الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

الوجدان بين الحيرة واليقين

لوحة لدرويش صوفي يؤدي طقوسه الدينية

 

ديالكتيك

 
لا يمكن أن يكتب أحدهم بلغة محدودة ثم يفرض على اللامحدود أن يقرأ, ذلك إستبداد من يفرض على الأمي إمساك القلم والكتابة، فيقول لا أعلم. فتكون لا أعلم سبب في حرقه وتعذيبه. من يفهم العالم بهذه الصورة هو كمن وضع شيطانه موضع الآلهة.
 
ربما افضل تعريف قرأته عن معنى (الآلهة) أنها شعور ذاتي مكتسب, يفهمه الإنسان من خلال المحيط بشكله وتاريخه وحاضره وحضارته المحدودة, فيكون العالم أوسع من هذه الآلهة. يمكن للآلهة  أن تكون بحجم العالم عندما نعيش التأمل عقلا وقلبا لا نقلا وقولا. أتذكر أحد المتروحنين حين قال إن الحياة الروحية حياة فردية معاشة, هي كالشخصية تماما تختلف من شخص لآخر.
 أما الحياة الروحية التقليدية فهي تعيش اليقين بالتلقين وفي أحيان كثيرة تؤدي الطقوس الدينية مسايرةً خوفا أو طمعاً لا قناعة قلبية حقيقة لأن الحياة الروحية التي وصل لها أحد المتألهين لا يمكن أن يشعر بلذتها الإنسان التقليدي كما المثل الدارج في الإسلام: "ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج". في الواقع كانت غاية العبادة ابعد من كونها طقوس دينية إذ كانت تعني الإلتزام بالوعود والصدق والشرف والإحساس بالفقراء وآهات المعذبين والمشردين. فكانت العارفة رابعة العدوية تناجي ربها وهي تقول: ماعبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك, وإنما عبدتك لأنك أهلاً للعبادة. وكذلك علي ابن ابي طالب في مناجاته ربه.
 
ألف علي الديري كتابا عنوانه كيف يفكر الفلاسفة مؤخرا. قال فيه: "الإنسان يتصور الآلهة من خلال عقله وحواسه الخمس وما يدركه من خلال المحيط الذي يعيش فيه". وهي مقوله حقيقية لا يمكن نكرانها ومر على الانسان حين من الدهر كان لا يدرك ما معنى النار وكيف يشعلها, وأول  ما بدأ يتعلم ويدرك الأشياء أخذ يتفكر في روح الكون وضعها بداية في المحسوسات فسبقت الوثنية تاريخ الأديان السماوية, ونجد في كل مجتمع برزت فيه الديانة السماوية أو الآلهة الماورائية كانت تسبقه آلهة محسوسه, أو شيء من الطبيعة كالنار والشمس وجاءت الميثلوجيا الإغريقية بعد أن كانت لسنوات عديدة ترى في المحسوسات إلها. لأن العقل يتدرج في كل تنظيم إجتماعي في التعرف على الماورائيات وحركة الكون الواحدة, وقد كنت أشاهد أحد المقاطع المصورة لأحد المجتمعات التي تعيش حياة ما قبل العصر الجليدي, إذ تستحم النساء والرجال في أحد البحيرات في وسط الغابات بلا ملابس وترضع إبنها أمام كافة أفراد القبيلة بينما نحن نجلس هنا أمام كافة أدوات التكنلوجيا المتطورة وننظر لهذا العالم الواسع. ولست أعلم هل يملك مثل هذا المجتمع آلهة ما أم لا.
إنّي لازلت مؤمنا أن الإنسان بحاجة للطرح المادي للتاريخ وتفسير للأديان كظاهرة إنسانية وطرح أمور مثل الفلسفة الكونية لمعرفة سر الكون فهو لا يزال مجهولا وأعتقد أنه من أصعب الأسرار التي سعت اليها البشرية من فلاسفة وعرفاء والذي نهضت من أجله النبوات فحققت هذه التنظيمات الإجتماعية المختلفة, وقتل في سبيله فلاسفة الحضارة الإسلامية وحرقت كتبهم عندما طرحوا أسئلة وجودية تخالف ما جائت به الشريعة.
 
وقد يعيش الإنسان في حالة تأمليه طوال حياته ولا يصل إلا للحيرة, وكانت الحيرة هي عين الحقيقة عند فيلسوف الحضارة الإسلامية إبن عربي، إذ يقول:
 
أشهدني الحق بالحيرة
قال لي: إرجع, فلم أجد أين.
قال لي: أقبل, فلم أجد أين.
قال لي: قف, فلم أجد أين.
في الحيرة تاه الواقفون. وفيها تحقق الوارثون. وإليها عمل السالكون. وعليها إعتكف العابدون. وبها عمل الصديقون, وهي مبعث المرسلين ومرتقى همم النبيين, ولقد أفلح من حار.
 
 
كل من حار وصل والذي إهتدى إنفصل. مقوله دقيقة تعني أن الحق موجود على ماهو عليه لا كما نحن عليه.
وموجود كما يريد لا كما نريد. ومؤسف أن يظن الإنسان أنه إهتدى بذاته, وعمر الذات لم تصل. فكل محدود منفصل.
وما على الوجود بمستنكر أن يجمع الموجود في واحد, ولكن الإنسان حين يريد ذلك يعجز كما تعجز الآلهة في جمع العالم تحت رايتها, ومن أراد ذلك إختل ميزان يده فقتل وسفك وتفصد الدم من مناخيره وفمه, فالعالم أوسع من الحقائب. أما النبوات فهي كما أشار لها هادي العلوي في مداراته: جماعة من المثاليين كانت لهم نظرتهم المحدودة للوجود فأدمغوها بالمطلق.
 
والمطلق هو الوجود وإن كان واحداً في فلسفة وحدة الوجود فله أكثر من ظل وأكثر من صورة كلها تطلب الحق والوصول لماهية الروح الكونية فتلك الظلال والشذرات الروحية إنما هي دليل على وجود روح الكون وكل الوصول الموجود هو وصول قلبي لا وصول كلي أو حقيقي: هل هي التاو أم هي المادة الأولى أم الهيولى, أم الله. فكلها مطلقات محدودة ولها مؤمنين محصورين بنطاق الفكر والعقيدة المكتسبة, ولكن الخالق الحقيقي عند ابن عربي غير قابل للحصر  فحقيقته حقيقة جامعة لكل الحقائق القلبية, والقلب سمي بذلك دليل التقلب. فالموجود-العالم- متعدد في وحدة الوجود-الروح الواحدة للكون-. فما على الموجودات إلى الحيرة وما على الوجود إلّا الرضى بما شاء وقَدّر. إن كان يدري فهو أرحم الراحمين. وإن إدعيت الدراية فأنا أجهل الجاهلين.
 
الختام:

المستقيم الذي قامت قيامتـه        من غير موتٍ ولا يدري بهِ أحدُ

وليس يعرفه من أمرِ خالقـهِ        مـن الخـلائــقِ لا أهـــلٌ ولا ولـدُ

 

 

 
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق