الخميس، 20 أكتوبر 2016

"آيا صوفيا" معبد الحكمة الذهبي والتقاء الشرق بالغرب


التاريخ والعمارة



صورة تذكارية: آيا صوفيا في الخلف، من عتبات المسجد الأزرق


في الفترة ما بين السابع والعشرين من فبراير ٢٠١٦م وحتى الأول من مارس من العام نفسه تواجدت في اسطنبول، لم تكن تركيا من بين المدن المقرر زيارتها، وبسبب تعلقي بهذه المدينة نتيجة ميلي للتراث والفن الإسلامي والأديان بشكل عام وللتصوف بشكل خاص، فقد ارتسمت على روحي فرحة كبيرة، لأنني سأحضى بالدخول إلى "الحكمة المبجلة" آيا صوفيا، وبأنني سأحضى أيضا بمشاهدة طقوس الرقص الصوفي عن قرب، والتي يتم تقديمها في العديد من الحمامات والنوادي الثقافية والمتاحف داخل اسطنبول.


Image result for hodjapasha
 عرض للرقص الصوفي في الـ "hodjapasha"

لم يكتمل فرحي بزيارة تركيا لأنني لم أحضى بالدخول إلى آيا صوفيا بالرغم من اقترابي من المكان مرتين، في اليوم الأول كان الطابور يصل إلى الخارج فقررنا تأجيل الزيارة إلى اليوم الذي نزور فيه "مركز الحاج باشا الثقافي" الواقع بالقرب من المبنى والذي ويوفر للزوار أوقات لا تُنسى مع الدراويش الصوفيين لمشاهدة الرقصة الأولى المعبرة عن الإتصال بين الإنسان والله في تاريخ الإسلام، ولسوء الحظ كان اليوم المنشود هو آخر يوم لنا قبل ان تقلنا الطائرة إلى مكان آخر، واغلقت آيا صوفيا أبوابها قبل أن نصل حيث يمنع استقبال الزوار بعد الرابعة، وإلى هذا اليوم وأنا أتوق لزيارة المدينة من جديد لأحضى بالدخول لأهم معلم تاريخي فيها.



فيما يتعلق بالعمران فإنك لن تجد ذلك التعارض بين الشرق والغرب بالقدر الذي تجده في السياسة، فالكاتدرائيات والمساجد متشابهة إلى حد كبير. من الأعلى يبدو المسجد الأزرق الذي يستمد أسمه من بلاط البحر الأزرق المُستعمل لجدرانه مشابها للآيا صوفيا، وقد تجد الكثير من المباني في أوربا الجنوبية تتشابه مع هذين المبنيين، وذلك يعود للفترة التي حكم العثمانيون فيها أجزاءً من أوربا وساهموا في إعمارها، وبالتحديد في القرن السادس عشر، الذي كان فيه سنان المعماري مؤثرا في العمران وفاعلاً فيه، وللأخير ومدرسته دوراً في إضفاء الطابع الإسلامي على آيا صوفيا.



Image result for hagia sophia interior
آيا صوفيا من الداخل

بُنِيَ معبد الحكمة الذهبي في الأساس عام ٥٣٧م ، وظلّت كاتدرائية أرثذوكسية شرقية إلى عام ١٢٠٤م، حتى قام الدوق الإيطالي انريكوا داندولو خلال الحملة الصليبية الرابعة بالإستيلاء على المدينة وتحويلها إلى كنيسة كاثوليكية، لاحقا وفي القرن الخامس، بعد سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني تم تحويلها إلى مسجد، وبقيت دار عبادة إسلامية حتى العام ١٩٣٥م بعدما تمت علمنة تركيا على يد كمال أتاتورك ومن ثم تم تحويل المبنى إلى متحف، وقد قام.مجموعة من المصلين المسلمين يوم السبت ٢٨ مايو ٢٠١٦ بآداء صلاة العشاء حول محيط المبنى مطالبين بإعادته إلى مسجد، لكن ذلك ربما يساهم في إعادة صباغة الرسوم المسيحية بالأبيض كما فُعل بعد فتح القسطنطينية، او ربما يتم إزالتها بالكامل هذه المرة ليكون المتحف مهيئا للصلاة بداخله.

Image result for hagia sophia jesus
"الله" بالخط العربي مع رسم متخيل لمريم العذراء والمسيح

من الأشياء التي تجعلني منشداً لزيارة المبنى أنه بقي رغم كل هذه السنين من الحروب والدماء معبراً عن الخيال الفني الممزوج بالخيال الديني؛ ليعطينا جمالاً يقارب بقدر ما يمايز بين المسيحية والإسلام، ففي الداخل يمكنك أن تصلي ليسوع أمام وجهه البريء، ويمكنك ان تصرخ مذهولا يا الله أو تصلي على النبي محمد ولكن هذه المرة ليس هناك وجوه بل خطوط، ففي المسيحية تجسدت الكلمة التي كانت في البدء ولهذا يفضل الفن المسيحي الرسم والتجسيد الدقيق ليسوع، ولا يوجد تحسس أو قوانين لمعاقبة من يقوم برسم صور متخيلة لله أو للعالم الآخر بل لا تعتبر اللوحات ورسمها إساءة بقدر ما هو تكريم، فقد قامت الكثير من الكنائس باستدعاء مايكل أنجلو للرسم داخلها، أما لوحة الجحيم لبوتشللي فقد قدمت تصوراً عينياً للعذاب الأخروي وساهمت في إقبال الكثيرين على الكنيسة للتكفير عن خطاياهم، ونتساءل لو كان مايكل أنجلو مسلماً وقام بنحت تمثال داوود العاري فهل سيفلت من العقاب؟ هكذا ربما يتمايز الفن الإسلامي عن المسيحي بأن الأول أبدع في الأشكال  والخطوط وأحبها والثاني يحب الوجوه أكثر، وربما لهذا السبب أطلق عليه "آيا صوفيا" أي الحكمة المبجلة، لأنه مكان صارت فيه النقائض واحدة في الوجود.

وللتنويه المهم فإن الكثير من المؤرخين قد أرخوا للملوك، فالتاريخ ليس هو تاريخ الملوك وإنما تاريخ الملوك، والأمم بصورة أكبر فبهم تنهض الحياة، وبهم تُعَمَّر الأرض وهم الفاعلين الحقيقيين فيها، كثيرا ما سترى عند القراءة عن آيا صوفيا أنها بنيت في عهد الإمبراطور جوستنيان الأول فيغيب المُعَمِّر كما يغيب الإسم الفعلي لمن أبدعت يده البناء. آيا صوفيا بنيت على يد المعماريان أنثيموس وإسيدوروس في منتصف القرن السادس، وتم ترميمه على يد المهندس سنان المعماري في القرن السادس عشر ليبقى الفن في العمران رمزا خالداً معبراً عن تاريخ طويل من الصراع بين الأضداد، حاملاً وحده لرموز التاريخ المتناقض، جامعاً له، وبهذا تكمن عظمة المهمة التي تقع على عاتق المهتمين بالتراث الفني والمعماري مانعين تضاريس الحياة، وتحولات المناخ من أن تزيله وتُذهبه مع الرياح.




ــــــــــــــــــ

المصادر:

  • إعادة إكتشاف العثمانيين، إيلبير أورتايلي: يعتبر أورتايلي مؤرخ عسكري، وبوصفه كذلك كان يبرر في كتابه الكثير من ممارسات الدولة العثمانية، منها سياسة التجنيد الإجباري السيئة حتى للأطفال.
  • الجحيم، دان براون: تحتوي الرواية على العديد من المعلومات التاريخيه، خصوصا ما يرتبط بالعمران والفن الكلاسيكي. ويمكنها أن تكون دليلاً سياحياً أيضا للكثير من معالم مدينتي فلورنسا والبندقية الإيطاليتين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق