اليمين: حسين مروّة. اليسار: محمد باقر الصدر |
هذه مقارنة بين رؤيتين تناولتا موضوع التشيع بصورة مختلفة، الرؤية الأولى يمكن أن نطلق عليها دعوية، لأنها من داخل التشيع نفسه، وهي رؤية - محمد باقر الصدر (شيخ وفقيه شيعي١٩٣٥-١٩٨٠م) -. والرؤية الثانية يمكن أن نطلق عليها رؤية تحليلية، والتي تعتمد المنهج المادي في قراءة التاريخ، وهي رؤية - حسين مرُوَّة (مفكر لبناني ١٩٠٨-١٩٨٧م).
قبل كل شيء نشير إلى أن محمد باقر الصدر يعتبر من عِظام فقهاء شيعة القرن العشرين، حيث رد في كتابه "فلسفتنا" على الرؤى المناوئة للفكر الإسلامي وبالخصوص الماركسية التي كانت تأخذ مدىً واسعاً بين المثقيفين العرب الطامحين للتحرر الوطني والقومي. وقد قُتل الصدر في عام ١٩٨٠م وكان من أهم الأسباب التي أدت لذلك معارضته لحزب البعث العراقي وتحريمه الإنتماء إلى صفوفه.
في المقابل يُعتبر حسين مروة مفكراً ماركسياً من أفذاذ المفكرين العرب، وهو أول من استخدم المنهج المادي في قراءة التاريخ العربي الإسلامي ضمن كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" محاولاً أن يقدم دراسة شاملة حول تطور الإتجاهات الفلسفية والكلامية والفقهية عند العرب منذ الجاهلية إنتهاءً بالعصر العباسي. قُتل حسين مروة أيضاً في الفترة التي كانت فيها الحرب الأهلية في لبنان تلتهم كل شيء، وكان أهم سبب لقتله هو ما قدمه من رؤى في هذا الكتاب ومشروعه التقدمي في التحرر الوطني المناهض للطائفية ودولة إسرائيل.
يقدم محمد باقر الصدر في كتابه "نشأة الشيعة والتشيع" بالنسبة لأمر الخلافة الإسلامية وموقف النبي محمد منها في حياته ثلاثة احتمالات: الأول - إهمال النبي محمد لأمر الخلافة من بعده وتركه بيد الناس: وهو بالنسبة له موقف سلبي. الثاني - نظام الشورى: وهو موقف إيجابي لكن المسلمين لم يكونوا مهيئين لمثل هذا النظام حيث لم يكن هناك شكل واضح لطريقة الشورى التي يجب أن يمشي المسلمون على خطاها. الثالث - الإختيار والتعيين ممثلاً في شخصية علي بن ابي طالب. وهذا الاحتمال هو الإيجابي بالنسبة لمحمد باقر الصدر وعموم الشيعة.
بينما يقدم لنا الصدر فكرة إيمانية واضحة باعتبار التشيع الحالة الطبيعية للإسلام أو الحالة الإيجابية له، يقوم حسين مروة بالبحث عن الجذور الإجتماعية لتكوّن هذه النظرة، ليس باعتبارها صراعا بين الجانب القويم "التعبدي" ممثلاً بالشيعة والجانب السياسي "الاجتهادي" ممثلاً بالسنة كما عبر عنه الصدر، بل باعتبار مشكلة الخلافة نتيجه لصراع كامن في حياة النبي محمد بين مكونات مختلفة ومتباينه هي ليست بين مكونين "شيعي/سني"، بل بين مكونات متشعبة ومعقدة أكثر من ذلك. إن مصطلح "شيعة" كما يتفق الصدر مع مروّة لم يكن موجوداً في تلك اللحظة، حيث يقول محمد باقر الصدر: "إذا كنا لا نجد كلمة -شيعة- في اللغة السائدة في حياة النبي(ص)، أو بعد وفاته، فلا يعني هذا أن الإطروحة والاتجاه الشيعي لم يكن موجوداً"(١). وقد عارض الناشر كلام الصدر هذا حيث رد في الهامش عليه بكلام لابن عساكر يستدل فيه بوجود مصطلح شيعة منذ عهد النبي. والاستدلال بابن عساكر ليس من العلمية في شيء، لأنه من مواليد القرن السادس، ويتحدث بمصطلحات مجتمعه لا مجتمع النبي أنذاك، حيث يفصله عن ذلك العهد ٥ قرون.
