الأحد، 7 فبراير 2016

جلال الدين الرومي - من هيبة رجل الدين إلى عزلة المتصوف

رسم متخيل: الرومي على اليمين وشمس التبريزي على اليسار

"باطن الله - يا وجه الله المخفي. إفتح لي عقلي حتى يمكنني أن أرى الحقيقة"
- جلال الدين الرومي

جلال الدين الرومي الذي كان عَلماً إسلامياً من أبرز أعلام قونية في عصره وكان له الكثير من الأتباع الذين يتبعونه ويحضرون صلاته، إلا انه لو لم يلتقي بشمس التبريزي -الدرويش الجوال- الذي جاب اقاصي الدنيا لم يكن له ما له من أثر فكري على مستوى الحضارة الإسلامية والعالم اليوم. كان يمكنه أن يكون له هيبته وأتباعه الذين سينسونه بعد مماته كرجل دين عادي، إلا أنه إختار عزلته في الطريق نحو العشق والكمال الوجداني الذي جعل الكثير من الناس يدرسون حياته وتحوله من الجاه والشهرة إلى العزلة ويدرسون أشعاره الإهتيامية أيضا، حيثُ يُعتبَر الرومي اليوم أحد أعلام التصوف الإهتيامي.

ولد جلال الدين الرومي في مدينة بلخ الفارسية عام 604هـ وتوفي في مدينة قونية التركية عام 672هـ وله ضريح يقصده اتباعه ومحبوه أيضاً. أقرأ عنه الآن كتاباً بعنوان: "قواعد العشق الأربعون". والذي يلخص أربعون قاعدة من قواعد شمس التبريزي التي نقلها للرومي في خلوتهما، وتتلخص تلك الحكمة التي سنستعرض بعضا منها؛ في تلك القناعة التي تتولد في ذات الصوفي وفحواها يكمن في مجاهدة النفس بدل الجهاد في سبيل تغيير العالم. حيث يمكن للانسان ان يصل للعالم بسهوله اذا ما وصل لنفسه، وكما يقول الرومي: "بالأمس كنت ذكياً فأردت تغيير العالم، اليوم انا حكيم لذلك أريد التغيير من نفسي" فالشر والخير أو بالإصطلاح الديني الشيطان والآلهة لا تقبع في الخارج وإنما في الداخل، كما يقول الجنيد البغدادي: "لون الماء لون إنائه" والجهاد الأكبر بالنسبة للصوفي هو ليس في الخارج كما هي عند رجل الدين المتزمت، ولافي تغيير العالم أو محاربته، وإنما في مجاهدة النفس: الترقي بها من النفس الأمارّة إلى النفس النقية أو الإنسان الكامل.


* "من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال ولكن من الصعب ان تحب إخوانك البشر بإختلاف عيوبهم"

هذه كانت إحدى القواعد والتي تترقى بنظرة الإنسان من بساطة الفهم المقتصرة على أخذ الأشياء بظاهرها إلى الذهاب للعمق، للمعنى، الذي توصل له الدرويش الجوال شمس التبريزي خلال رحلاته والتي رأى فيها مزيج من الأديان والعادات واللغات، حيث صادف غجراً يعزفون الموسيقى، وعرباً، وحجاجاً مسيحيين، وتجاراً يهوداً، وكهنة بوذيين، وبهلوانيين من الصين، وفلاسفة يونانيين. الصوفي يرى الله في كائناته، ولا يرى الكائنات منفصلة عن الله، فهي ظل له، وإذا كانت ظل له فهي جميعها بإختلافها تعبر عن وجوده، ولذلك هو يهتم بالتفاصيل الصغيرة داخل فضاء المطلق، اللامحدود. اللامحدود هو الذي يسعى له الصوفي. الصوفي يكسر حواجز العقيدة المحدودة التي هي في فهمه طولت الطريق إلى الحق الأسمى ولا يمكنها إحتواء اللامحدود، وكما يقول محي الدين ابن عربي: "المحدود لا يحتوي اللامحدود والواحد يتضمن الكثرة" الكثرة بتعددها داخلة في فضاء الله ورحمته، فهي كالأغصان الممتدة من جذور شجرة.


* "هناك شيئاً يدهشني، وهو لماذا يقول البعض أنهم يكرهون رؤية البغايا، وفي الوقت نفسه يصعّبون الحياة على البغي التي تريد أن تبدأ حياة جديدة؟"

هل جربت أن تدخل إلى حياة بغي؟ عاهرة ما؟ أو إلى حياة السكارى الصعاليك؟! بإختصار المنبوذون إخلاقياً، هل جربت يوماً أن تستمع إلى مأساتهم؟
 أشد ما يجذبني هو قدرة الفكر الصوفي على أن يحب، ليس فقط من يختلفون معه في الفكر والعقيدة، وإنما من يختلفون معه إخلاقياً، وهو ما ينبذه الفكر الديني السائد، الذي يرى بأن على الإنسان أن يكون مثاليا وإخلاقياً دائما، غير واعٍ إلى تأثير العوامل النفسية والإجتماعية في تكويننا الشخصي، فبدلا من معاقبة المجرم على جريمته علينا القضاء على العوامل الإجتماعية والنفسية التي تسبب الجريمة أولاً على حد قول الفيلسوف الشيوعي أنجلز، والجريمة يمكن ان نكون نحن جزء منها في نبذنا المتواصل لهذه الفئة من الناس، ودائما ماكنت أرى أن رجل الإخلاق الذي يتحدث من الأعلى إلى الناس لن يفهم أولئك الذين سلبتهم الحياة جمالها ما لم ينزل إلى القاع ويعيش مثلهم ولو لمرة واحدة في الحياة، وهذا ما فعله الرومي نزل إلى القاع ولكن أي قاع ذاك الذي تنمحي فيه الذات بين القمر والبئر، فأنت ربما تحدق في البئر في احدى المساءات لكنك ستكتشف أيضا أن القمر هناك يحدق فيك.


* "التدين والروحانية ليسا الشيء نفسه وأظن أن الفجوة بين هذين الشيئين لم تكن أعمق مما كانت عليه اليوم"

يقول إبن عجيبة الحسني في تفريقه بين الشريعة والحقيقة: "الشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة ان تشهده" فالتدين يمكن أن نلخصه في إتباع الرجل المتديين بإختلاف مشاربه الدينية للتعاليم المقررة في الشريعة أما الروحانية تبحث عن المعنى وعمق أسرار الوجود. التدين ان تسير خلف التيار، أما الروحانية ان تكون أنت التيار الذي يتدفق لكافة البشرية ليس لأجل فئة دينية او عرقية أو دولة ما أو دويلة ولا أي قومية، وإنما أن يبلغ فكرك إلى المدى الذي يمكن أن يكون فيه كونياً. وقد فرق المفكر العراقي هادي العلوي بين السلوك الروحاني والفكر الروحاني. فليس كل من يمتلك فكرا روحانيا يمكن ان يكون له سلوك روحاني والعكس صحيح. فنرى امثال خوسية رئيس الأرغواي و والمحرر الوطني مانديلا ممن لا علاقة لهم بالفكر الروحاني ممتلئين بالروحانية السلوكية والتي يحركها الحس الوجداني المشترك في حب الناس. بينما ترى رجالاً كُثر يتحدثون عن الروحانية لكنهم لا يتورعون عن امتهان القتل أو اللصوصية.


إختار الرومي عزلته على هيبته وقادته الحكمة لأن يكون اعظم الأعلام الإنسانية والإسلامية في يومنا هذا، يروحن الإله ليصبح نوراً يتسع لهذه اللحظة وليس رهنا للماضي وحسب، كون الإله إنعكاس لقلب الإنسان ولحظته التي يعيشها. يروحن الإخلاق فلا ترى لذاتها فضلا على أحد، ويروحن المعرفة فتكون للحب والفرح الكوني، القدوة الأسمى التي يمكن أن تربط الإنسان بالمطلق هي ذاته القادرة على التفكير وليس النقل، وقيمة الإنسان هي في إبداعه الخلاّق لا في إتباعه للخلاقين والمبدعين وحسب، هذا ما تخبرنا به تجربة الرومي.


* أحمد السعيد - سالكٌ في الطريق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق