السبت، 23 مايو 2015

عبدالإله الياسري - غُربَةُ الرُّوح والمَنْفى

صورة شخصية للشاعر عبدالإله الياسري

- في شِعرهِ المنظوم


عندما تمتلئ المكتبات بالشِّعر ويُغَيِّب المنفى حضور الشاعر على الرَّف. لابد من مساحة للشاعر أو المفكر أو المناضل أو الأديب أو أي شخصية قد غابت عن مكانها او إدراكنا ولو من باب ان تكون تعويضة لما قد خفي...:

شراب غيري كأسٌ ملؤها الرّاحُ وملء كأسي متاهاتٌ وأتراحُ
ترتاح بالنــومِ أجفانُّ إذا تَعِبَتْ وأعيُني بإصطِحابِ النَّجمِ ترتاحُ


هذا هو مطلع قصيدة "أرق النجم-الغربة" التي تعبر عن غربة الشاعر الروحية وهمومه الإجتماعية الملتزمة بحب الخلق وليس كهم الأغيار من أصحاب السلطة الذين يركضون خلف الأرباح والجاه والشهرة. حيث يقول:

ولَيتَ همّي كَهَمِّ الناسِ مأدبةٍ وفيضُ مالٍ وكُرسِيٌ وأَرباحُ


وتنتهي القصيدة بهذين البيتين:


وَحدي بضجة ليلي صامتاً أبدا متى أصيحُ ويُجلي اللَيلْ إصباحُ
أنا الغريبُ بِجُرحٍ لا يُسَكِّنَهُ وَصلُ الحبيبِ ولا يأسوهُ جَرَّاحُ


وصدق د. سعيد عدنان حين قال: (من قرأ قصائده الأولى، أو سمعه يُنشِدُ شيئاً منها ظل يتسقط أخباره ويتطلب أشعاره). وكانت هذه أول القصائد التي سمعتها له؛ والتي ذُيِّلَتْ في كتاب مدرات صوفية للغائب الحاضر هادي العلوي فظلّت راسخة في مخيلتي واخذتها عنوانا اكتبه على صفحات دفاتري ومصادفة حين كنت أبحث عن قصائده توصلت إلى صفحة له على إحدى مواقع التواصل الإجتماعي فأحببت فيه روحه المتواضعة وحسه الإنساني. سَيُقال كيف عرفت ذلك من خلال وسيلة إفتراضية للتواصل. أقول لأنه لا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا ويحيه ويشجع فيه الكتابه والإبداع.
وأقول أيها الياسري البعيد بالجسد القريب من الروح مهما غربت المنافي الطيور الجريحة تظل تحلق في سماء الحرية طالعة نحو قبلتها الأولى تحمل معها العراق اينما حلت فمن بغداد الى المغرب حتى كندا ما برحت تغنيها فقلت في "إنحناءات بين يدي بغداد":

ما للقناديل لم تُسرَج لقافِلَتي هل أوحَشَتها غيومُ الأرضِ أم صُوَري؟
ما للمرافئ لم تَضحَك لِأَشرِعتي وقَد تَحَطَمَ في آفاقِها كِبَري؟
تَمَخَضَ الجُرحُ عن آهٍ تُمَزِّقُني وأَعشَبِ الدَمعُ في كأسي وفي وَتَري


وردا على بغداد ووطننا العربي نقول إنه وإن لم تسرج لك القناديل في وطنك فإن آلاف القلوب تتوقد حين تسمع آلام هذا المعنى، وإن لم تضحك لك المرافئ فإن مئات الأفئدة تصبح مرافئ تستقر بها حين تشعر غربتك، وليس لهذا الإستقرار لشِعرك في الفؤاد إلا تمظهرا او تجليا لثنائية الألم والغربة التي إمتزجت بالمحبة والحنين في ذاتك:


ها أنا يا بَغدادُ جِئتُكَ ميتاً قِفي وإخلطي الحناء بالمدمع الهامي


- في شِعرهِ الحُر


1/

وقفت تتسول في باب القحط الغيمة
تتضرع تقرأ أدعية الغيثِ
والقحطُ لها يُقفِلُ سَمعه
لن تَكسِرَ فَرحَتهُ دمعه
والقَحَطُ يُهاجِرُ
وتَظَلُّ الغَيمةُ واقفةَ في البابِ الموصدِ خجلانه


2/


ما عاد العصفور يُزَقزِق
ما عاد لزقزقته من أفق
الآفاق إنغلقت
والمفتاح يصيرُ نَعيق


حول المقطعين علّق د. سعيد عدنان: (إن الغيمة السائلة هي العصفور الذي فقد زقزقته وهي الأفق المغلق كلها كان يُنبئ عما كان يكتنف الشاعر ويزيد من غربته ويريه ضيق الأفق وإنسداده).


3/


حيرانٌ عِطرُ القَدَّاح
ما بين الصَخرةِ والصَخرَة
لا الصَخرةُ يُورِقُ فيها الحِسُّ
ولا القَدَّاحُ يُخبِّئ عِطرَه


في هذه القصيدة يُشَبّه الشاعر نفسه بالقّداح وغربته الفكرية والروحية إضافة لغربة الوطن بعطر القدّاح ما بين صخرتين لا ينمو فيهم الحس ولا الشعور برائحة عطره الزاكي، ولكنه رغم كل هذا الواقع الأليم لا يُخَبِّئ عطره.


- بيتان


في حق الشاعر الياسري كتبت بيتان اقول فيهما: 

كَم يَرفَعُ المال سُخفُ لا جمالَ به ولا حُسنُ ولا فِكرُ وإخلاقُ
ويُلحِقُ التاريخُ كم مِن عالِمٍ فَطِنٍ في حُقبَةِ الإهمالِ جَرَّ المَوتِ إلحاقُ


وذلك حين سألته: (لِمَ تَغيب أشعارك ودواوينك عن مكتباتنا تلك الأشعار التي تتغنى بالمرأة كروح وبالغربة الروحية في الوطن وخارجه في المنفى؟)
فإختصر عليّ قائلا: (أنا لا أريد الشهرة ولا أحب المنافسة بين الشُعراء. كذلك الطيور هي مثلي أو انا مثلها...).
تُرى كم تَغيب عن الكواكب عقول كالشاعر عبدالإله الياسري ولا نعرف عنها شيئا؟... بينما تُسمع أصوات النعيق بل وحتى النعيق لا يمكن أن يؤذي بشرا مثلما تفعل هي. ولم تُكثَر فيها الأصوات لأنها على الحق بل لأنها فقط تتلاءم مع الآيدلوجية المسيطرة. اما أنا أبحث عمّا هو غير ملائم أحيانا بل من لا حول له ولا قوة غير كلماتي أهديها له واكتب فيه أشعاري مستفردا في حق من لا صوت لهم غيري، ولست ممن يَشعَر ولكنه يخرج من تلقاءه حين يُصادف امثال هؤلاء الذين أسميهم أولياء بلا نبوءة، أو أنبياء لا ولي لهم.


الأربعاء، 6 مايو 2015

قراءة في "التشيع العلوي والصفوي" لـ "شريعتي"


غلاف الكتاب

أولا لابد أن نعترف بأن فكر الكاتب والكتاب يُعتبر نقلة تقدمية في فكر المذهب الشيعي خصوصا في المرحلة التي عاشها الكاتب من صراعات على السلطة بين التيار الديني الشيعي في إيران وبين النظام الإيراني للشاه. يتوغل الكاتب في هذه المرحلة الحرجة في كيان الفكر الشيعي وتراثه لينقد ويتحرى ليضيء دربا متزنا للشيعي الثائر أنذاك.

عمل الدكتور علي شريعتي في هذا الكتاب على توضيح الوجهان المختلفان للعملة الواحدة التي يصعب التفريق بينها خصوصا من قبل الفرد الشيعي نفسه. وهي دراسة إجتماعية مقتصرة على تفسير تطور وانحسار بعض القيم والمبادئ والمفاهيم في دائرة التشيع؛ مقاربا بين "التشيع العلوي والتسنن المحمدي"، و"بين التسنن الأموي والتشيع الصفوي" من ناحية أخرى وان كلا الخطان (العلوي المحمدي) و (الأموي الصفوي) يوضعان في قوس واحد فـ (التشيع العلوي والتسنن المحمدي) لهما نفس الدوافع السيا-اجتماعية لنشأتهما والذان يختلفان ويتصادمان مع الأسباب الواقعية التي انتجت "التسنن الأموي والتشيع الصفوي" والأخيران في قوس واحد ايضا، فالعلوي هو مسلك الوحدة والثورة على الطغيان والصفوي هو مسلك الفرقة والجور دفاعا عن الطغيان والسلالة الحاكمة.
كما أن الأول هو تشيع أحمر يعني الثورة والنضال والعمل من اجل التغيير في خدمة الناس، والثاني تشيع اسود هو تشيع الحزن والبكاء والمديح والحب لأهل البيت. الحب الذي هو دون المعرفة ما اكسب التشيع طابعا مغاليا وتنافسيا معاديا للطرف الآخر؛ الطرف الآخر لا يقتصر على من يختلف معه في المذهب بل حتى مع الآخر من نفس لونه الذي يعتبر الحب نتيجة من نواتجِ المعرفة وليس سابقا عليها، واصبحنا نعرف بعد هذا الكتاب ما هو الهدف من مثل هذه الأحاديث القدسية التي وضعها التشيع الصفوي لخدمة سياساته وروجها للناس ليختزل جميع الآمال والتطلعات والأحاسيس والمسؤوليات للإنسان الشيعي في دائرتين ضيقتين، هما: العزاء، والعداء للسنة، ليقولوا على لسان الله: (محب علي في الجنة ولو عصاني، ومبغض علي في النار ولو أطاعني). وهو كقول المرجئة: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق). فيصبح شرط الإيمان فوق شرط العمل بينما القرآن قدم شرط العمل على شرط الإيمان: (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). وكذلك يرى التشيع العلوي الذي يبدو من فكر شريعتي متسامحا مع الأفكار الأخرى ومتشددا نحو الظلم والجور.



- بين العودة إلى الذات وتفكيك الذات


بالرغم من أن شريعتي ظل مثقفا ملتزما ومؤمنا بنظرية العودة الى الذات وليس تفكيكها لم يسلم من الإتهامات اللاذعة من قبل رجال الدين وحتى من الجماهير لأنه نقد الأفكار الراسخة والمكونات الرفيعة للتشيع الصفوي فصار يُتّهم هو الآخر بالإنحراف والعمالة إلى الغرب.

علي شريعتي كان يعرف ان يوازن بين دروس علم الإجتماع التي تلقاها في فرنسا والتي اثرت على فكره ونشاطه وبين الجغرافيا الشيعية التي ينتمي لها او بالأحرى يشتغل عليها وهو جمهور إيران الواسع، فهذا الجمهور هو من وقف في وجه تفكيكه للتراث تفكيكا علميا وحصر نطاق عمله في الفروع او تطورات المذهب مبتعدا عن نقد الأصول او تفكيك الأسباب الإجتماعية والصراع الطبقي لنشوء الفرقة ثم تحولها لمذهب وطائفة وتطور أفكارها، ليقول مثلا: "عندما نقول المذهب الجعفري ليس المراد هو ان المذهب الشيعي قد إختُرِعَ من قبل الإمام الصادق (ع) بل كلنا يعلم أن التشيع بدأ مع بداية الإسلام". وفي الواقع أن المذهب الشيعي هو من تأسيس جعفر الصادق كمذهب ولم يكن في بداية الإسلام مذاهب إنما كان هناك من يميلون حسب تكوينهم الشخصي لعلي بن أبي طالب ويُناصِرون مبادئه وأبرزهم: أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر. أما الحديث عن المذاهب الفقهية فإنها تكونت بعد مرحلة علم الكلام والفِرَق الكلامية التي فسرت الآيات وفقا لموقفها من الوضع السياسي للصراع الإسلامي.

