تستند معظم المذاهب الفقهية الإسلامية في تحريمها للغناء على الآية السادسة من سورة لقمان: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم". ويبدو من غير المنطقي تفسير الآية على أنها وردت في الغناء إذا ما كانت نتيجة الاستماع للهو الحديث هي أن يضل الإنسان عن سبيل الله!
سبب النزول وسبب التحريم
في أحد المحاضرات للشيخ محمد الشعراوي (١٩١١ - ١٩٩٨م) يخبرنا أن الآية نزلت في مورد الحديث عن الجماعات التي كانت معروفة في ذاك الوقت ضمن الجماعات التي تقود الحركات المضادة لمنطق القرآن وأحاديثه، وكانت قد نزلت تحديدا في النِّضر بن الحارث لتثني الناس عن الاستماع إليه، ويبدو أن هذا التفسير أكثر منطقية لأن التضليل لا يكون بالغناء وإنما بالأفكار المضادة.
ويتفق المفكر العراقي هادي العلوي (١٩٣٣ - ١٩٩٨م) مع هذا الرأي وهو باحث في التراث وعالم لغة ولسانيات، حيث يقول في كتاب "مدارات صوفية" أن معظم الفقهاء يتفقون على تحريم الغناء بينما القرآن لم يحرمه، وإنما وردت آية أولوا فيها لهو الحديث بالغناء، والتأويل متعسف فالآية واضحة في دلالتها على التضليل وليس الإلهاء. أما عبارة لهو الحديث فيراد بها الحديث الضال الذي لا معنى فيه وكان أهل المدينة يغنون في عهد النبي وكانت فيها مجالس غناء صاخبة كمجلس حسان بن ثابت. ويقول العلوي في سبب التحريم: "ويمكن أن يتحمل عمر بن الخطاب مسؤولية التحريم ضمن اتجاهه في تركيز اهتمام المسلمين بالمهام الثقيلة في بناء الدولة والمجتمع وتوسيع الإسلام بالفتح"(١)
كل فن ينتسب إلى المعيار الأخلاقي
يعرف السيد محمد حسين فضل الله (١٩٣٥ - ٢٠١٠م) على أنه من أبرز فقهاء الشيعة المعاصرين الذين قاموا بالثورة على بعض المفاهيم والتصورات والروايات التي تُصَنَّف "ضمن المشهور الذي لا أصل له". في كتاب معنون بـ "حوار مع السيد محمد حسين فضل الله" وَرَدَ في رده على سؤال يقول: هل الموسيقى كلها محرمة؟ أن قال: "إن الموسيقى التي تريح الأعصاب والموسيقى التي تجعل الإنسان يعيش في أجواء روحية عالية، والموسيقى الحماسية، هذه كلها ليست محرمة. وما ينطبق على الموسيقى ينطبق على الغناء" ويقول أيضا بأن هذا هو رأي المرجعين الشيعيين: الخوئي والخميني.
كل فن إذاً يخضع إلى المعيارية الأخلاقية، فهناك فن هابط وهناك فن رفيع، وربما تخضع أشياء عديدة لهذه المعيارية الأخلاقية، حتى الدم. فالدم واحد، ولكنه في الإسلام يأخذ مواضع معينة قد يكون فيها مقدساً: كدم الشهيد. وفي مواضع أخرى قد يكون نجساً. والشِّعر فن واحد، ولكنه محبذٌ حين يكون شعرا يحمل مشاعر حب صادق، أو حين يكون رثاءً لشخصية عظيمة، أو حين يستدعي القيم الثورية في الجماعات، ويكون كأداة للتحشيد ضد العدو والنهوض بهمة الجنود والشعب، ويكون محرماً إذا ما دعا وشجع على أمور يعتبرها الإسلام غير أخلاقية: كالشذوذ الجنسي، ومدح السلاطين الجائرين، وكثيرا ما وقف الشعراء عند هذه الأبواب.
يبدو أن تحريم الغناء والرقص عند معظم الفقهاء جاء من هذا الباب، من باب النظر إلى معيارية أحادية في تقييمه كفن هابط يلهي الناس عن ذكر الله، ولكن ماذا لو كان الرقص والغناء يقود إلى الاندماج مع الذات الإلهية؟ ذلك ما نجده عند المتصوفة مثلا، حين يتحول الغناء من مجرد ملهاة إلى وسيلة ذكر، وحين تفتح لك رقصة الدرويش معاني إنسانية عميقة ترتقي بفكر الإنسان واتصاله ليس بالله فقط وإنما بأخيه الإنسان، ربما لا نجد ذلك في أي مذهب إسلامي.
كنت استمع إلى فيروز مرة فقال لي أحد الأقرباء المتدينين: ما هذا الذي تسمع! فقلت: مناجاة. فضحك مستهزئ. وكانت فيروز تغني: "بيتي أنا بيتك وما إلي حدا". وحين وضعتُ أغينة: "عندما كنت صغيرا" لخالد الشيخ، التي يكون مطلعها: "إلهي أعدني إلى وطني عندليب". علقت عليها حين نشرتها بكلمات قلت فيها: "حين تتحول الأغنية إلى مناجاة، ويصبح صوت المغني كصوت نبي، أو حكيم من أرض فارس القديمة، يأخذ الله بيديه إلى الشعر، ويأخذه عصفور أزرق من النافذة إلى نايهِ، فيطلق تغريدته الخالدة". أعجب بها كثيرون، لأنه كان هذا ما شعرت به حقا، وربما هم كذلك حملتهم على بساطها إلى سماء الله عليلة.
قيل: لا يصح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي، نفس ذبحت بسيوف المجاهدة وقلب حي بنور الموافقة(٢). وهكذا أيضا كان فن الشعر عند حيكم سنائي، حيث يقول في حديقة الحقيقة: "إلهي لقد جعلت نسبتي إليك في حين أن كل شاعر ينتسب في شعره إلى هذا وذاك". وفي عوارف المعارف يرد شيخ الإشراق السهروردي على محرمي الغناء فيقول: "ماذا يُنكَر من محبٍ تربّى باطنه بالشوق والمحبة ويرى انحباس روحه الطيّارة في مضيق قفص النفس الأمّارة، يمر بروحه نسيم أُنسِ الأوطان وتلوح له طوالع جنود العرفان وهو بوجود النفس في دار الغربة يتجرع كأس الهجران، يئن تحت أعباء المجاهدة ولا تحمل عنه سوانح المشاهدة، وكلما قطع منازل النفس بكثرة الأعمال لا يقرب من كعبة الوصال ولا يكشف له المسيل من الحجاب فيتروح بتنفس الصعداء ويرتاح باللائح من شدة البرحاء، فيقول مخاطباً للنفس والشيطان وهما المانعان:
أيا جَبَلي نعمـــان بـالله خلِّيا نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
وهو يقول لهم هنا: دعوني استمع إلى هذه الأصوات فهي واحدة من السبل لاتصالي به في دار الغربة والهجرة عنه، وهكذا يكون الشعر والغناء فن تجلٍ وفن مشاهدة وليس فنا للتخلي عن ذكر الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) مدارات صوفية، هادي العلوي، الطبعة الأولى: دار المدى ١٩٩٧، ص١٧٣.
(٢) الرسالة القشيرية، عبدالكريم بن هوزان القشيري، فصل: شرح المقامات أو مدارج أرباب السلوك، باب: السماع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق