيان الغث منه والجيد.
ويقوم هذا النقد على ركنين فكريين راسخين:
أولهما: الإعتقاد بأفضلية الأدب الجاهلي،
واخلاق الجاهلية، وكل عاداتها وسجاياها وتقاليدها.
وثانيها: أن شعراء الجاهلية لم يُخَلَّوا
معناً شعريا إلا قالوه، فهو شامل ولا يحتاج إلى زيادة أو نقصان.
وهناك وجه آخر من الصراع قد يسميه البعض
إزدواجية والبعض الآخر تقيّة, فهل كان إزدواجيه أم تقيه؟ وهو الصراع الذي يحدث بين
الشاعر ونفسه، لا بين فريق من الشعراء و فريق آخر، فأبو نواس مثلا وأبو تمام من
حاملين لواء الجديد يضطر الواحد منهما أن يجري على لواء القديم ويتغنى بمصطلحات
القديم ولغة البادية أحيانا ليثبت وجوده. وحينا لترضى عنه الفئة الكبيرة من
المجتمع.
ولو إبتعدنا عن الناحية الشعرية وجئنا للعلم
والفكر في العصر العباسي فنرى مثل جابر بن حيان وابن طفيل ممن يهتدون بهدي العقل
والتجربة والمنهج العلمي، يستسلمون فجأة للمعرفة الغيبية الصرفة والحدس النفسي. ذلك
يعود للصراع ليس بين الإنسان ونفسه, بل بين الإنسان وبين علاقاته الإجتماعية وظروف
بيئته, وكان يطغى على أهل العلم والإنتاج سيطرة الدولة العباسية ونظامها الفكري
والعقائدي الذي يفرض القداسة على التفكير والقراءة الإنسانية, فكان المفكر الحر
غالبا ما يتعرض لإرهاب فريق من رجال الدولة النافذين الذين كانوا في الغالب ذوو
رأي مذهبي متصلب يحاربون الآراء العلمية والفكرية والمذهبية الأخرى, ويرينا
التاريخ العباسي كيف أحرق أبو جعفر المنصور أعظاء إبن المقفع في قدر بسبب كتابه
الذي هجاه فيه على لسان الطير والحيوان "كليلة ودمنة" وهي تجربة تقدمية في الهجاء لم يعرفها العرب قبلا، وحرقت كتب إبن
رشد, وحوربَ أبو العلاء المعري الذي لم يكتفي منه التاريخ الإسلامي بل لاحقته
الجماعات المتطرفة في معرة النعمان "أحداث سوريا الأخيرة" فقطعت رأس تمثاله، وبعدها لاحقت أبو تمام في العراق وحطمته إلى جانب التراث الأكدي ..
وهذه هي الرجعية في أقصى درجاتها تصلبا, فماذا ابقى هذا التصلب لنا غير عداءه للتعدد في إرثنا العربي الإسلامي وللثقافة
الإنسانية بشكل عام.
المصدر المتبع في كتابه المقالة:
·
تراثنا كيف نعرفه – حسين مروّة. / الطبعة الأولى 1985 /
مؤسسة الأبحاث العربية للنشر – لبنان / الصفحة: 219 - 231
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق