الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

الشطح الصوفي والكتابة السوريالية اللاإرادية

لوحة بعنوان (أطلس التجول) للفنان السوريالي فلاديمير كوش
(Vladimir Kush - atlas of wander (Surrealisme art  


يُعرّف أبو نصر السراج الشطح بأنه (عبارةٌ مستغرَبة في وصف وجدٍ فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته) ويضيف أن الشطحة (ظاهرها مستشنع، وباطنها صحيح مستقيم) كشطح البسطامي حين قال سبحاني سبحاني ما اعظم شاني.. والحلاج حين قال: مافي الجبّة إلا الله. ولذلك سمي الصوفيه بأهل الباطن وعلماء الفقه بعلماء الظاهر. أي انهم أخذوا أهل الباطن بظاهر قولهم وساروا على السلف، بينما الصوفي يعيش التجربة الحية التي تفيض من باطنه الإتحادي مع روح الكون السارية في الوجود، فقالوا ردا على علماء الظاهر: (أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت). وفي الواقع ان هذا الحي الذي لا يموت لم يكن من خارج الصوفي وإنما هو الوِرد النابض في ذات فؤاد الصوفي.


في كتابه الصوفية والسوريالية حاول أدونيس أن يقارب بين الشطح الصوفي وبين دعوة السورياليين لتحرير الرغبات اللاشعورية من سجن الواقع والتمسك بالخيال والفن الفوق واقعي وسرد الأحلام... إلا أن الكتابة الآلية اللاإرادية والتي لا تخضع لسلطة العقل هي اسهل طريقة بالنسبة للسوريالية في إكتشاف الإنسان للحقائق وأسرار ذاته. حيث يقول بريتون في البيان السوريالي الأول عام 1924: (الكتابة الآلية وسيلة متميزة لإنتاج نص شعري بفعل "اللاإرادية النفسية المحضة". والواقع أن هذه اللاإرادية طريقة تتفوق على طريقة سرد الأحلام فهي تتيح إنتاج القول الذي يتشكل في لا شعورنا كل ثانية ولا ندركه (...) فاللاإرادية وظيفة للسرعة ولحرية الفكر في آن. وهي تقتضي أن نكتب دون خضوع لأية قاعدة إخلاقية أو جمالية أنها تتيح أن نستعيد طاقات الخيال الضائعة وان نفهم بشكل أفضل كيف تتهيأ آليات الفكر).


في الحال بدأت أستذكر نصا شعريا كتبته بتاريخ 22 مارس 2014 تحت عنوان "صحوة السكران" وهو ليس شطحا لأن الشطح أكثر عمقا ولمحة عابرة في الوجد... هو من النصوص التي لا أمل من إعادة قراءتها، ربما لأني أكتشف فيها حالة من حالات كتاباتي المفقودة، كتاباتي اللاإرادية الغير خاضعة لقيود العقل. وإنما هي تعكس مرآة ذاتي. وأطلقت عليها هذا العنوان لأني كنت في اشد حالاتي صحوا واكثرها غيابا... هذا هو النص بعد أن حذفت منه زوائد أظنها تقطعات إرادية شوهت المعنى، ولأني كنت لا أنوي نشرها فهي بالتالي سابحة فضاءً من اللاإرادية والحرية من الذات للذات، وكل أمنيتي ان يتذوقها القارئ كما تذوقتها أنا:


ها هُنا أنا الآنَ
نِصفُ القَلبِ مُمتزِجٌ بِنِصفِ الليلْ
فَهذا البَحْرُ مُنسدِل عَنْ الكَونِ
وَهذا النَجمُ مَكشوفُ
وهذا القلب عُطشاناً بِوِحدَتهِ لِسَكرَتِهِ
وَيَبْدو العِشْقُ للسُكرانِ مَختومُ
"أَلا فالتُكسَر الجُدرانْ"
بَحارُ الأرضِ قَدْ ماجَتْ
وَشَمْسُ القلبِ سكرانه
أَهَلْ لِلهِ أَمْ إبليسْ قَدْ سَجَدَتْ
أَبو التَوحيِدِ شَيطانُ
فَلَمْ يَسْجُدْ سِوى لِلحقِ سُبحانَه
فبِالحِيرَةْ نَرَى الأَشياءْ
المَفْصُولُ مُتَصِلٌ والمَوصُولُ مُنفَصِلُ
إنَّ القَلبَ ماءٌ مازَجتهُ النّارْ
مُحْتَرِقاً بِنارِ الفِكرْ
لَيْسَ لَهُ دِيْارٌ يَستَقِرُ بِها
ولِلإيمانِ أَلْوانٌ رَمادِيةْ
قالَتْ حِكمةُ الأَزْمانْ:
"أَتَحْسَبُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغيْرْ" وَفيكَ وَفيكَ وَفيكَ الإلهْ
أَنتَ المُطلقُ الأَوحَدْ
وَرُوحُ الكَونِ ساريةٌ في بَدَنِكْ
بِقَلبِكَ تَسكُنُ الأَرواحْ
فَهَلْ تَقنَعْ بِالنِسبي؟ 
فأَنْا هُوَ وَهُوَ أَنْا وَأَنْا أَنْا وَهُوَ هُوَ
عَرَفْتُ الآنَ مَعنايَ ومَعناهُ
بَعِيدٌ عَنكَ قَدْ ظَنّوا
قَريبٌ مِنكَ لَو عَرِفوا
كَساقِ الوَردِ مُنقَطِعٌ عَنْ الأَغيارْ
مُتَّصِلٌ بِحَبْلِكَ أَنتْ
فَلَوْ عَرَفوكَ ما لَبِسوا عِمامَتَهُم, وَما سَرَقوكْ,
وَ ما قالوا بِأنَّكَ مُلكَهُمْ يَوماً, وَما حَجَبُوكَ عَنْ خَلقِكْ.
فَصَحويْ الآنَ مُلتَبِسٌ مَعَ السُكرِ
أُجيدُ النُطقَ لكِنّي مُنصَرفٌ عَنْ النُطقِ
أُحِبُّ السُّكْر لأنَّ الصّحوَ فيْ سُكْريْ
وَلَيسَ السُكْر إلا فُرقَةَ الجَسّدِ
فَخُذْ جَسَديْ
فَلَيْسَ القَلبْ سِوى جِسرٌ
بُطَينٌ أَيسَرٌ لِلأَرضْ
بُطَينٌ أَيمَنٌ لِلنَبضْ 
فَدَعْ سُكْرِيْ وحَلِلْ جِسمِيْ الإنْسيْ
خُذْ روحيْ وَدَعْ قَلبيْ يُحَلِقُ فِيكْ
فَسِرْ نَحويْ أَسِر نَحوَكْ
لا إيمانْ يَقنَعُنيْ
فَبِالحِيرَةْ نَرى الأَشيْاءْ
كُلُّ الكَونِ مُتَصِلٌ وَكُلُّ الكَونِ مُنفَصِلٌ

"أَنتَ الّذيْ بِنِسبَةِ إيمانِنْا تُرى وَبِما حَمَلنا لَكَ فيْ قُلُوبِنْا تَتَجَلّى"

فَكُنْ حَجَرَاً تَكُنْ حَجَرَاً
وَكُنْ شَمْساً وَكُنْ رُوحاً تَكُنْ طَيراً
يُحَلِّقُ في سَماءَ الوَجدْ
وَكُنْ لاشَيءَ كُنْ عَدماً تّكُنْ عَدَماً
يُجَلجِلُ عَطفَ ناقُوسِ القِلوبِ هَواكْ

قالَ رِياضُ النُعماني: "إلَهيْ أَنقذنيْ
لا أَحْتَملَ الدُلَّ
وَأَنتَ تُطيلُ دَلالَكَ فِيّ"

يا سِربَ حَمامْ
يا غَيمَةً بَيضاءْ
يا نَجماً
ويا شَجَرَاً

وَإنّ كُنتُّ بَلا كأسٍ
فهذا السُكْرُ في صَحويْ
وهذا الصَحْو في سُكريْ
"ماءٌ مازجتهُ النّارْ"




هناك تعليقان (2):

  1. في ضوء إطلاعي على الصوفية أضنها الطريقة المثلى للتعبير عن حالات الحب و التجلي أو وصف العلاقة بين المحب و المحبوب فهي مطلقة ،،حرة ،، لا تعترف بالقيود المعتادة و لعل هذا هو الخط الرفيع الذي يربطها بالسوريالية التي هي انعكاس لما في نفس الانسان من مشاعر و دوافع فنلقى إن كلاهما مطلقٌ يرفض المحدود و الاثننين مبنيان على التعبير الحر ،،

    أحييك أحمد على هذا المقال الممتاز و على قدرتك العميقة في ربط المحتوى

    تقبل مروري

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا جزيلا زهراء العزيزة. يسعدني مرورك وتعليقك. بالفعل هذه الارادة الحرة هي ما تجمع المنحيين. بالاضافة الى ان كلاهما يوصف بحالم وفوق واقعي. بالرغم من اختلاف العقيدة فالتصوف روحاني والسوريالية حركة الحادية الا ان هناك اجتماع كبير في الجوهر.. تحيتي

      حذف