هذا الكتاب جوهرة معرفية نفيسة، والذي عدت إليه بعد حوار دار حول موضوع عقلنة الحيوان: "هل للحيوان عقل أم
.لا؟" وهذه المقالة لن تتطرق للإجابة على هذا السؤال بقدر ما هي تطرح أسئلة جديدة ومعارف أساسية أخرى
ترى النظريات المثالية ثبات الماهيات: "الإنسان إنسان، والحيوان حيوان، والنبات نبات" وكل هذه الكائنات موجودة بماهيتها وهي قديمة ومستقلّة عن الأخرى -هكذا وُجِدت على الأرض-. وأحدثت نظرية الحركة الجوهرية للفيلسوف الاسلامي صدر الدين الشيرازي (١٥٧٢-١٦٤٠م) الذي يُلقب بصدر المتألهين أو الملا صدرا أحيانا؛ طفرة في تراثنا المعرفي، والتي أثارت حنق معارضيه وجعلته ينأى في عزلة عن العالم. إلا أن هذه الطفرة كانت الخطوة الأولى في سبيل معرفة أعمق للوجود، وتستحق هذه الشخصية ان يُحيى تراثها، ولو كانت الشخصية شخصيةً غربية لرأينا عنها آلاف الدراسات والأعمال السينمائية.
مادة الكتاب المكون من ١٧٠ صفحة، صعبة ومتقدمة علي، وتحتاج أن يُفحص محتواها من قِبل شخصٍ حاذقٍ ومتبحرٍ في مباحثِ الفلسفة والطبيعيات، واعترف أن الكتاب الذي أخذ معي قرابة الشهر ونصف من القراءة المتأنية لا أزال أجهل ما دار في بعض صفحاته، ولازالت تغيب عني معاني بعض الكلمات. وسأحاول بقدر الإمكان تلخيص جزء مما يهمنا هنا في هذه المقالة.
تقوم نظرية الحركة الجوهرية على فكرة رئيسية وهي أن الحركة في الأجسام ناتجة عن حركة جوهرية في داخلها، وهذا ما يثبته علم الفيزياء الحديث، حيث أن الجسم المتحرك يتألف من مجموع حركة الجسيمات* داخله (الجسيم هو أصغر جزء في الجسم). فالمتغير لا يصدر عن الثابت حسب قول الشيرازي. وهذا ما سيحيله في نهاية المطاف إلى القول بعدم ثبات الماهيات، نتيجة التغير المستمر في الجوهر -المادة- وأزليتها وفق مبدأ: المتغير لا يصدر إلا عن متغير مثله. ويستشهد الملا صدرا بالآية القرآنية: "كل يومٍ هو في شأن" في محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة.
"الحي خرج من اللاحي" فعند الشيرازي العالم كله مرتبط ببعضه في وحدة تامّة. والحركة عنده تنقسم إلى ثلاث أشكال: حركة كيفية، وحركة كمية، وحركة أينية وهي تحرك الشيء من مكان لآخر. أما الحركة الكيفية فمثالها التغير الحاصل مثلا في إسوداد قشرة الموز، والتعفن مثلاً، أو إشتداد حركة الماء عندما تحيله السخونة بالقوة إلى بخار، إلا أن جوهر الماء والبخار يرجع الى أصلٍ واحدٍ مشترك في المعادلة الكيميائية قبل ان يتحد مع الهواء. أما الحركة الكمية فهو ما يحدث في الاجسام من نمو وتذبّل. وللشيرازي تفسير للموت؛ بأنه يحدث نتيجة اشتداد تجوهر النفس في البدن فلا يستطيع لمحدوديته ان يتسع لها: "إن الموت هو قوة تجوهر النفس واشتدادها في الوجود"
ما يهمنا من نظرية الحركة الجوهرية أنها ستكون نقطة الفصل في تراثنا المعرفي بين من يعتبرون الماهية البشرية ثابتة متميزة الى كونها ماهية ارتقت تدريجياً عبر تاريخ حركة الجوهر في الوجود والتي تشترك في خصائصها مع سائر الموجودات، ومادتها مستمدة من مادة الطبيعة التي تمدنا بالطاقة والغذاء.
إن القول بتطور الوجود إلى مراتب وأطوار يستدعي كل منها معنىً ذهنياً يتحد بها، أي يقتضي بالضرورة ماهيات أوكائنات غير ثابتة تبعاً لعدم ثبات الوجود -الجوهر، المادة-. على أن الإعتراف للماهية بعدم الثبات لابد أن يفضي إلى قبول التغير الفعلي في الأنواع. تلك الظاهرة المخيفة التي منعت السابقين من إيقاع الحركة في الجوهر.
"العالم لم يوجد كاملاً، كما هو عليه الآن، بل تدرج في مراتب الوجود حتى بلغ هذه المرحلة، وهي ليست آخر المراحل، فما دام الوجود في حركة فالإرتقاء مستمر"
هادي العلوي في نقده وتقييمه للنظرية، يقول: الإتفاق اليوم حاصل على تسلسل الإنسان من حيوانات منقرضة، أحط منه في سلم التطور، أما الإنتقال من الشكل اللاحي إلى الشكل الحي من المادة فيكاد أن يصبح من بديهيات العصر. وتكشف هذه الحقيقة العلمية الراهنة عن الأهمية القصوى لحدس الشيرازي واصحابه، ولكن سلسلتهم لم تعد صحيحة من وجهة نظر العلم. ومن أخطائها اعتبارها الحيوان منحدراً من النبات. إن البيولوجيا الحديثة قد عالجت هذا الموضوع فرجحت أولا أن الخلية الأولى ليست نباتاً ولا حيواناً وإنما هي مادة حية تتألف من مادة البروتوبلازم* بكيفية لا يزال الكثير من تفاصيلها مجهولاً. ولكن ثمة افتراض أن يكون النبات أسبق إلى الظهور من الحيوان، ومستنده أن النبات يستطيع بفضل الكلوروفيل تركيب الكيربوهيدرات من المواد اللاعضوية البسيطة مثل ثاني أوكسيد الكربون والماء بمشاركة الضوء كمصدر للطاقة. أما الحيوان فيحتاج الى البروتين الجاهز المتوفر في العضويات الأخرى، التي يفترض أن تكون اسبق منه وجوداً كما تفرض عليه هذه الحاجة أن يسعى للحصول على الغذاء وهذا يستدعي أن يكون للحيوان قوى عالية التطور تمكنه من الحركة والتنقل. وليس من شك إن هذه القوى لا تظهر إلا في مرحلة متقدمة من تطور المادة العضوية.
لكن، أليس لدى علماء الإحياء ميل معلن إلى مثل تلك النظرية القائلة بتسلسل الحيوان عن النبات؟
حسب المخطط الإرتقائي المبسط الذي وضعه مسكويه، والشيرازي وأصحابهم من الفلاسفة، فإنهم يجعلون تسلسل المادة في الطبيعة هكذا: جماد /حلقة وسيطة/ نبات /حلقة وسيطة/ حيوان /حلقة وسيطة/ إنسان. والحلقة الوسيطة هي التي يسميها العلماء همزات وصل أي هي مخلوقات تتمتع بخصائص مشتركة -نباتية حيوانية- ومنها: العينون الأخضر Euglena viridis من السوطيات. والعينون وامثاله من الكائنات تجمع بين الإغتذاء الداخلي "التمثيل الكلوروفيلي" والإغتذاء الخارجي إذ أنها تواصل التغذي مع غياب الضوء وهو ما يفرق مملكة الحيوان عن النبات. وقد اعتبر أخوان الصفا الكمأه وهي نوع من الفطريات fungi بأنها مشتركة بين الجماد والنبات، وهو رأي لا يخلو من وجاهة، فهي عند العلماء اليوم كائنات دنيا تقبع في أسفل شجرة الحياة وقد اختلفوا فيما بينهم بين من وضعها في مملكة النبات ومن صنفها ككائنات عضوية مستقلة عن مملكتي النبات والحيوان، أما الإنسان فهو خلية حيوانية في الأساس من جملة الثديات.
الكمأة أو بالعامية الفقع Terfeziaceae |
العينون الأخضر Euglena viridis |
"يستحيل المعدن إلى جسم النبات بالتغذية ويستحيل النبات إلى جسم الحيوان بنفس الطريقة"
أليس جسمك يحوي كل معادن هذي الأرض؟ يقول الفيلسوف في كتابه شواهد الربوبية حول مراحل نشوء الفرد البشري: (النفس الآدمية ما دام كون الجنين في الرحم درجتها درجة النفوس النباتية على مراتبها. فالجنين نبات بالفعل وحيوان بالقوة. إذ لا حس له ولا حركة إرادية. وبهذه القوة يمتاز عن سائر النباتات. وإذا خرج الطفل من جوف أمه صارت (النفس) في درجة النفوس الحيوانية فهو حيوان بالفعل إنسان بالقوة ثم تصير (النفس) ناطقةً مدركة للكليات بالفكر والروية). وهذا القول مشابه إلى حد كبير لِما قاله عالم الطبيعة الألماني أرنست هيگل (١٨٢٤-١٩١٩م): "إن سلسلة الأشكال التي يمر بها جسم الفرد في أثناء نموه من البيضة المخصبة إلى أن يكتمل هي إعادة موجزة للسلسلة الطويلة من الأشكال التي اجتازها أسلاف هذا الفرد من أقدم أزمنة الخلق العضوي حتى الآن". وتشكف دراسة الجنين الإنساني عن حقائق مدهشة؛ فقد لوحظ أن جسم الجنين مغطى كله عدا الشفتين وباطن اليدين والقدمين بشعر كثيف يشبه فروة القرد، ويسمى (الوبر الجنيني) وهو يختفي قبيل الولادة، وقد يبقى في أحوال شاذة. كذلك توجد لدى الجنين خمس مجموعات من الغدد اللبنية تنتشر في أنحاء جسمه وهذه تشير إلى حلقة سحيقة من حلقات التطور كان فيها أسلاف البشر يمتلكون أكثر من زوجين من الأثداء. ولا يرى علم الأحياء اليوم أن الإنسان تطور تطورا مباشرا عن القرد الذي نشاهده ونعرفه كما تفهم النظرة السطحية لتلك الحقيقة العلمية عن الإرتقاء، وقد عني علماء الأحياء من بينهم نستورخ بدراسة خصائص فصيلة من الحيوانات المنقرضة هي القرود البشرية Anthropoid apes وهي الفصيلة المرجح اعتبارها سلف الإنسان القردي المسمى بإنسان بيثيكانتروبوس والفصائل الأخرى المشابهة كإنسان النياندرتال.
بعد عرض كل هذه الحقائق العلمية التي رفض الأقدمون التطرق لها إما نتيجة رؤية إعتقادية في الخلق الكامل للكائنات ونزولها من السماء على احسن وجه، أو ثبات الماهيات. نقول هل بعد عرض هذه الحقائق يبقى للإنسان فضل وتميز على سائر الكائنات؟ أم للكائنات الفضل كل الكائنات على ذلك الإنسان، حيث إرتباطه الوثيق بها؟ وهل العقل هو تميز في الانسان ام هو تطور تدريجي يوجد عند سائر الكائنات، كما يقول ابن رشد بقنونة العالم: "العقل ملازم لكل موجود. فالعالم معقول، لأنه يخضع للقوانين" واذا قلنا بأزلية المادة فإنها عند الشيرازي تبقى وسط اشتداد النفس ومفارقتها للجسد...فهل تفعل الطبيعة في جسد الإنسان ما تفعله في المطر؟ اي ما تفعله في الماء من خلال التبخر والتكثف، وإعادة التسخين... فتعيده ماءً؟ ألهذا السبب أوصى المفكر العراقي الراحل هادي العلوي أن يُحرق جسده بدل أن يُدفن، حتى يتحول بصورة أسرع إلى طاقة وتستفيد منه كائنات الوجود؟ إن لهذه الطبيعة أسرارٌ محيرة لا تزال تستحق الإكتشاف قبل أن نسلمها جزافاً لإرادة السماء.
ــــــــــــــــــــ
*البروتوبلازم: يطلق العلماء على المادة الحية مصطلح (البروتوبلازم) الذي يعد الأساس الحيوي للكائن الحي وهو التركيب الذي له القدرة على القيام بعمليات الأيض من هدم وبناء، ويقوم بجميع متطلبات الكائن الحي من تكاثر واستمرارية وثبات.
بعد عرض كل هذه الحقائق العلمية التي رفض الأقدمون التطرق لها إما نتيجة رؤية إعتقادية في الخلق الكامل للكائنات ونزولها من السماء على احسن وجه، أو ثبات الماهيات. نقول هل بعد عرض هذه الحقائق يبقى للإنسان فضل وتميز على سائر الكائنات؟ أم للكائنات الفضل كل الكائنات على ذلك الإنسان، حيث إرتباطه الوثيق بها؟ وهل العقل هو تميز في الانسان ام هو تطور تدريجي يوجد عند سائر الكائنات، كما يقول ابن رشد بقنونة العالم: "العقل ملازم لكل موجود. فالعالم معقول، لأنه يخضع للقوانين" واذا قلنا بأزلية المادة فإنها عند الشيرازي تبقى وسط اشتداد النفس ومفارقتها للجسد...فهل تفعل الطبيعة في جسد الإنسان ما تفعله في المطر؟ اي ما تفعله في الماء من خلال التبخر والتكثف، وإعادة التسخين... فتعيده ماءً؟ ألهذا السبب أوصى المفكر العراقي الراحل هادي العلوي أن يُحرق جسده بدل أن يُدفن، حتى يتحول بصورة أسرع إلى طاقة وتستفيد منه كائنات الوجود؟ إن لهذه الطبيعة أسرارٌ محيرة لا تزال تستحق الإكتشاف قبل أن نسلمها جزافاً لإرادة السماء.
ــــــــــــــــــــ
*البروتوبلازم: يطلق العلماء على المادة الحية مصطلح (البروتوبلازم) الذي يعد الأساس الحيوي للكائن الحي وهو التركيب الذي له القدرة على القيام بعمليات الأيض من هدم وبناء، ويقوم بجميع متطلبات الكائن الحي من تكاثر واستمرارية وثبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق