الأحد، 29 مايو 2016

الأشهر الحُرُم/ قراءات في النزعات

جانب من مناسك الطواف قديماً


الأشهر الحرم هي الأشهر التي حرم فيها العرب القتال وإنتهاك الحرمات. وكانت الظروف التي هيئت لهذا العرف أن الأرستقراطية المتمثلة في تجار قريش وقبائل الحجاز قبل الإسلام قد إستغلت موقعها الاستراتيجي الواصل بين الإمبراطوريتين الرومانية والساسانية المتصارعتين أن وقفت مكة موقف الحياد. وهذا الموقف الحيادي إلى جانب موقع مكة الإستراتيجي كان من مصلحتها، إذ سهل لها ان تكون هي الخط التجاري الواصل بين إمبراطورتي: الروم البيزنطية، والفرس الساسانية. حيث ينقل محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد" بأن هاشم بن عبد مناف قام بعقد معاهدة مع الإمبراطورية الرومانية، وعقد عبد شمس بن عبد مناف معاهدة تجارية مع النجاشي في الحبشة، وعقد نوفل والمطلب بن عبد مناف حلفاً مع فارس.

إلا أن الأوضاع الداخلية في شبه جزيرة العرب كانت لا تزال تخضع للشكل التنظيمي القائم على أساس الصراع القَبَلي، وكان لا بد من وضع أعراف تقوم على تأمين خط التجارة ذاك، والذي كان يستفيد منه فئات كبيرة من سكان المدن والبادية، سواء كانوا ممن يقوم بتأمين القوافل، أو بتشغيل بعضهم كأدِلّاء أو مقدمين خدمات ضرورية على طول الطريق. إضافة لرؤساء القبائل الذين يأخذون الإتاوات والضرائب والهدايا مقابل حماية القوافل التي تمر على حدود جغرافيتهم. فقاموا بتنظيم أسواق موسمية كموسم "الأشهر الحرم".

ينقل الدكتور جواد علي في "تاريخ العرب قبل الإسلام" أن أهل الحجاز في الجاهلية قد قسموا أشهر السنة إلى إثنتي عشر شهراً، أربعة منها سميت بالأشهر الحرم. ثلاثٌ منها متوالية: ذو العقدة، وذو الحجة، ومُحرّم. وشهر منفرد وهو رجب. وقد رتبوا أوقات هذه الأسواق على نحو يضمن لها الهدوء والأمان، لأنهم إعتبروها مقدسة لا يجوز فيها القتال ولا البغي ولا إنتهاك الحرمات. وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش.

وطريق التجارة هذا والمستفيدون منه خلق تمايزاً أجتماعياً كان الأساس هو الآخر في تفكك النظام القبلى القائم على المقايضة ودخول الاقتصاد النقدي الذي هو نمط غريب على أهل الحجاز وخاص بالإقتصادات الكبرى -الإمبراطوريات- وهذا كذلك ما سيُحتم على الثورة القادمة أن تبدأ من مكة القرشية لتسابق هي كذلك الأمبراطوريات العُظمى. وحافظ الإسلام على حرمة هذه الشهور والتي فرضت أن تكون أشهر سِلم: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" حيث ظل ذلك الخط التجاري مصدراً أساسياً لتنمية إقتصاد الدولة الإسلامية

* راجع: حسين مروّة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية، طبعة دار الفارابي-بيروت ٢٠٠٢، ص٢٦٨-٢٧٣

الثلاثاء، 24 مايو 2016

القبيلة-التمايز الطبقي-الصعاليك-الإسلام



تُعَرَّف القبيلة على أنها النظام الإجتماعي القائم على رابطتي الدم والنسب. ونتيجة لهذا النظام كان كلُّ من ينضوي تحت رابطة القبيلة تلك يحضى بجميع ما يحضى به أفرادها من خيرات. وفي الجاهلية الأولى كان المرء يمر على البئر فلا يُقال هذا بئري وإنما يُقال هذا البئر لبني فلان، وذلك المرعى لإبل١  بني فلان. أي مُلك مشاع للقبيلة. ومن رواسب المشاعية البدائية تلك قول النبي محمد: "الماء والكلأ مشاع". أي الماء والعشب لا يباعان ولا يشتريان.٢

وأما العلاقات الإقتصادية فإنها ضمن هذا السياق كانت تأخذ شكل التبادل البضاعي الجماعي. أي بين القبلية والقبيلة الأخرى كوحدتي إنتاج. وكانت البضاعة التي تُقَيَّم بها سائر البضائع هي "الإبل" وهي بضاعة البضائع كما عبر عنها فريدرك إنجلز؛ أي هي وِحدة الإنتاج الحالّة محل النقود. وذلك كان لما تحمله الإبل من مكانة عند أهل البوادي -البدو-.

ولكن التبادل التجاري هذا يحمل في داخلة صيرورة النفي والولادة، نفي نظام الملكية الجماعية، وولادة نظام جديد يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فالقيمة التي حضيت بها الإبل في العصر الجاهلي الأخير كوسيلة إنتاج أساسية في التبادل التجاري جعلت من الأفراد يتسارعون في الإستحواذ عليها. فأصبح يُقال هذه الماشية لفلان، وذاك المرعى لفلان، وأشهر ما يدل على تطور الملكية الخاصة بهذه الصورة ما حدث في أواخر القرن الخامس الميلادي -أي حوالي القرن ونصف القرن قبل الإسلام-٣   نقصد "حرب البسوس" التي كانت نتيجة قيام جساس بن مرة الشيباني بقتل إبن أخته كليب بن ربيعة الذي أدمى ناقة خاله لأنها دخلت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبلهِ.

أما رؤساء القبائل فإنهم علاوة على المكانة الإجتماعية التي كانوا يحضون بها أصبحت لهم مكانة إقتصادية تميزهم على سائر أبناء القبيلة، إذ صاروا يمتلكون خياماً أرفع وأجود قماشاً، ويستحوذون على الكم الأكبر من الماشية، والتي كانت تدر عليهم أموال ومقتنيات وفيرة: كالسجاجيد النفيسة والأواني المعدنية والزجاجية الغالية الأثمان، كذلك أفضل الأسلحة وأسرجة الخيل جراء التواصل التجاري بينهم وبين الإبراطوريتين البيزنطية في الغرب والساسانية -الفارسية-  في الشرق، إضافة لأهل الحواضر الذين كانوا يسكنون الواحات والأماكن المناسبة للزراعة حيث كانوا يتقايضون الفائض منها مع الماشية.

إذن كان من الضرورات الحتمية جراء تطور البنية الإجتماعية بهذا الشكل أن تنشأ إنقسامات أخرى هي أعمق وأشد، فعلاوة على إنقسام شبه جزيرة العرب إلى قبائل أصبح الإنقسام الطبقي القائم على الملكية الخاصة هو العامل الجديد في حركة التاريخ والذي أوجد في كل قبيلة: "مترفون" يقابلهم "فقراء" يعانون الشقاء المادي. حيث ان الإنقسام الطبقي أصدق تعبيرا من الإنقسام القومي والقبلي؛ لأنه المكون الأساس لحاجات الإنسان، وهو الذي أدى لنشوء تحالفات قبلية جديدة قائمة على المصالح التجارية بين الرؤساء وولاءات أخرى إنضمت فيها القبائل الضعيفة إلى القبائل القوية. وإيضاً إلى نشوء ظاهرة الصعلكة التي هي نتيجة مباشرة لهذا التمايز الإقتصادي-الإجتماعي. والصعلكة مشتقة من الصعاليك؛ وهم فئات من الفقراء الذين يعانون الشقاء المادي في قبائلهم فإنسلخوا عنها وتفردوا في الصحراء للغزو والسلب. ويبدو جلياً الآن ما قاله برتراند راسل: "إن أول شرير هو أول من إتخذ قطعة أرض وقال هذا ملكي".

ولنا أن نذكر أشهر شعراء الصعاليك "عروة بن الورد" المتوفي عام ٣٠ قبل الهجرة، والذي عُرف بسطوه على قوافل الأغنياء ليطعم منها الفقراء، حيث قال في أحد أشعاره:
لحى الله صعلوكاً إذا جنَّ ليله      مضى في المشاشِ آلِفاً كلَّ مجزرِ
وهو هنا يصوِّر حالة الصعلوك الذي لا يجد في ليلهِ غير رؤوس العظام يمضغها...

 كل هذه التطورات في القرنين السابقين على الإسلام هو ما سيؤدي إلى نشوء ثورة إجتماعية تغير مجمل تاريخ العرب وهي الثورة الإسلامية بقيادة النبي محمد في مكة، الموقع الإستراتيجي المهم الواصل بين البيزنطيين شمال البحر الأحمر والساسانيين غرب جزيرة العرب. وحسب ما يورد حسين مروّة أن هذه الثورة ليست ثورة غيبية، ليست صدفة من خارج التاريخ، وإنما للمعرفة نحتاج الدخول في صلب البنية الإجتماعية، في داخل حركة التاريخ المادي لشبه الجزيرة العربية أنذاك، وبالتحديد في مكة، وبتحديدٍ أكبر في بني هاشم.



ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) الإبل: هو الجَمَل. وجمعها: آبال
(٢) المشاعية: المرحلة الأولى من الملكية في تاريخ الإنسان حسب التأريخ الماركسي، وتعني الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج
(٣) ينقل حسين مروة أن المصادر الوحيدة التي يمكن أن ندرس فيها العصر الجاهلي قبل الإسلام هو الشعر الجاهلي إذ أن الشعر هذا لا يعبر فقط عن خيالات ومشاعر فردية بل يعبر أيضا في كثير منه عن البنية الإجتماعية والإقتصادية في شبه الجزيرة العربية أنذاك، إلا أن هذه الأشعار أقدمها يعود لقرن ونصف أو قرنين قبل الإسلام. وتبدو المصادر ضعيفة بل غائبة إذا ما أردنا التحدث عن الجاهلية الأولى إلا من خلال الشعر الجاهلي نفسه.


* كانت هذه المقالة إسهاماً أو محاولة لأن تسلط الضوء على تطور البنية الإجتماعية في النظام القبلي ونشوء ظاهرة الصعاليك قبل الإسلام معتمدين على ما ورد في "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" للشهيد حسين مروّة، ولا يسع ان نذكر كل ما ورد في الكتاب من تحليلات وأفكار في مقالة واحدة. راجين ان يكون في الوسع كتابة ملخص بعد الإنتهاء يضم أهم ما ورد فيه إضافة للمنهج الذي يستد عليه الكاتب في قراءة التاريخ.

** راجع: حسين مروّة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، طبعة دار الفارابي - بيروت ٢٠٠٢، ص ٢٤٦ - ٢٥٦ 


الأحد، 8 مايو 2016

مسألة خَلق الإنسان وخَلق الأديان: المثالية - الربوبية - المادية


هناك سؤال وجودي يطرحه يوسف زيدان في منتصف روايته "عزازيل" قائلا: "من خلق من؟  الله خلق الإنسان أم الإنسان خلق الآلهة؟"

تساؤل عميق جداً، هو في جذوره يعبر عن الصراع الفلسفي بين المادية -الفيزيائية-، والمثالية -الميتافيزيائية أوما وراء الطبيعة-. ليس سؤالاً ثانوياً ذاك، بل هو التساؤل الذي يكوّن أبسط قناعاتنا السياسية، السلوكية، الاجتماعية. أما تلك السلطة التي تريد أن تسيطر على فكرك وتجعلك تحت عباءتها الحزبية السياسية فإن مثل هذه الأسئلة بالنسبة لها من المحرمات: "فمن يسبق من: مادة الوجود -الكون- أم روح الوجود -النفس، العقل، الآلهة-"


أعادني لهذا التساؤل في رواية يوسف زيدان ما عبر عنه "بوعلي ياسين" في كتابه الثالوث المحرم نقلا عن الفيلسوف المادي فريدرش أنغلز في حديثه عن نشوء وتطور الدين، قوله: "استقل البناء الفوقي في وعي البشر عن البناء التحتي، وتعاكست الأدوار في وعيهم، إذ أصبح (العقل) أو (الروح) يتحكم بالجسم، وأصبح المخلوق (الآلهة) يتحكم بمصائير الخالقين (البشر).١وهو -بوعلي ياسين- ينقد فكرة الفيلسوف المثالي هيغل حول "ما هو الدين"، هيغل عرّف الدين بأنه: (نظرة إلى الكون وطريقة حياة محددة بالإيمان بوجود إله أو ألوهية، وهو شعور بالإرتباط وبالتبعية وبالإلتزام تجاه قوة غامضة سائدة جديرة بالإجلال). يقول بو علي ياسين هذا التعريف غير مفيد لأنه (مثالي)، ولا يربط بين الشعور والواقع؛ بين النظرة إلى الكون والعلاقات الإجتماعية الإقتصادية التي هي اساس تطور الاديان واختلافها وتعددها".٢


لكن ما يصدم القارئ عبر النظر في تاريخ التساؤل القديم هذا بأنه لم يُطرح فقط بين المثاليين والماديين، بين الفيزيا والميتافيزيا في حروبهم الفلسفية؛ بل طُرح هذا التساؤل من داخل أروقة الروحانية ومن قِبل أكثر الفلاسفة زهداً وورعاً: "هل الإنسان هو من خلق الآلهة عبر التاريخ وطوّر مفاهيم الدين واختلف فيها فتعددت حسب ظروفه، أم أن الآلهة هي التي خلقت البشر ولها دستور مُوحَّد يُخضع بِعِزّتهِ هذا العالم"....

"أبو بكر الرازي" (٢٥٠-٣١١هـ) هو الربوبي الأكبر في الإسلام ويسبقه في هذا المذهب أبيقوروس اليوناني الذي لم ينكر وجود الآلهة ولكنه أنكر أن الأديان تعبّر عن حقيقته، وهو جوهر المذهب الربوبي. وتأتي تلك الفكرة من الرأي القائل: "بأن الإله مطلق -غير محدود وقديم أزلي- والدين -محدود، متعدد ومستحدث-. وحسب المنطق العقلي كيف للمحدود أن يحتوي اللامحدود؟!" فهو -الإله الحق- بهذا المعنى غير معروف لأهل الدين؛ "وإنما يدخل إله الأديان قلب المؤمن لمحدوديته".٣ ففي الربوبية يُنظر للإله كتطلع وجداني روحاني -حق مُشاع- مغاير لإله الأديان، فإله الأديان من خلق الإنسان، والخالق الحق سر خفي مجهول أبداً. كما عبّر الرازي في إحتجاجه: "إن الحكمة كانت تُوجِب أن يكون الإلهام مشاعاً بين الناس حتى يتساووا في المعرفة ويجتنبوا التقليد".٤ وكما عبر إبن عجيبة الحسني في إيقاظ الهمم عن درجات المعرفة الإلهية في قوله: "الشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده".


وقد انتج هذا التوجه بين الرازي واقطاب الصوفية وفلاسفة الاسلام إبداعاً حضارياً هو من روائع الأدب الإنساني، كقول محيي الدين ابن عربي في قصيدته الشهيرة: "وقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ*فمرعى لغزلانٍ وديرٍ لرهبانِ". ووضع عبدالحق ابن سبعين (٦١٤-٦٦٩هـ) كتابه الفلسفي تحت عنوان (بُدُّ العارف) والبُد: هو معبد البوذي. وكأنه يريد أن يقول لا يمكن لأحد منكم أن يمتلك الحقيقة ويحتكرها لنفسه بإسم أي دين كان، فحتى ذلك البوذي يستطيع ادراك المعارف الإلهية التي هي مسألة وجدانية قبل أن تكون دينية. أما إبن الفارض فنادى بوحدة الأديان المطلقة، فمن وجهة نظره الكل متساوون في طلب الحقيقة. وطالب بعدم أخذ من خر للأحجار بالعصبية. فلما كان الحق سبحانه ساريا في كل ذرات الوجود وفاعلا فيها، فلا إنكار عليه إذ يناجي المعنى بتلك الصورة فيه:

وإنْ نارَ بالتَّنزيلِ محرابُ مسجدٍ*فما بارَ بالإنجيلِ هيكلُ بيعة ِ

وأسفارُ تَوراة ِ الكَليمِ لِقَومِهِ*يُناجي بها الأحْبارِ في كُلّ ليلَة ِ

وإن خَرَّ للأحجارِ، في البُدّ عاكِفٌ*فلا وجهُ للإنكارِ بالعصبيَّةِ


هذه كانت بعض التمايزات الفلسفية بين المثالية والمادية والربوبية. ونختم بما قاله الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري:

تجري على رسلها الدنيا ويتبعها*رأيٌ بتعليل مجراها ومعتقدُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١، ٢) الثالوث المحرم (الدين-الجنس-الصراع الطبقي)، بوعلي ياسين، الطبعة السابعة ص١٨

٣) مدارات صوفية، هادي العلوي، الطبعة الأولى ص٨٣

٤) شخصيات غير قلقة في الإسلام، هادي العلوي، الطبعة الرابعة ص٢٢٧