بالنسبة لمرُوًّة، يمكننا أن نطلق على الصراع الذي نشأ بعد وفاة النبي بأنه البذرة التي شغلت معظم الإتجاهات الكلامية: من معتزلة، وأشاعرة، ومرجئة ومنطق، وجبر، وقدر، من ثم الفقه ومدارسه. وهي البذرة الأولى لثمرة التنظير الإسلامي والمذاهب الإسلامية، إن الصراع ذاك كان يمثل صراعا بين تكتلات قبلية، بين فئة المهاجرين -أي أهل مكة-، وفريق الأنصار -أهل المدينة الذين استقبلوا النبي في هجرته-. حيث يرى أنه وبعد وفاة النبي ظهرت فجأة رواسب هذا الصراع القديم بين مكة والمدينة. نشأت بعد الهجرة إلى المدينة مؤسسة شبه مشاعية تقوم فوق القبيلة كون الإسلام كدين يقوم على إطار موحد جامع، إلا أن هذه المؤسسة ظهر فيها تمايز ملحوظ بين المهاجرين والأنصار، كان للمهاجرين فيها النصيب الأكبر من الغنائم والأماكن القيادية، حيث كان لأبي بكر وعمر بن الخطاب الدور الأول في تنظيم شؤونها.
تنبهت لدى المهاجرين أنفسهم انقسامات أخرى لها رواسب قديمة في الجاهلية: "بين بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي وصهره وابن عمه علي بن ابي طالب واصحابه من جانب، وبين عبدشمس وتميم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي إليهم سائر المهاجرين(٢). من خلال هذه المواقع التي يمثلها كل فريق نشأت النظرية التي حاول كل أن يدافع عن موقعه من خلالها
ينقل مروة تسلسل الأحداث عن مصدرين تاريخيين معترف بهما عند عموم المسلمين هما تاريخ اليعقوبي -ت ٢٨٤هـ- وهو مؤرخ شيعي يصنف من المؤرخين المحترفين لا الدعاة، والثاني هو تاريخ الطبري -ت ٣١٠هـ- أيضا مؤرخ سني محترف طغت حياديته التاريخية على ان يكون داعياً سنياً:
"في البدء كان علي بن ابي طالب والعباس بن عبدالمطلب عم النبي وأسامة بن زيد مشغولين في غسل جثمان النبي وتكفينه، ثم حملوه إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها في بيت عائشة، فسُمع منادياً من الأنصار يقول: إجعلوا لنا في رسول الله نصيباً. فاعتقد -علي- أنهم يريدون أن يكون لهم نصيبا في دفنه، حيث دعى أحد الأنصار ويسمى"أوس بن خولي" للمشاركة في عملية الدفن. وقد تبين ماذا كان يقصد الأنصار من كلمة "نصيب" سريعا، فبينما كان علي بن ابي طالب يدعو صاحبهم أوس اجتمع زعماء الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليعلنوا خلافة المسلمين بعد محمد لزعيم الخزرج الأنصاري "سعد بن عبادة". ولما بلغ الأمر أبا بكر وعمر بن الخطاب وبعض المهاجرين جاؤوا مسرعين فأبعدوا الناس عن سعد، وشق أبو بكر طريق الإجتماع قائلاً: "يا معاشر الأنصار منا رسول الله ونحن أحق بمقامه". فقال الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير". فقال أبو بكر: "منا الأمراء ومنكم الوزراء". واحتدم الصراع وكانت الفتنة ان تحدث بين المهاجرين والأنصار في دار السقيفة، حتى قام "ابو عبيدة الجراح" وهو أحد زعماء الأنصار بحسم الموقف للمهاجرين وذلك بمبايعة أبي بكر بالخلافة... غير أن الصراع لم ينحسم فعلاً مع غياب بني هاشم عن تلك العملية".
هذا هو مختصر ما نقله الطبري إذ أن الصراع لم يكن مجرد صراع بين جانب "تعبدي" ممثلاً بالشيعة، وجانب "يجتهد على حساب النص" ممثلا بالسنة. يمكن أن نرى أن الأنصار ومبادرتهم الأولى بالاجتماع في أمر الخلافة هو نتيجة لاحساسهم بأنهم الأكثر بعدا والأقل نصيبا فيها، إذ لجأوا للشورى سريعاً، واتخذ المهاجرون من غير بني هاشم تلك النظرية "الشورى" لأنهم كانوا أقدر على الفعل فيها، بينما لجأ بنو هاشم لنظرية التنصيب الإلهي التي ارتبطت بحادثة الغدير مبدأً لهم - وهي حادثة تاريخية تعترف بها جميع المذاهب الإسلامية -، لكنهم -المسلمون- اختلفوا في تفسير معنى كلمة "مولى" بيوم الغدير، بل إن المهاجرين اعتبروا تسليم النبي لأبي بكر إمامة الصلاة بعد مرضه الأخير دليل خفي على إمامته الكبرى للمسلمين...
يستكمل اليعقوبي قائلا: "لما علم بنو هاشم بالأمر ثار بهم الغضب، وقدم بعضهم إلى حيث حدث الأمر، فوقف عتبه بن أبي لهب ينشد شعراً يمدح به علياً بن ابي طالب وكأنه يرشحه للخلافة إلا أن علياً بعث إلى عتبه هذا ينهاه عن دعوته التي أعلنها، لكنه في نفس الوقت -أي علي- تخلَّف عن مبايعة أبو بكر ومعه جماعة من بني هاشم وبني أمية..." وينقل الطبري أن أبا سفيان بن حرب (أبو معاوية مؤسس الدولة الأموية) تخلف عن مبايعة أبي بكر، وقال مثيراً زعماء قريش: "أرضيتم يا عبد مناف -وهو أحد أجداد القبائل القرشية- أن يلي عليكم هذا الأمر غيركم؟) حيث أن بني أمية وبني هاشم معاً -بالرغم من اختصامهم- غضبوا أن يتولى الخلافة رجل من تميم".
هذا الشكل الجديد من الصراع لدى العرب هو ما يفسر نشوء أقوال مختلفة في مسألة الخلافة لدى القائلين بوجوب أن يكون الخليفة من بني هاشم في قريش: "وهي رؤية بنو هاشم وأنصارهم" أم في قريش بوجه عام "وهي رؤية بنو أمية وغيرهم من القبائل القرشية" أم يصح أن يكون من غير قريش في العرب "وهي رؤية الأنصار مع المهاجرين من غير قريش". وسينشأ مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين تيار آخر يقول بأن الخلافة تصح في العرب وغير العرب من المسلمين (حتى لو كان عبداً حبشياً) "تلك هي رؤية الخوارج".
يحاول مروَّة إذا أن لا يقدم إيماناً بقدر ما يحاول أن يقدم فهماً لطبيعة الصراع التاريخي الذي تنشأ منه النظريات الإيمانية، معتبراً ذلك الصراع ليس صراعاً شخصانياً، وإنما صراعاً حتمياً يمر بجميع مراحل التاريخ المشابهة، حيث تنتقل القوة من القبائل إلى المركز -الدولة-، تلك القوة التي يدور الصراع حولها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) نشأة الشيعة التشيع، محمد باقر الصدر، مركز الغدير للدراسات الإسلامية-بيروت، الطبعة الرابعة ١٩٩٩م، ص١٦
(٢) النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، حسين مروّة، دار الفارابي، الطبعة الأولى٢٠٠٢، ج١، ص٤٣٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق