هناك سؤال وجودي يطرحه يوسف زيدان في منتصف روايته "عزازيل" قائلا: "من خلق من؟ الله خلق الإنسان أم الإنسان خلق الآلهة؟"
تساؤل عميق جداً، هو في جذوره يعبر عن الصراع الفلسفي بين المادية -الفيزيائية-، والمثالية -الميتافيزيائية أوما وراء الطبيعة-. ليس سؤالاً ثانوياً ذاك، بل هو التساؤل الذي يكوّن أبسط قناعاتنا السياسية، السلوكية، الاجتماعية. أما تلك السلطة التي تريد أن تسيطر على فكرك وتجعلك تحت عباءتها الحزبية السياسية فإن مثل هذه الأسئلة بالنسبة لها من المحرمات: "فمن يسبق من: مادة الوجود -الكون- أم روح الوجود -النفس، العقل، الآلهة-"
أعادني لهذا التساؤل في رواية يوسف زيدان ما عبر عنه "بوعلي ياسين" في كتابه الثالوث المحرم نقلا عن الفيلسوف المادي فريدرش أنغلز في حديثه عن نشوء وتطور الدين، قوله: "استقل البناء الفوقي في وعي البشر عن البناء التحتي، وتعاكست الأدوار في وعيهم، إذ أصبح (العقل) أو (الروح) يتحكم بالجسم، وأصبح المخلوق (الآلهة) يتحكم بمصائير الخالقين (البشر).١وهو -بوعلي ياسين- ينقد فكرة الفيلسوف المثالي هيغل حول "ما هو الدين"، هيغل عرّف الدين بأنه: (نظرة إلى الكون وطريقة حياة محددة بالإيمان بوجود إله أو ألوهية، وهو شعور بالإرتباط وبالتبعية وبالإلتزام تجاه قوة غامضة سائدة جديرة بالإجلال). يقول بو علي ياسين هذا التعريف غير مفيد لأنه (مثالي)، ولا يربط بين الشعور والواقع؛ بين النظرة إلى الكون والعلاقات الإجتماعية الإقتصادية التي هي اساس تطور الاديان واختلافها وتعددها".٢
لكن ما يصدم القارئ عبر النظر في تاريخ التساؤل القديم هذا بأنه لم يُطرح فقط بين المثاليين والماديين، بين الفيزيا والميتافيزيا في حروبهم الفلسفية؛ بل طُرح هذا التساؤل من داخل أروقة الروحانية ومن قِبل أكثر الفلاسفة زهداً وورعاً: "هل الإنسان هو من خلق الآلهة عبر التاريخ وطوّر مفاهيم الدين واختلف فيها فتعددت حسب ظروفه، أم أن الآلهة هي التي خلقت البشر ولها دستور مُوحَّد يُخضع بِعِزّتهِ هذا العالم"....
"أبو بكر الرازي" (٢٥٠-٣١١هـ) هو الربوبي الأكبر في الإسلام ويسبقه في هذا المذهب أبيقوروس اليوناني الذي لم ينكر وجود الآلهة ولكنه أنكر أن الأديان تعبّر عن حقيقته، وهو جوهر المذهب الربوبي. وتأتي تلك الفكرة من الرأي القائل: "بأن الإله مطلق -غير محدود وقديم أزلي- والدين -محدود، متعدد ومستحدث-. وحسب المنطق العقلي كيف للمحدود أن يحتوي اللامحدود؟!" فهو -الإله الحق- بهذا المعنى غير معروف لأهل الدين؛ "وإنما يدخل إله الأديان قلب المؤمن لمحدوديته".٣ ففي الربوبية يُنظر للإله كتطلع وجداني روحاني -حق مُشاع- مغاير لإله الأديان، فإله الأديان من خلق الإنسان، والخالق الحق سر خفي مجهول أبداً. كما عبّر الرازي في إحتجاجه: "إن الحكمة كانت تُوجِب أن يكون الإلهام مشاعاً بين الناس حتى يتساووا في المعرفة ويجتنبوا التقليد".٤ وكما عبر إبن عجيبة الحسني في إيقاظ الهمم عن درجات المعرفة الإلهية في قوله: "الشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده".
وقد انتج هذا التوجه بين الرازي واقطاب الصوفية وفلاسفة الاسلام إبداعاً حضارياً هو من روائع الأدب الإنساني، كقول محيي الدين ابن عربي في قصيدته الشهيرة: "وقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ*فمرعى لغزلانٍ وديرٍ لرهبانِ". ووضع عبدالحق ابن سبعين (٦١٤-٦٦٩هـ) كتابه الفلسفي تحت عنوان (بُدُّ العارف) والبُد: هو معبد البوذي. وكأنه يريد أن يقول لا يمكن لأحد منكم أن يمتلك الحقيقة ويحتكرها لنفسه بإسم أي دين كان، فحتى ذلك البوذي يستطيع ادراك المعارف الإلهية التي هي مسألة وجدانية قبل أن تكون دينية. أما إبن الفارض فنادى بوحدة الأديان المطلقة، فمن وجهة نظره الكل متساوون في طلب الحقيقة. وطالب بعدم أخذ من خر للأحجار بالعصبية. فلما كان الحق سبحانه ساريا في كل ذرات الوجود وفاعلا فيها، فلا إنكار عليه إذ يناجي المعنى بتلك الصورة فيه:
وإنْ نارَ بالتَّنزيلِ محرابُ مسجدٍ*فما بارَ بالإنجيلِ هيكلُ بيعة ِ
وأسفارُ تَوراة ِ الكَليمِ لِقَومِهِ*يُناجي بها الأحْبارِ في كُلّ ليلَة ِ
وإن خَرَّ للأحجارِ، في البُدّ عاكِفٌ*فلا وجهُ للإنكارِ بالعصبيَّةِ
هذه كانت بعض التمايزات الفلسفية بين المثالية والمادية والربوبية. ونختم بما قاله الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري:
تجري على رسلها الدنيا ويتبعها*رأيٌ بتعليل مجراها ومعتقدُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١، ٢) الثالوث المحرم (الدين-الجنس-الصراع الطبقي)، بوعلي ياسين، الطبعة السابعة ص١٨
٣) مدارات صوفية، هادي العلوي، الطبعة الأولى ص٨٣
٤) شخصيات غير قلقة في الإسلام، هادي العلوي، الطبعة الرابعة ص٢٢٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق