فتاة درزية من لبنان - عام ١٨٨٩م |
في يوم الأحد الموافق ١٣ أغسطس ٢٠١٧ نشرت وسائل الإعلام العربية تصريحاً مرئياً لرئيس الجمهورية التونسية "الباجي قايد السبسي" يدعو فيه للمساواة بين الجنسين و تكافؤ المرأة مع الرجل في الميراث. وأيضا قامت تونس بإلغاء الزواج الضرائري -تعدد الزوجات- منذ فترة وأباح "السبسي" للمرأة حرية اختيار الزوج ولو كان غير مسلم(١). توالت التصريحات المؤيدة والمعارضة لتونس في الأيام التي تلت؛ فقد صرح وكيل الأزهر "عباس شومان" قائلاً بأن ما يحدث في تونس هو أمر مخالف لقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية، والمواريث مقسمة حسب الآيات القرآنية وأي مخالفة لذلك هي تعدي على الإسلام. بينما استغل الداعية المصري "وجدي غنيم" وجوده في تركيا ليصرح بتكفير تونس حكومة وشعباً ووصفها بالدولة العلمانية، وذاك ما لم تقبله لا تونس ولا تركيا من "غنيم".
علينا أن نقر أولاً وقبل أي شيء بأن لكل تشريع أي تشريع كان (بشري - عقلي -) أو (إلهي - ديني-) سياقاً تاريخياً يسير فيه، وسياقاً إجتماعياً آخر. أي بأنَّ هناكَ زمان ومكان يرتبط التشريع بهما. وحين نحاول أن ننزع عن هذا التشريع سياقاته التاريخية والاجتماعية لا يمكن أن نصل لحقائق علمية حول ما هي الغايات والأسباب التي دعت للتشريع. فيصبح في نظرنا هذا التشريع تشريعا كونياً بدل أن يكون تشريعا تاريخياً. إن أي تشريع كان لا يمكن أن يتصف بالكونية، حتى ما تعتقد فيه جماعة من الناس أنه إلهي، فإن هذه الجماعة ستجد نفسها غير قادرة على جعل التشريع كونياً في لحظة ما لا من ناحية الممارسة ولا من ناحية الفكر نتيجة للتغير الدائم في الظروف الاقتصادية والتاريخية أو تطور القيم الأخلاقية، ولذلك لم يجعل الله شريعة سماوية واحدة له. إن الإنسان إذا ما أراد أن يسبغ على تشريعاته طابعا كونياً يضطر عندها للتأويل أو لتفسير يعطي التشريع دليلاً برهانياً يتماشى مع عصره. إذن ما يتحرك هنا هو العقل!
عندما يكون هناك تفسير وتأويل فذلك يعني أن الإنسان دائماً سواءً كان يؤمن بالمرجعية الدينية؛ أو بالمرجعية الفلسفية -العقلية البحتة- لاستنباط قوانين تنظيم المجتمع، فهو كائن إستدلالي -عقلاني- وإن كانت تقيده نصوص ثابتة مقدسة في الحالة الاولى بينما في الحالة الثانية هو خاضع لبراهين العقل الصرف. ولهذا نجد أحياناً وخصوصاً في الجانب الفلسفي في تاريخ الإسلام خروجات عقلية على حساب النص قوبلت بالهجوم من قبل الإتجاهات السلفية باختلاف مسمياتها المذهبية كما هي الحال عند الدروز - الإسماعليين في الأصل - والذين يتمركزون حالياً في لبنان وبعض المنتبذات السورية والمصرية.
أ- الميراث: في الجاهلية والإسلام، أوربا القرون الوسطى، والصين الاشتراكية!
إن أول ميراث تحضى به المرأة العربية كان بعد معركة "أُحد" التي جرت بين المسلمين وقبيلة قريش. أما قبل ذلك فكان الذكر هو الوارث الوحيد، وإذا لم يكن هناك ذكور بين الأبناء يذهب الميراث إلى العم. وبعد مقتل الصحابي سعد بن الربيع في "أُحُدْ" والذي خَلَّفَ بنتان؛ جاءت زوجته تشكو النبي إستيلاء عمهما على الميراث حيث لم يترك لهما شيء، فدعا عمهما وقال له: اعط ابنتي سعد الثلثين وأعطي أمهما الثمن ولك مابقي. فكان ميراث سعد هو أول ميراث يقسم على البنات والأم. ونزلت بعد هذه الحادثة آية المواريث، وبالرغم من أن حصة التوريث كانت النصف إلا أنها كانت خطوة كبيرة للثورة الإسلامية في مجتمع كان يفرض الحرمان التام على النساء.
بالمقارنة مع الغير، نجد المرأة الأوروبية في العصور الوسطى وعصر النهضة محرومة من الإرث. وكان الإرث في بريطانياً يذهب كله للإبن الأكبر فتحرم منه ليس البنات فقط وإنما بقية البنين. وعند الساميين القدماء والسومريين أعطت شريعة أورنمو حق الإرث للبنت العازبة إذا كانت وحيدة والدها وتحرم منه المتزوجة التي تحضى بعائل. أما في الإسلام فكانت شاملة للأولاد جميعاً بنين وبنات، متزوجين وعزاب. وكان من المنتظر أن يعاد النظر في الحصص بعد تطور نظم الإنتاج في المجتمع الإسلامي لتكون متساوية بين الجنسين، وهذا ما قام به الدروز حيث ساووا بين الإبن والإبنة في الميراث. والدروز مسلمون فلاسفة وليسوا فقهاء، هذا ما جعل تحكيم العقل عندهم متقدم على حاكمية النص الإلهي وتطوير شريعة جديدة، لا يتوانى البعض في القول بأن هنالك شريعة درزية مع أن ذلك لا يخرجهم من الاعتقاد بالثوابت الإيمانية في الإسلام.
وفيما يخص الاشتراكية فإن هذه المسألة ثانوية عندهم. ينقل المفكر العراقي هادي العلوي عن زيارته للصين عام ١٩٧٩ وهو عام الإنقضاض على نظامهم الشيوعي بأنه لم تكن لديهم مواريث بعد أن ألغوا الملكية الخاصة وأعادوا توزيع الثروة على الناس بالتساوي. فلا يبقى لدى أحد مال شخصي يوزع على الورثة. وفيما يخص المهور ألغت الصين المهر في عقد الزواج بصفة أن العلاقة الزوجية هي علاقة روحية في المقام الأول لا تقوم على لذة الرجل دون المرأة ولا يجب أن تدخل فيها مصارفات البيع والشراء. وفي المقام الثاني أن المرأة العاملة ليست بحاجة للمال. فتجري ترتيبات الزواج البسيطة بين العائلتين دون ذلك(٢)
ب - رأي عقلي
هناك رأي عقلي لكمال الحيدري وهو شخصية إسلامية معاصرة، يقول بأن مسألة الميراث كانت ترتبط دائما بالكيفية التي ينتج فيها المجتمع اقتصاده. ففي المجتمع البدائي لم يكن هناك توريث للمرأة لأنه لم يكن لها مشاركة في الحياة الاقتصادية، أما في المجتمع الزراعي فقد نزلت المرأة مع الرجل للعمل ولكن إنتاج الرجل كان ضعف إنتاج المرأة، لأن عملية الحرث والحصاد كانت تحتاج لجهد عضلي والرجل أقوى بدياً، إضافة لما يصيب المرأة من حالات كالحيض والحمل والولادة تجبرها على القعود. أما في المجتمع الصناعي الذي نعيشه اليوم فإننا أصبحنا نعتمد على الجهد الفكري وليس العضلي، وبه دخلت المرأة ميادين متعددة وقد فاقت نظيرها فأصبحت مهندسة ومعلمة وطبيبة، وقد يفوق دخلها دخل زوجها أحيانا، فهل يمكن أن نقول اليوم بأن النفقة يجب أن تكون على الرجل وحده، وإذا كانت المرأة تشارك الرجل في النفقة، فإن هذا النظام الإقتصادي يجب أن يحيل للمساواة في المواريث!(٣)
ج - الزواج الضرائري وحرية الإختيار
يعتبر تعدد الزوجات من المسائل الجدلية اليوم بين المدافعين عن حقوق المرأة والإنسان وبين الفقه والتجديد الفقهي من داخل الإسلام نفسه. فالمسلم يبيح تعدد الزوجات لكنه لا يقبله من ناحية أخرى على أخته أو أمه أو ابنته. ما نتفاجأ منه حينما ننظر للتشريعات في سياقها التاريخي هو اننا نستشف أنها ثورات تتعلق بما يحدث على الأرض أكثر مما يتعلق بتاريخ السماء. فالإسلام لم يبح تعدد الزوجات إنما كان التعدد قائم وقد عرفته جميع المعاشر القديمة قبل أن تنتقل من حالتها البدائية - الأمومية - إلى حالة التحضر الأبوي - الذكوري -. وكان التعدد في الجاهلية بلا قيود. فقلصه الإسلام إلى أربع. يورد هادي العلوي عن "المحبِّر" لإبن حبيب أسماء مَن كانت لهم عشر زوجات فسرحوا منهن ست وأبقوا على أربع. أما لماذا لم يخطو الإسلام على خطى المسيح بإلغاء تعدد الزوجات وإقامة العائلة الوحدانية؟ فيعلل العلوي بأن نبوة محمد بعد فتح مكة أصبحت أقرب لنبوة موسى منها إلى المسيح، فهي نبوة دولة وليست نبوة خالصة كاليسوعية التي انتهت بضرب الدولة الرومانية لمعشرها منذ تكونه. وكان يهدف النبي محمد لتكثير عدد المسلمين بغرض توسيع الدولة الإسلامية ومن أحاديثه: "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد" و "إني مكاثر بكم الأمم". وكان هناك قطبان إسلامياً لم يقبلوا بتعدد الزوجات ولا بالتسري - إتخاذ السراري أو الجواري - وهما أبو ذر و سلمان الفارسي. لكن بعد توسع الدولة الإسلامية وعدم الحاجة لتعدد الزوجات كانت خطوتهما تنتظر ثورة أخرى هي ثورة الإسماعيلية و القرامطة اللتان ألغتا الزواج الضرائري ولو أنهما لم تستمرا شأنهما شأن التحولات الثورية المجهضة. وكان أكثر من دعا للعائلة الوحدانية وإلغاء تعدد الزوجات هو الفيلسوف والشاعر المسلم أبو العلاء المعري، وله بيت يقول:
قرانك ما بين النساء أذية لهن فلا تحمـــل أذاة الحــرائرِ
أما في ما يخص حرية اختيار الزوجة لزوجها فيُنقل حديث عن النبي: "لا تُنكح الثيب حتى تُستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن". والثيب هي من تزوجت سابقاً فامتلكت تجربةً ونضجاً يخولانها تقرير مصيرها واختيار طريقة حياتها. وتتفق جميع المذاهب بخصوص الثيب. والخلاف الأشد يقع فيما يخص البكر. فمن منطوق الحديث يجوز لها الرفض حتى لو وافق الأب على الزوج، وتبقى حرية الثيب أوسع من حرية البكر في الاختيار بحكم الفرق بين الاستئمار والإستئذان. وربما ما أثار حفيظة الحركات الإسلامية هو إعطاء تونس حرية أكبر للمسلمة من الزواج من غير المسلم.
تبقى تونس سباقة دائما في عصرنا الحديث لمثل تلك الخطوات العقلية وهي كما رأينا ليست الوحيدة ولا الأولى ولا الأخيرة في تاريخها التي تجعل حاكمية العقل متقدمة على حاكمية النص. وكان الصراع دائما ما يحكم تاريخ الإسلام بين الحركات السلفية والحركات الفلسفية، وصلت في أقصى مداها للتكفير وإباحة دم فيلسوف ما بتلك الحجة كما يصدر اليوم عن وجدي غنيم اتجاه التوانسة.
التشريع الإسلامي كما رأينا هنا لم يكن مجحفاً للمرأة بل كان متقدما على الجاهلية من ناحية الحقوق التي أتاحها لها. وإن نزعه عن سياقه التاريخي هو ما يجعل منا غير قادرين على فهم ذلك فنحاكم بعض تشريعاته بصفتها غير متوافقه مع التقدم الأخلاقي أو الاقتصادي الحالي، أو يقودنا لإزاحة الصفة التاريخية للتشريع فنجعل منه تشريعا كونياً واجباً لكل مرحلة تاريخة ولكل مجتمع مهما كان مختلفاً في نمط إنتاجه أو البنية الاجتماعية والاقتصادية عن بيئة مكة اثناء الدعوة الإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(١) (يوتيوب) الباجي قايد السبسي: ماضون نحو المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة
(٢) فصول عن المرأة، هادي العلوي، الطبعة الأولى ١٩٩٦، دار الكنوز - بيروت، ص٤٧ و ص٤٨
(٣) (يوتيوب) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة