الجمعة، 25 أغسطس 2017

تونس نحو المساواة بين الجنسين وما يوازيها في الإسلام

فتاة درزية من لبنان - عام ١٨٨٩م


في يوم الأحد الموافق ١٣ أغسطس ٢٠١٧ نشرت وسائل الإعلام العربية تصريحاً مرئياً لرئيس الجمهورية التونسية "الباجي قايد السبسي" يدعو فيه للمساواة بين الجنسين و تكافؤ المرأة مع الرجل في الميراث. وأيضا قامت تونس بإلغاء الزواج الضرائري -تعدد الزوجات- منذ فترة وأباح "السبسي"  للمرأة حرية اختيار الزوج ولو كان غير مسلم(١). توالت التصريحات المؤيدة والمعارضة لتونس في الأيام التي تلت؛ فقد صرح وكيل الأزهر "عباس شومان" قائلاً بأن ما يحدث في تونس هو أمر مخالف لقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية، والمواريث مقسمة حسب الآيات القرآنية وأي مخالفة لذلك هي تعدي على الإسلام. بينما استغل الداعية المصري "وجدي غنيم" وجوده في تركيا ليصرح بتكفير تونس حكومة وشعباً ووصفها بالدولة العلمانية، وذاك ما لم تقبله لا تونس ولا تركيا من "غنيم".

علينا أن نقر أولاً وقبل أي شيء بأن لكل تشريع أي تشريع كان (بشري - عقلي -) أو (إلهي - ديني-) سياقاً تاريخياً يسير فيه، وسياقاً إجتماعياً آخر. أي بأنَّ هناكَ زمان ومكان يرتبط التشريع بهما. وحين نحاول أن ننزع عن هذا التشريع سياقاته التاريخية والاجتماعية لا يمكن أن نصل لحقائق علمية حول ما هي الغايات والأسباب التي دعت للتشريع. فيصبح في نظرنا هذا التشريع تشريعا كونياً بدل أن يكون تشريعا تاريخياً. إن أي تشريع كان لا يمكن أن يتصف بالكونية، حتى ما تعتقد فيه جماعة من الناس أنه إلهي، فإن هذه الجماعة ستجد نفسها غير قادرة على جعل التشريع كونياً في لحظة ما لا من ناحية الممارسة ولا من ناحية الفكر نتيجة للتغير الدائم في  الظروف الاقتصادية والتاريخية أو تطور القيم الأخلاقية، ولذلك لم يجعل الله شريعة سماوية واحدة له. إن الإنسان إذا ما أراد أن يسبغ على تشريعاته طابعا كونياً يضطر عندها للتأويل أو لتفسير يعطي التشريع دليلاً برهانياً يتماشى مع عصره. إذن ما يتحرك هنا هو العقل!

عندما يكون هناك تفسير وتأويل فذلك يعني أن الإنسان دائماً سواءً كان يؤمن بالمرجعية الدينية؛ أو بالمرجعية الفلسفية -العقلية البحتة- لاستنباط قوانين تنظيم المجتمع، فهو كائن إستدلالي -عقلاني- وإن كانت تقيده نصوص ثابتة مقدسة في الحالة الاولى بينما في الحالة الثانية هو خاضع لبراهين العقل الصرف. ولهذا نجد أحياناً وخصوصاً في الجانب الفلسفي في تاريخ الإسلام خروجات عقلية على حساب النص قوبلت بالهجوم من قبل الإتجاهات السلفية باختلاف مسمياتها المذهبية كما هي الحال عند الدروز - الإسماعليين في الأصل - والذين يتمركزون حالياً في لبنان وبعض المنتبذات السورية والمصرية.

أ- الميراث: في الجاهلية والإسلام، أوربا القرون الوسطى، والصين الاشتراكية!

إن أول ميراث تحضى به المرأة العربية كان بعد معركة "أُحد" التي جرت بين المسلمين وقبيلة قريش. أما قبل ذلك فكان الذكر هو الوارث الوحيد، وإذا لم يكن هناك ذكور بين الأبناء يذهب الميراث إلى العم. وبعد مقتل الصحابي سعد بن الربيع في "أُحُدْ" والذي خَلَّفَ بنتان؛ جاءت زوجته تشكو النبي إستيلاء عمهما على الميراث حيث لم يترك لهما شيء، فدعا عمهما وقال له: اعط ابنتي سعد الثلثين وأعطي أمهما الثمن ولك مابقي. فكان ميراث سعد هو أول ميراث يقسم على البنات والأم. ونزلت بعد هذه الحادثة آية المواريث، وبالرغم من أن حصة التوريث كانت النصف إلا أنها كانت خطوة كبيرة للثورة الإسلامية في مجتمع كان يفرض الحرمان التام على النساء.

بالمقارنة مع الغير، نجد المرأة الأوروبية في العصور الوسطى وعصر النهضة محرومة من الإرث. وكان الإرث في بريطانياً يذهب كله للإبن الأكبر فتحرم منه ليس البنات فقط وإنما بقية البنين. وعند الساميين القدماء والسومريين أعطت شريعة أورنمو حق الإرث للبنت العازبة إذا كانت وحيدة والدها وتحرم منه المتزوجة التي تحضى بعائل. أما في الإسلام فكانت شاملة للأولاد جميعاً بنين وبنات، متزوجين وعزاب. وكان من المنتظر أن يعاد النظر في الحصص بعد تطور نظم الإنتاج في المجتمع الإسلامي لتكون متساوية بين الجنسين، وهذا ما قام به الدروز حيث ساووا بين الإبن والإبنة في الميراث. والدروز مسلمون فلاسفة وليسوا فقهاء، هذا ما جعل تحكيم العقل عندهم متقدم على حاكمية النص الإلهي وتطوير شريعة جديدة، لا يتوانى البعض في القول بأن هنالك شريعة درزية مع أن ذلك لا يخرجهم من الاعتقاد بالثوابت الإيمانية في الإسلام.

وفيما يخص الاشتراكية فإن هذه المسألة ثانوية عندهم. ينقل المفكر العراقي هادي العلوي عن زيارته للصين عام ١٩٧٩ وهو عام الإنقضاض على نظامهم الشيوعي بأنه لم تكن لديهم مواريث بعد أن ألغوا الملكية الخاصة وأعادوا توزيع الثروة على الناس بالتساوي. فلا يبقى لدى أحد مال شخصي يوزع على الورثة. وفيما يخص المهور ألغت الصين المهر في عقد الزواج بصفة أن العلاقة الزوجية هي علاقة روحية في المقام الأول لا تقوم على لذة الرجل دون المرأة ولا يجب أن تدخل فيها مصارفات البيع والشراء. وفي المقام الثاني أن المرأة العاملة ليست بحاجة للمال. فتجري ترتيبات الزواج البسيطة بين العائلتين دون ذلك(٢)


ب - رأي عقلي

هناك رأي عقلي لكمال الحيدري وهو شخصية إسلامية معاصرة، يقول بأن مسألة الميراث كانت ترتبط دائما بالكيفية التي ينتج فيها المجتمع اقتصاده. ففي المجتمع البدائي لم يكن هناك توريث للمرأة لأنه لم يكن لها مشاركة في الحياة الاقتصادية، أما في المجتمع الزراعي فقد نزلت المرأة مع الرجل للعمل ولكن إنتاج الرجل كان ضعف إنتاج المرأة، لأن عملية الحرث والحصاد كانت تحتاج لجهد عضلي والرجل أقوى بدياً، إضافة لما يصيب المرأة من حالات كالحيض والحمل والولادة تجبرها على القعود. أما في المجتمع الصناعي الذي نعيشه اليوم فإننا أصبحنا نعتمد على الجهد الفكري وليس العضلي، وبه دخلت المرأة ميادين متعددة وقد فاقت نظيرها فأصبحت مهندسة ومعلمة وطبيبة، وقد يفوق دخلها دخل زوجها أحيانا، فهل يمكن أن نقول اليوم بأن النفقة يجب أن تكون على الرجل وحده، وإذا كانت المرأة تشارك الرجل في النفقة، فإن هذا النظام الإقتصادي يجب أن يحيل للمساواة في المواريث!(٣)


ج - الزواج الضرائري وحرية الإختيار

يعتبر تعدد الزوجات من المسائل الجدلية اليوم بين المدافعين عن حقوق المرأة والإنسان وبين الفقه والتجديد الفقهي من داخل الإسلام نفسه. فالمسلم يبيح تعدد الزوجات لكنه لا يقبله من ناحية أخرى على أخته أو أمه أو ابنته. ما نتفاجأ منه حينما ننظر للتشريعات في سياقها التاريخي هو اننا نستشف أنها ثورات تتعلق بما يحدث على الأرض أكثر مما يتعلق بتاريخ السماء. فالإسلام لم يبح تعدد الزوجات إنما كان التعدد قائم وقد عرفته جميع المعاشر القديمة قبل أن تنتقل من حالتها البدائية - الأمومية - إلى حالة التحضر الأبوي - الذكوري -. وكان التعدد في الجاهلية بلا قيود. فقلصه الإسلام إلى أربع. يورد هادي العلوي عن "المحبِّر" لإبن حبيب أسماء مَن كانت لهم عشر زوجات فسرحوا منهن ست وأبقوا على أربع. أما لماذا لم يخطو الإسلام على خطى المسيح بإلغاء تعدد الزوجات وإقامة العائلة الوحدانية؟ فيعلل العلوي بأن نبوة محمد بعد فتح مكة أصبحت أقرب لنبوة موسى منها إلى المسيح، فهي نبوة دولة وليست نبوة خالصة كاليسوعية التي انتهت بضرب الدولة الرومانية لمعشرها منذ تكونه. وكان يهدف النبي محمد لتكثير عدد المسلمين بغرض توسيع الدولة الإسلامية ومن أحاديثه: "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد" و "إني مكاثر بكم الأمم". وكان هناك قطبان إسلامياً لم يقبلوا بتعدد الزوجات ولا بالتسري - إتخاذ السراري أو الجواري - وهما أبو ذر و سلمان الفارسي.  لكن بعد توسع الدولة الإسلامية وعدم الحاجة لتعدد الزوجات كانت خطوتهما تنتظر ثورة أخرى هي ثورة الإسماعيلية و القرامطة اللتان ألغتا الزواج الضرائري ولو أنهما لم تستمرا شأنهما شأن التحولات الثورية المجهضة. وكان أكثر من دعا للعائلة الوحدانية وإلغاء تعدد الزوجات هو الفيلسوف والشاعر المسلم أبو العلاء المعري، وله بيت يقول:

قرانك ما بين النساء أذية لهن     فلا تحمـــل أذاة الحــرائرِ

أما في ما يخص حرية اختيار الزوجة لزوجها فيُنقل حديث عن النبي: "لا تُنكح الثيب حتى تُستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن". والثيب هي من تزوجت سابقاً فامتلكت تجربةً ونضجاً يخولانها تقرير مصيرها واختيار طريقة حياتها. وتتفق جميع المذاهب بخصوص الثيب. والخلاف الأشد يقع فيما يخص البكر. فمن منطوق الحديث يجوز لها الرفض حتى لو وافق الأب على الزوج، وتبقى حرية الثيب أوسع من حرية البكر في الاختيار بحكم الفرق بين الاستئمار والإستئذان. وربما ما أثار حفيظة الحركات الإسلامية هو إعطاء تونس حرية أكبر للمسلمة من الزواج من غير المسلم.

تبقى تونس سباقة دائما في عصرنا الحديث لمثل تلك الخطوات العقلية وهي كما رأينا ليست الوحيدة ولا الأولى ولا الأخيرة في تاريخها التي تجعل حاكمية العقل متقدمة على حاكمية النص. وكان الصراع دائما ما يحكم تاريخ الإسلام بين الحركات السلفية والحركات الفلسفية، وصلت في أقصى مداها للتكفير وإباحة دم فيلسوف ما بتلك الحجة كما يصدر اليوم عن وجدي غنيم اتجاه التوانسة.

التشريع الإسلامي كما رأينا هنا لم يكن مجحفاً للمرأة بل كان متقدما على الجاهلية من ناحية الحقوق التي أتاحها لها. وإن نزعه عن سياقه التاريخي هو ما يجعل منا غير قادرين على فهم ذلك فنحاكم بعض تشريعاته بصفتها غير متوافقه مع التقدم الأخلاقي أو الاقتصادي الحالي، أو يقودنا لإزاحة الصفة التاريخية للتشريع فنجعل منه تشريعا كونياً واجباً لكل مرحلة تاريخة ولكل مجتمع مهما كان مختلفاً في نمط إنتاجه أو البنية الاجتماعية والاقتصادية عن بيئة مكة اثناء الدعوة الإسلامية.



ـــــــــــــــــــــــــــ
(١) (يوتيوب) الباجي قايد السبسي: ماضون نحو المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة
(٢) فصول عن المرأة، هادي العلوي، الطبعة الأولى ١٩٩٦، دار الكنوز - بيروت، ص٤٧ و ص٤٨
(٣) (يوتيوب) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة



الأربعاء، 11 يناير 2017

رؤيتان حول التشيع

اليمين: حسين مروّة. اليسار: محمد باقر الصدر


هذه مقارنة بين رؤيتين تناولتا موضوع التشيع بصورة مختلفة، الرؤية الأولى يمكن أن نطلق عليها دعوية، لأنها من داخل التشيع نفسه، وهي رؤية - محمد باقر الصدر (شيخ وفقيه شيعي١٩٣٥-١٩٨٠م) -. والرؤية الثانية يمكن أن نطلق عليها رؤية تحليلية، والتي تعتمد المنهج المادي في قراءة التاريخ، وهي رؤية - حسين مرُوَّة (مفكر لبناني ١٩٠٨-١٩٨٧م).

قبل كل شيء نشير إلى أن محمد باقر الصدر يعتبر من عِظام فقهاء شيعة القرن العشرين، حيث رد في كتابه "فلسفتنا" على الرؤى المناوئة للفكر الإسلامي وبالخصوص الماركسية التي كانت تأخذ مدىً واسعاً بين المثقيفين العرب الطامحين للتحرر الوطني والقومي. وقد قُتل الصدر في عام ١٩٨٠م وكان من أهم الأسباب التي أدت لذلك معارضته لحزب البعث العراقي وتحريمه الإنتماء إلى صفوفه.

في المقابل يُعتبر حسين مروة مفكراً ماركسياً من أفذاذ المفكرين العرب، وهو أول من استخدم المنهج المادي في قراءة التاريخ العربي الإسلامي ضمن كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" محاولاً أن يقدم دراسة شاملة حول تطور الإتجاهات الفلسفية والكلامية والفقهية عند العرب منذ الجاهلية إنتهاءً بالعصر العباسي. قُتل حسين مروة أيضاً في الفترة التي كانت فيها الحرب الأهلية في لبنان تلتهم كل شيء، وكان أهم سبب لقتله هو ما قدمه من رؤى في هذا الكتاب ومشروعه التقدمي في التحرر الوطني المناهض للطائفية ودولة إسرائيل.

يقدم محمد باقر الصدر في كتابه "نشأة الشيعة والتشيع" بالنسبة لأمر الخلافة الإسلامية وموقف النبي محمد منها في حياته ثلاثة احتمالات: الأول - إهمال النبي محمد لأمر الخلافة من بعده وتركه بيد الناس: وهو بالنسبة له موقف سلبي. الثاني - نظام الشورى: وهو موقف إيجابي لكن المسلمين لم يكونوا مهيئين لمثل هذا النظام حيث لم يكن هناك شكل واضح لطريقة الشورى التي يجب أن يمشي المسلمون على خطاها. الثالث - الإختيار والتعيين ممثلاً في شخصية علي بن ابي طالب. وهذا الاحتمال هو الإيجابي بالنسبة لمحمد باقر الصدر وعموم الشيعة.

بينما يقدم لنا الصدر فكرة إيمانية واضحة باعتبار التشيع الحالة الطبيعية للإسلام أو الحالة الإيجابية له، يقوم حسين مروة بالبحث عن الجذور الإجتماعية لتكوّن هذه النظرة، ليس باعتبارها صراعا بين الجانب القويم "التعبدي" ممثلاً بالشيعة والجانب السياسي "الاجتهادي" ممثلاً بالسنة كما عبر عنه الصدر، بل باعتبار مشكلة الخلافة نتيجه لصراع كامن في حياة النبي محمد بين مكونات مختلفة ومتباينه هي ليست بين مكونين "شيعي/سني"، بل بين مكونات متشعبة ومعقدة أكثر من ذلك. إن مصطلح "شيعة" كما يتفق الصدر مع مروّة لم يكن موجوداً في تلك اللحظة، حيث يقول محمد باقر الصدر: "إذا كنا لا نجد كلمة -شيعة- في اللغة السائدة في حياة النبي(ص)، أو بعد وفاته، فلا يعني هذا أن الإطروحة والاتجاه الشيعي لم يكن موجوداً"(١). وقد عارض الناشر كلام الصدر هذا حيث رد في الهامش عليه بكلام لابن عساكر يستدل فيه بوجود مصطلح شيعة منذ عهد النبي. والاستدلال بابن عساكر ليس من العلمية في شيء، لأنه من مواليد القرن السادس، ويتحدث بمصطلحات مجتمعه لا مجتمع النبي أنذاك، حيث يفصله عن ذلك العهد ٥ قرون.

بالنسبة لمرُوًّة، يمكننا أن نطلق على الصراع الذي نشأ بعد وفاة النبي بأنه البذرة التي شغلت معظم الإتجاهات الكلامية: من معتزلة، وأشاعرة، ومرجئة ومنطق، وجبر، وقدر، من ثم الفقه ومدارسه. وهي البذرة الأولى لثمرة التنظير الإسلامي والمذاهب الإسلامية، إن الصراع ذاك كان يمثل صراعا بين تكتلات قبلية، بين فئة المهاجرين -أي أهل مكة-، وفريق الأنصار -أهل المدينة الذين استقبلوا النبي في هجرته-. حيث يرى أنه وبعد وفاة النبي ظهرت فجأة رواسب هذا الصراع القديم بين مكة والمدينة. نشأت بعد الهجرة إلى المدينة مؤسسة شبه مشاعية تقوم فوق القبيلة كون الإسلام كدين يقوم على إطار موحد جامع، إلا أن هذه المؤسسة ظهر فيها تمايز ملحوظ بين المهاجرين والأنصار، كان للمهاجرين فيها النصيب الأكبر من الغنائم والأماكن القيادية، حيث كان لأبي بكر وعمر بن الخطاب الدور الأول في تنظيم شؤونها.

تنبهت لدى المهاجرين أنفسهم انقسامات أخرى لها رواسب قديمة في الجاهلية: "بين بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي وصهره وابن عمه علي بن ابي طالب واصحابه من جانب، وبين عبدشمس وتميم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي إليهم سائر المهاجرين(٢). من خلال هذه المواقع التي يمثلها كل فريق نشأت النظرية التي حاول كل أن يدافع عن موقعه من خلالها

ينقل مروة تسلسل الأحداث عن مصدرين تاريخيين معترف بهما عند عموم المسلمين هما تاريخ اليعقوبي -ت ٢٨٤هـ- وهو مؤرخ شيعي يصنف من المؤرخين المحترفين لا الدعاة، والثاني هو تاريخ الطبري -ت ٣١٠هـ- أيضا مؤرخ سني محترف طغت حياديته التاريخية على ان يكون داعياً سنياً:

"في البدء كان علي بن ابي طالب والعباس بن عبدالمطلب عم النبي وأسامة بن زيد مشغولين في غسل جثمان النبي وتكفينه، ثم حملوه إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها في بيت عائشة، فسُمع منادياً من الأنصار يقول: إجعلوا لنا في رسول الله نصيباً. فاعتقد -علي- أنهم يريدون أن يكون لهم نصيبا في دفنه، حيث دعى أحد الأنصار ويسمى"أوس بن خولي" للمشاركة في عملية الدفن. وقد تبين ماذا كان يقصد الأنصار من كلمة "نصيب" سريعا، فبينما كان علي بن ابي طالب يدعو صاحبهم أوس اجتمع زعماء الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليعلنوا خلافة المسلمين بعد محمد لزعيم الخزرج الأنصاري "سعد بن عبادة". ولما بلغ الأمر أبا بكر وعمر بن الخطاب وبعض المهاجرين جاؤوا مسرعين فأبعدوا الناس عن سعد، وشق أبو بكر طريق الإجتماع قائلاً: "يا معاشر الأنصار منا رسول الله ونحن أحق بمقامه". فقال الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير". فقال أبو بكر: "منا الأمراء ومنكم الوزراء". واحتدم الصراع وكانت الفتنة ان تحدث بين المهاجرين والأنصار في دار السقيفة، حتى قام "ابو عبيدة الجراح" وهو أحد زعماء الأنصار بحسم الموقف للمهاجرين وذلك بمبايعة أبي بكر بالخلافة... غير أن الصراع لم ينحسم فعلاً مع غياب بني هاشم عن تلك العملية".

هذا هو مختصر ما نقله الطبري إذ أن الصراع لم يكن مجرد صراع بين جانب "تعبدي" ممثلاً بالشيعة، وجانب "يجتهد على حساب النص" ممثلا بالسنة. يمكن أن نرى أن الأنصار ومبادرتهم الأولى بالاجتماع في أمر الخلافة هو نتيجة لاحساسهم بأنهم الأكثر بعدا والأقل نصيبا فيها، إذ لجأوا للشورى سريعاً، واتخذ المهاجرون من غير بني هاشم تلك النظرية "الشورى" لأنهم كانوا أقدر على الفعل فيها، بينما لجأ بنو هاشم لنظرية التنصيب الإلهي التي ارتبطت بحادثة الغدير مبدأً لهم - وهي حادثة تاريخية تعترف بها جميع المذاهب الإسلامية -، لكنهم -المسلمون- اختلفوا في تفسير معنى كلمة "مولى" بيوم الغدير، بل إن المهاجرين اعتبروا تسليم النبي لأبي بكر إمامة الصلاة بعد مرضه الأخير دليل خفي على إمامته الكبرى للمسلمين...

يستكمل اليعقوبي قائلا: "لما علم بنو هاشم بالأمر ثار بهم الغضب، وقدم بعضهم إلى حيث حدث الأمر، فوقف عتبه بن أبي لهب ينشد شعراً يمدح به علياً بن ابي طالب وكأنه يرشحه للخلافة إلا أن علياً بعث إلى عتبه هذا ينهاه عن دعوته التي أعلنها، لكنه في نفس الوقت -أي علي- تخلَّف عن مبايعة أبو بكر ومعه جماعة من بني هاشم وبني أمية..." وينقل الطبري أن أبا سفيان بن حرب (أبو معاوية مؤسس الدولة الأموية) تخلف عن مبايعة أبي بكر، وقال مثيراً زعماء قريش: "أرضيتم يا عبد مناف -وهو أحد أجداد القبائل القرشية- أن يلي عليكم هذا الأمر غيركم؟) حيث أن بني أمية وبني هاشم معاً -بالرغم من اختصامهم- غضبوا أن يتولى الخلافة رجل من تميم".

هذا الشكل الجديد من الصراع لدى العرب هو ما يفسر نشوء أقوال مختلفة في مسألة الخلافة لدى القائلين بوجوب أن يكون الخليفة من بني هاشم في قريش: "وهي رؤية بنو هاشم وأنصارهم" أم في قريش بوجه عام "وهي رؤية بنو أمية وغيرهم من القبائل القرشية" أم يصح أن يكون من غير قريش في العرب "وهي رؤية الأنصار مع المهاجرين من غير قريش". وسينشأ مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين تيار آخر يقول بأن الخلافة تصح في العرب وغير العرب من المسلمين (حتى لو كان عبداً حبشياً) "تلك هي رؤية الخوارج".

يحاول مروَّة إذا أن لا يقدم إيماناً بقدر ما يحاول أن يقدم فهماً لطبيعة الصراع التاريخي الذي تنشأ منه النظريات الإيمانية، معتبراً ذلك الصراع ليس صراعاً شخصانياً، وإنما صراعاً حتمياً يمر بجميع مراحل التاريخ المشابهة، حيث تنتقل القوة من القبائل إلى المركز -الدولة-، تلك القوة التي يدور الصراع حولها.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) نشأة الشيعة التشيع، محمد باقر الصدر، مركز الغدير للدراسات الإسلامية-بيروت، الطبعة الرابعة ١٩٩٩م، ص١٦
(٢) النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، حسين مروّة، دار الفارابي، الطبعة الأولى٢٠٠٢، ج١، ص٤٣٢