السبت، 26 سبتمبر 2015

غوته، شاعراً وحكيماً...!

جوهان فون غوته
Johann Wolfgang Von Goethe 


حينما زار غوته في أيامه الأخيرة الكهف الذي يلعب فيه أيام صباه إستذكر صوت الرفاق الذين رحلوا عن عالمه وضحكاتهم وتراقصهم بين جدران الكهف ولعبهم فأنشد قائلا:


في ذُرى الأطوادِ صمتٌ شاملٌ     وســكونٌ قد غشـى الكونَ الفسيحْ
خيَّـــم الصــمتُ علــى الغـــابِ     فلا صوت طيرٍ فيه أو نسمة ريحْ
كُـــلُّ شــيءٍ مُســتريحٌ هـــادئٌ     وقــريباً أنــتَ أيضــاً تستـــــريحْ


وكانت هذه لمحة وداع تجوهرت فيها روحه معلنةً إنفصالها، لكن أمثال غوته من الشعراء الحكماء أو الحكماء الشعراء الذين كانوا يقاومون المرض الجماعي والمتفشي في عموم القارة الأوربية لابد ان يُعاد ذكرهم في سُويرة الحب المفقودة -سويرة: تصغير سورة- ويعيد إتحادات الروح الإنسانوية بين الشرق والغرب. وهنا فكرت أن أنقل لكم ترجمة غوته من المدارات الصوفية حيث تتحد في كأس التصوف خمرة غوته فتتلاشى حدود العالم في قلب الشاعر حين يفيض بالحكمة.


غوته:

(هذه ترجمة منقولة حرفياً من كتاب مدارات صوفية)


جوهان فون. ألماني عاش بين ١٧٤٩ و ١٨٣٢. أصلهُ شاعر. إلا أنه تجاوز الشعر إلى الحكمة فهو شاعر حكيم أو حكيم شاعر تمتع بحساسية شعرية عالية كأي شاعر - المتنبي، لي باي، شيلي - مع شخصية حكيم كأي حكيم: لاوتسه، أبيقور، ابن عربي... منحته الحساسية الشعرية غريزة حب طغت عليه كما طغت على إبن الفارض فعاش حياته بين إمرأتين: زوجته وحبيبته. إرتبط مع الزوجة بعلاقة حب زوجي لا يكدرها شيء. ومع الحبيبة بعلاقة حب صوفي مروحن، لكن لوعة المحب كانت فيه كلوعة ابن الفارض، فحديثه عن شارلوت (ميريانا) في آلام فِرْتر هو حديث ابن الفارض في الجيمية والفائية واليائية. لكن حبه كان كونياً. وقد فاض منه على غير الحبيبة فأحب الناس كلهم وإجتاز حبه حدود ألمانيا إلى أوربا ثم إجتازها إلى الشرق البغيض وإلى الإسلام الأبغض والعرب الأكثر إثارة للمقت والعداء. فأحب العرب في الشعر الجاهلي وغيره وأحب الإسلام إلى حبٍّ كان من العمق والصدق بحيث لم يتحمله أبناء القارة فكتموه وسعوا إلى بتره عن تراثه فلم يتهيأ كشفهُ إلا مُقسَّطا وعلى تخوّف. وعجائب الإنسان لا تفنى. وأي عجبٍ أعجبُ من أن يظهر مثل هذا المثقف الكوني في مجتمع مغسول بالعرقية والعصبية المتوحشة؟ في بلد أعطى أعظم فلاسفة العصر الحديث لكنهم لم يخرجوا، إلا في واحد كان دخيلاً عليهم من عقدة التعصب والعرقية فأنتجوا فلسفة صفاء للأوربي وجفاء قاتل لبقية البشر؟


وفي غوته الحكيم نرى الحقيقة الكونية وقد تروحنت فصارت علاقة جذب بين الأشياء وآصرة حب بين الناس. وقد ثقل على قلبه علماء الفيزياء وأنكر الطبيعيات لمّا رآها تُحيل العالم إلى أرقام بينما هو يريد للعالم أن يمتلئ بالأرواح، فوضع نظرية في الطبيعة والوجود تقوم على حسابات الجمال كعلاقة كبرى بين الموجودات، في محاولة شعرية لروحنة المادة. وقد درسها الفيزياويون واستظرفوها ونشرها كبير فيزياويي ألمانيا في أوائل هذا القرن - يقصد رودولف كارناب - مع كتابه: فلسفة الفيزياء. ولم تكن لتنافس نظريات الفيزياويين وإنما تعالج أحاديتها المادية. الفيزياء الصرفة تتعامل مع المادة الصرفة. وبدون ذلك لا يسعها ان تفعل شيئاً مع حقائق الطبيعة التي هي حقائق مادية مئة بالمئة. وعلى هذه الطريقة الفيزياوية في التعامل مع المادة قام العلم بشموخه المتصاعد وقامت الصناعة بجبروتها الذي نقل الإنسان من حال إلى حال لو درى الأول بالثاني لمات من الحسد. لكن العلم البحت والمادة الصرفة إذا أوصلا الإنسان إلى ما وصل أبقياه سجيناً في قفص العلاقات المادية. والعلاقات المادية يتسفّل بها الإنسان. وبقدر ما تفشل العلاقات الروحية في حكم الطبيعة تفشل العلاقات المادية في حكم الإنسان. إن عقول العلماء الرقمية يجب ألا تتحكم في الناس. فهنا يحتاج الحكم إلى قلوب بشرية. وقد ساهم الإقتصاديون في إنماء ثروة المجتمع بهذه العقول الرقمية إلا أنهم لم يفعلوا شيئا للناس وبقي حالهم كما كان في أي عصر سابق. إن جوع الإنسان في عصر الطيارة والحاسوب والفضاء هو نفسه في عصر الحمير والإبل والبغال. بل إن أهل ذلك العصر كثيراً ما وجدوا حلولاً للجوع والفقر لم يجدها أبناء هذا العصر. إن كمية الظلم التي رافقت الفيزياء والإقتصاد العلميين تزيد على نظيرتها في أي عصر سابق. من هنا تأتي ثورة غوته ضد الفيزياء. وغوته من الأبدال الذين تحتاج الأرض لمثلهم لأنها بدونهم تميل فيبقى الناس فوقها كالسكارى. وليست نظرية غوته في الطبيعة بديلا عن الفيزياء بل هي العلاج الذي ينشده الحكماء لزيوغ المادة الصرفة. يريد غوته أن يعطي العلاقات الروحية، علاقة الحب والجمال والخير مكاناً في الطبيعة. ولا شك أنه يدرك أن الطبيعة لا تفهم هذه العلاقات وإنما هي شأن الإنسان، فنظريته الفيزياوية هذه نظرية إجتماعية تسعى لأنسنة العلوم حتى تكون في خدمة الناس عقاباً لهم على إنسانيتهم الخارجة من قيد الإنسانية الصرفة.


غوته من ضنائن الله. وضنائن الله ينطوون قلوب بشرية تُعَدِّل جفوة وقساوة العقول الرقمية من غير أن توقفها عن فعلها. لنترك الفيزياوي في مختبره يفسر ويحلل ويقدِّم للصانع ما يطور به حياة الناس المادية. وتبقى الكلمة بعدها لضنائن الله أصدقاء الإنسان. هكذا أراد غوته. وهكذا تكلم. وذلك هو السر في عشق خَلَفِهِ الألماني كارل ماركس له مع أن ماركس فيلسوف طبقي وغوته حكيم إنساني. وتبعاً للمادية الصرفة يكون غوته برجوازي صغير ومثالي متواطيء. لكن ماركس لم يكن مادياً صرفا ولا مرة.


وقد تحدثت تواريخ غوته عن علاقة بالفقراء ذات منحى تاوي-صوفي إذ يحكي كلينجر ان غوته محبوب عند الجميع وأنه بركة على بلدته -فايمار- وقال ميرك إن غوته هو الكل في الكل وهو الذي يوجه كل شيء وجميع الناس راضون عنه لأنه منفعة للأكثرية ولا يضر بأحد. وقال ليزفنتس إنه يساعد الكثير من العوائل الفقيرة في فايمار فهو إنسان حي الضمير. وقال فايت: يرى الناس في غوته إنسانا طيبا حسن الطوية وهو يحظى بإحترام الجميع ومحبتهم. وقال ن. فوس: بالأمس قالت لي إمرأة إن غوته بركة على فايمار فهو الذي يحرك كل شيء وهو الذي يُحسن لكل المحتاجين. وهذا مسلك صوفي حسب تحديد عبدالقادر الجيلي: إيجاد الراحة للخلق. ولو أن غوته خالف المبدأ الصوفي في مقاطعة الدولة إذ كان مرعياً من حاكم فايمار. ولا شك انه استفاد من هذه العلاقة لمساعدة أهل البلد لا لمصلحة نفسه. والصوفية يختلفون في جواز إقامة علاقة مع السلطة لخدمة الناس وأكثرهم لا يوافقون عليها.


الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

الشطح الصوفي والكتابة السوريالية اللاإرادية

لوحة بعنوان (أطلس التجول) للفنان السوريالي فلاديمير كوش
(Vladimir Kush - atlas of wander (Surrealisme art  


يُعرّف أبو نصر السراج الشطح بأنه (عبارةٌ مستغرَبة في وصف وجدٍ فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته) ويضيف أن الشطحة (ظاهرها مستشنع، وباطنها صحيح مستقيم) كشطح البسطامي حين قال سبحاني سبحاني ما اعظم شاني.. والحلاج حين قال: مافي الجبّة إلا الله. ولذلك سمي الصوفيه بأهل الباطن وعلماء الفقه بعلماء الظاهر. أي انهم أخذوا أهل الباطن بظاهر قولهم وساروا على السلف، بينما الصوفي يعيش التجربة الحية التي تفيض من باطنه الإتحادي مع روح الكون السارية في الوجود، فقالوا ردا على علماء الظاهر: (أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت). وفي الواقع ان هذا الحي الذي لا يموت لم يكن من خارج الصوفي وإنما هو الوِرد النابض في ذات فؤاد الصوفي.


في كتابه الصوفية والسوريالية حاول أدونيس أن يقارب بين الشطح الصوفي وبين دعوة السورياليين لتحرير الرغبات اللاشعورية من سجن الواقع والتمسك بالخيال والفن الفوق واقعي وسرد الأحلام... إلا أن الكتابة الآلية اللاإرادية والتي لا تخضع لسلطة العقل هي اسهل طريقة بالنسبة للسوريالية في إكتشاف الإنسان للحقائق وأسرار ذاته. حيث يقول بريتون في البيان السوريالي الأول عام 1924: (الكتابة الآلية وسيلة متميزة لإنتاج نص شعري بفعل "اللاإرادية النفسية المحضة". والواقع أن هذه اللاإرادية طريقة تتفوق على طريقة سرد الأحلام فهي تتيح إنتاج القول الذي يتشكل في لا شعورنا كل ثانية ولا ندركه (...) فاللاإرادية وظيفة للسرعة ولحرية الفكر في آن. وهي تقتضي أن نكتب دون خضوع لأية قاعدة إخلاقية أو جمالية أنها تتيح أن نستعيد طاقات الخيال الضائعة وان نفهم بشكل أفضل كيف تتهيأ آليات الفكر).


في الحال بدأت أستذكر نصا شعريا كتبته بتاريخ 22 مارس 2014 تحت عنوان "صحوة السكران" وهو ليس شطحا لأن الشطح أكثر عمقا ولمحة عابرة في الوجد... هو من النصوص التي لا أمل من إعادة قراءتها، ربما لأني أكتشف فيها حالة من حالات كتاباتي المفقودة، كتاباتي اللاإرادية الغير خاضعة لقيود العقل. وإنما هي تعكس مرآة ذاتي. وأطلقت عليها هذا العنوان لأني كنت في اشد حالاتي صحوا واكثرها غيابا... هذا هو النص بعد أن حذفت منه زوائد أظنها تقطعات إرادية شوهت المعنى، ولأني كنت لا أنوي نشرها فهي بالتالي سابحة فضاءً من اللاإرادية والحرية من الذات للذات، وكل أمنيتي ان يتذوقها القارئ كما تذوقتها أنا:


ها هُنا أنا الآنَ
نِصفُ القَلبِ مُمتزِجٌ بِنِصفِ الليلْ
فَهذا البَحْرُ مُنسدِل عَنْ الكَونِ
وَهذا النَجمُ مَكشوفُ
وهذا القلب عُطشاناً بِوِحدَتهِ لِسَكرَتِهِ
وَيَبْدو العِشْقُ للسُكرانِ مَختومُ
"أَلا فالتُكسَر الجُدرانْ"
بَحارُ الأرضِ قَدْ ماجَتْ
وَشَمْسُ القلبِ سكرانه
أَهَلْ لِلهِ أَمْ إبليسْ قَدْ سَجَدَتْ
أَبو التَوحيِدِ شَيطانُ
فَلَمْ يَسْجُدْ سِوى لِلحقِ سُبحانَه
فبِالحِيرَةْ نَرَى الأَشياءْ
المَفْصُولُ مُتَصِلٌ والمَوصُولُ مُنفَصِلُ
إنَّ القَلبَ ماءٌ مازَجتهُ النّارْ
مُحْتَرِقاً بِنارِ الفِكرْ
لَيْسَ لَهُ دِيْارٌ يَستَقِرُ بِها
ولِلإيمانِ أَلْوانٌ رَمادِيةْ
قالَتْ حِكمةُ الأَزْمانْ:
"أَتَحْسَبُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغيْرْ" وَفيكَ وَفيكَ وَفيكَ الإلهْ
أَنتَ المُطلقُ الأَوحَدْ
وَرُوحُ الكَونِ ساريةٌ في بَدَنِكْ
بِقَلبِكَ تَسكُنُ الأَرواحْ
فَهَلْ تَقنَعْ بِالنِسبي؟ 
فأَنْا هُوَ وَهُوَ أَنْا وَأَنْا أَنْا وَهُوَ هُوَ
عَرَفْتُ الآنَ مَعنايَ ومَعناهُ
بَعِيدٌ عَنكَ قَدْ ظَنّوا
قَريبٌ مِنكَ لَو عَرِفوا
كَساقِ الوَردِ مُنقَطِعٌ عَنْ الأَغيارْ
مُتَّصِلٌ بِحَبْلِكَ أَنتْ
فَلَوْ عَرَفوكَ ما لَبِسوا عِمامَتَهُم, وَما سَرَقوكْ,
وَ ما قالوا بِأنَّكَ مُلكَهُمْ يَوماً, وَما حَجَبُوكَ عَنْ خَلقِكْ.
فَصَحويْ الآنَ مُلتَبِسٌ مَعَ السُكرِ
أُجيدُ النُطقَ لكِنّي مُنصَرفٌ عَنْ النُطقِ
أُحِبُّ السُّكْر لأنَّ الصّحوَ فيْ سُكْريْ
وَلَيسَ السُكْر إلا فُرقَةَ الجَسّدِ
فَخُذْ جَسَديْ
فَلَيْسَ القَلبْ سِوى جِسرٌ
بُطَينٌ أَيسَرٌ لِلأَرضْ
بُطَينٌ أَيمَنٌ لِلنَبضْ 
فَدَعْ سُكْرِيْ وحَلِلْ جِسمِيْ الإنْسيْ
خُذْ روحيْ وَدَعْ قَلبيْ يُحَلِقُ فِيكْ
فَسِرْ نَحويْ أَسِر نَحوَكْ
لا إيمانْ يَقنَعُنيْ
فَبِالحِيرَةْ نَرى الأَشيْاءْ
كُلُّ الكَونِ مُتَصِلٌ وَكُلُّ الكَونِ مُنفَصِلٌ

"أَنتَ الّذيْ بِنِسبَةِ إيمانِنْا تُرى وَبِما حَمَلنا لَكَ فيْ قُلُوبِنْا تَتَجَلّى"

فَكُنْ حَجَرَاً تَكُنْ حَجَرَاً
وَكُنْ شَمْساً وَكُنْ رُوحاً تَكُنْ طَيراً
يُحَلِّقُ في سَماءَ الوَجدْ
وَكُنْ لاشَيءَ كُنْ عَدماً تّكُنْ عَدَماً
يُجَلجِلُ عَطفَ ناقُوسِ القِلوبِ هَواكْ

قالَ رِياضُ النُعماني: "إلَهيْ أَنقذنيْ
لا أَحْتَملَ الدُلَّ
وَأَنتَ تُطيلُ دَلالَكَ فِيّ"

يا سِربَ حَمامْ
يا غَيمَةً بَيضاءْ
يا نَجماً
ويا شَجَرَاً

وَإنّ كُنتُّ بَلا كأسٍ
فهذا السُكْرُ في صَحويْ
وهذا الصَحْو في سُكريْ
"ماءٌ مازجتهُ النّارْ"