تُعَرَّف القبيلة على أنها النظام الإجتماعي القائم على رابطتي الدم والنسب. ونتيجة لهذا النظام كان كلُّ من ينضوي تحت رابطة القبيلة تلك يحضى بجميع ما يحضى به أفرادها من خيرات. وفي الجاهلية الأولى كان المرء يمر على البئر فلا يُقال هذا بئري وإنما يُقال هذا البئر لبني فلان، وذلك المرعى لإبل
١ بني فلان. أي مُلك مشاع للقبيلة. ومن رواسب المشاعية البدائية تلك قول النبي محمد: "الماء والكلأ مشاع". أي الماء والعشب لا يباعان ولا يشتريان.
٢
وأما العلاقات الإقتصادية فإنها ضمن هذا السياق كانت تأخذ شكل التبادل البضاعي الجماعي. أي بين القبلية والقبيلة الأخرى كوحدتي إنتاج. وكانت البضاعة التي تُقَيَّم بها سائر البضائع هي "الإبل" وهي بضاعة البضائع كما عبر عنها فريدرك إنجلز؛ أي هي وِحدة الإنتاج الحالّة محل النقود. وذلك كان لما تحمله الإبل من مكانة عند أهل البوادي -البدو-.
ولكن التبادل التجاري هذا يحمل في داخلة صيرورة النفي والولادة، نفي نظام الملكية الجماعية، وولادة نظام جديد يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فالقيمة التي حضيت بها الإبل في العصر الجاهلي الأخير كوسيلة إنتاج أساسية في التبادل التجاري جعلت من الأفراد يتسارعون في الإستحواذ عليها. فأصبح يُقال هذه الماشية لفلان، وذاك المرعى لفلان، وأشهر ما يدل على تطور الملكية الخاصة بهذه الصورة ما حدث في أواخر القرن الخامس الميلادي -أي حوالي القرن ونصف القرن قبل الإسلام-٣ نقصد "حرب البسوس" التي كانت نتيجة قيام جساس بن مرة الشيباني بقتل إبن أخته كليب بن ربيعة الذي أدمى ناقة خاله لأنها دخلت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبلهِ.
أما رؤساء القبائل فإنهم علاوة على المكانة الإجتماعية التي كانوا يحضون بها أصبحت لهم مكانة إقتصادية تميزهم على سائر أبناء القبيلة، إذ صاروا يمتلكون خياماً أرفع وأجود قماشاً، ويستحوذون على الكم الأكبر من الماشية، والتي كانت تدر عليهم أموال ومقتنيات وفيرة: كالسجاجيد النفيسة والأواني المعدنية والزجاجية الغالية الأثمان، كذلك أفضل الأسلحة وأسرجة الخيل جراء التواصل التجاري بينهم وبين الإبراطوريتين البيزنطية في الغرب والساسانية -الفارسية- في الشرق، إضافة لأهل الحواضر الذين كانوا يسكنون الواحات والأماكن المناسبة للزراعة حيث كانوا يتقايضون الفائض منها مع الماشية.
إذن كان من الضرورات الحتمية جراء تطور البنية الإجتماعية بهذا الشكل أن تنشأ إنقسامات أخرى هي أعمق وأشد، فعلاوة على إنقسام شبه جزيرة العرب إلى قبائل أصبح الإنقسام الطبقي القائم على الملكية الخاصة هو العامل الجديد في حركة التاريخ والذي أوجد في كل قبيلة: "مترفون" يقابلهم "فقراء" يعانون الشقاء المادي. حيث ان الإنقسام الطبقي أصدق تعبيرا من الإنقسام القومي والقبلي؛ لأنه المكون الأساس لحاجات الإنسان، وهو الذي أدى لنشوء تحالفات قبلية جديدة قائمة على المصالح التجارية بين الرؤساء وولاءات أخرى إنضمت فيها القبائل الضعيفة إلى القبائل القوية. وإيضاً إلى نشوء ظاهرة الصعلكة التي هي نتيجة مباشرة لهذا التمايز الإقتصادي-الإجتماعي. والصعلكة مشتقة من الصعاليك؛ وهم فئات من الفقراء الذين يعانون الشقاء المادي في قبائلهم فإنسلخوا عنها وتفردوا في الصحراء للغزو والسلب. ويبدو جلياً الآن ما قاله برتراند راسل: "إن أول شرير هو أول من إتخذ قطعة أرض وقال هذا ملكي".
ولنا أن نذكر أشهر شعراء الصعاليك "عروة بن الورد" المتوفي عام ٣٠ قبل الهجرة، والذي عُرف بسطوه على قوافل الأغنياء ليطعم منها الفقراء، حيث قال في أحد أشعاره:
لحى الله صعلوكاً إذا جنَّ ليله مضى في المشاشِ آلِفاً كلَّ مجزرِ
وهو هنا يصوِّر حالة الصعلوك الذي لا يجد في ليلهِ غير رؤوس العظام يمضغها...
كل هذه التطورات في القرنين السابقين على الإسلام هو ما سيؤدي إلى نشوء ثورة إجتماعية تغير مجمل تاريخ العرب وهي الثورة الإسلامية بقيادة النبي محمد في مكة، الموقع الإستراتيجي المهم الواصل بين البيزنطيين شمال البحر الأحمر والساسانيين غرب جزيرة العرب. وحسب ما يورد حسين مروّة أن هذه الثورة ليست ثورة غيبية، ليست صدفة من خارج التاريخ، وإنما للمعرفة نحتاج الدخول في صلب البنية الإجتماعية، في داخل حركة التاريخ المادي لشبه الجزيرة العربية أنذاك، وبالتحديد في مكة، وبتحديدٍ أكبر في بني هاشم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) الإبل: هو الجَمَل. وجمعها: آبال
(٢) المشاعية: المرحلة الأولى من الملكية في تاريخ الإنسان حسب التأريخ الماركسي، وتعني الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج
(٣) ينقل حسين مروة أن المصادر الوحيدة التي يمكن أن ندرس فيها العصر الجاهلي قبل الإسلام هو الشعر الجاهلي إذ أن الشعر هذا لا يعبر فقط عن خيالات ومشاعر فردية بل يعبر أيضا في كثير منه عن البنية الإجتماعية والإقتصادية في شبه الجزيرة العربية أنذاك، إلا أن هذه الأشعار أقدمها يعود لقرن ونصف أو قرنين قبل الإسلام. وتبدو المصادر ضعيفة بل غائبة إذا ما أردنا التحدث عن الجاهلية الأولى إلا من خلال الشعر الجاهلي نفسه.
* كانت هذه المقالة إسهاماً أو محاولة لأن تسلط الضوء على تطور البنية الإجتماعية في النظام القبلي ونشوء ظاهرة الصعاليك قبل الإسلام معتمدين على ما ورد في "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" للشهيد حسين مروّة، ولا يسع ان نذكر كل ما ورد في الكتاب من تحليلات وأفكار في مقالة واحدة. راجين ان يكون في الوسع كتابة ملخص بعد الإنتهاء يضم أهم ما ورد فيه إضافة للمنهج الذي يستد عليه الكاتب في قراءة التاريخ.
** راجع: حسين مروّة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، طبعة دار الفارابي - بيروت ٢٠٠٢، ص ٢٤٦ - ٢٥٦