أوقعت ميول شريعتي الأيدلوجية قارئيه في أخطاء لا يمكن ان ينكرها أحد ممن لديه معرفه بالتراث او حتى قراءة بسيطة فيه وهو قوله: "إن أئمة الشيعة الذين قادوا حركة المقاومة على مدى قرنين ونصف من الزمن قد قضوا ما بين مسموم أو مقتول في هذا الطريق الجهادي الرامي لتخليص الناس من ممارسات الجهل والخوف" - أو قوله: "إن أغلب حالات الثورة والتمرد على جور الحكام والظالمين كانت تنطلق على مرتكزات شيعية وعن قاعدة شعبية تؤمن بالتشيع الحقيقي".
 من المعروف في تاريخ أئمة الشيعة انه ومن بعد الحسين في كربلا انتقلت المعارضة الثورية المباشرة والإصطدام الجهادي مع الامويين لأطياف أخرى قادها جمهور الناقمين على السياسات الأموية-العباسية من بينهم شبيب الخارجي  الذي قيل في بطولته ما يشبه بطولة الحسين وكانت أمه غزالة معه وقتلت في المعركة مثلما كانت زينب مع الحسين في معركته إلا انها لم تقتل ولم تحارب كغزالة بل قادت المعركة السياسية مع الأمويين بعد مقتل أخيها، ولولا صورة الفاجعة الكربلائية كما يُذكَر لكان لشبيب موقع بارز في حركة المقاومة ضد الأمويين وقد ظلمه التاريخ حين تركه في زاوية معتمة.
كذلك نذكر صاحب الزنج الذي قاد جمهور الزنوج المستعبدين ولم يكن هو زنجيا بل عربيا حركهُ وجدانه الإنساني للوثوب وقيادتهم في ثورة مسلحة.
ايضا حمدان بن الأشعث (قرمط) زعيم حركة القرامطة في العراق وهم ما يطلق عليهم المؤرخون المعاصرون للثورات الإشتراكية الحديثة (إشتراكيوا الإسلام).
إضافة إلى الحارث بن سريج الذي كان من جنود الأمويين وثار على مظالمهم واقفا مع المظلومين من غير العرب في شرق آسيا.
كذلك ثورة زيد بن علي التي كان فيها موقف ابو حنيفة النعمان شبيها بموقف جعفر الصادق مؤيداً وقد دعم فقيه الحنفية هذا ثورة زيد ضد هشام بن عبدالملك بمبلغ من المال يتراوح حسب ما ذُكر بين عشرة آلاف درهم وثلاثين ألف دينار...وتطول قائمة الثوار لأنهم جمهور المستضعفين الذين لا يُحصرون في حقيبة أيدلوجية معينة وإنما يحركهم وعيهم ووجدانهم المؤنسن إضافة إلى تعرضهم الشديد للمظالم.


- مقتطفات نقدية لـ د.علي الديري في فكر د. علي شريعتي

* هناك أفكار حقانية في ذاتها لكن حين تضعها في جغرافيا جسد المجتمع يتكشف وجهها غير الحقاني.
* جغرافيا شريعتي تعلمك ألا تنخدع، فليس هناك حقانية معلقة في السماء.
* شريعتي مثقف ملتزم وهذه الصفة هي مصدر قوته، وفي الوقت نفسه مصدر ضعفه بوصفه مفكرا
* الهَمّ الآيدلوجي يتطلب إبعاد التفكير في كل ما يتسبب في تفكيك الذات ولو على المستوى المعرفي؛ فالذات أحوج ما تكون في هذا الظرف إلى الصفاء النفسي، كي لا تزعج نفسها بكشف عورات نظم تفكيرها.


- المصادر

* التشيع العلوي والتشيع الصفوي - علي شريعتي 
* شخصيات غير قلقة في الإسلام - هادي العلوي
* خارج الطائفة - علي الديري