الخميس، 22 أكتوبر 2020

المعرفة، الخوف، والحب!

 

Adam and Eve in the earthly paradise by Rubens (1628-1629)

قد يجد كل قارئ في أحيانٍ ما أحدهم يقول له: (اشغل نفسك بما هو أنفع). ويُقصد بالعمل النافع في فكرنا السائد الذي نمَّطته منظومة الإنتاج الرأسمالية: "كل عمل يجلب لك منفعة مادية". كنت ممسكاً بكتابي ومر علي أحد الزملاء فسألني: ما الذي يدفعك نحو القراءة؟ أو لماذا تحب القراءة؟ فأجبته: لتحقيق كينونتي كإنسان.

يحكى أن عبدالله بن عباس سمع أحدهم يتلو: "وما خلقنا الجن والإنس إلا ليعبدون. فقال: لا والله، بل ليعرفون". العبادة لا تتحقق من دون المعرفة أولاً، ولتعدد المعارف تتعدد طرق العبادة. كذلك سائر تداعيات الفعل الإنساني: الحب، الثورة، الولاء، العمل. لا يمكن لهذه الأفعال والمشاعر أن تسبق المعرفة، وإلا ستكون عبثاً. إنك لا يمكن أن تحقق كينونتك الإنسانية التي مُيِّزَتْ بالعقل من غير استخدامه لمعرفة الأشياء، واكتشاف حقائق العالم. والعقل مثل سائر أعضاء البدن إذا لم تستخدمه أصيب بالضعف، وسيستخدمه غيرك لتصييرك تبعا له. لا ينتقل الإنسان من المرحلة البهيمية إلى المرحلة الإنسانية من غير المعرفة. فصفة إنسان تبقى صفة اسمية لا تتعلق بكينونته.

            في إحدى تفاسير قصة الخلق المتعارف عليها في الديانات السامية، يحكى أن الفاكهة المحرمة التي قطفها آدم كانت فاكهة المعرفة الكلية للأشياء، وأن تلك المعرفة لا يجب أن يشارك فيها أحدٌ الرّب، وبهذا حُكم على آدم وبنيه بالنزول من الحياة الباقية إلى الحياة الفانية ليعمل ويكد ويشقى، وحُكم عليه بأن يجهل أبداً ويخاف أبداً. فنجد أنه كلما حاول أن يعرف ويقوده فضوله نحو شجرة المعرفة تلك تتم إخافته من قبل السلطة التي لا تريده أن يعرف، إما بالخوف من الله وغضبه، أو الخوف من العذاب الدنيوي -السلطة الدنيوية-. دائما ما كانت صورة الرب المخيف، قرينة بتفسير السلطات، سواء من كانوا يتولون سلطة دينية على الناس أو سُلطة دنيوية، وفي أسوأ الأحوال إذا اجتمعت السلطتين معاً عليهم؛ كما حدث في أوربا القرون الوسطى وغراراتها في تاريخ البشرية. فكان الخوف يستخدم كعدو للمعرفة رغبة في تصيير الإنسان شيئا بهيمياً، يتبع ولا يسأل، ويطيع بتسليم تام.

هناك حكاية رمزية تقول بأن حريقا أصاب إحدى الغابات، فتدافعت الحيوانات للنجاة بنفسها، إلا أن القدر شاء أن تموت الصيصان لأن الحريق كان أسرع من قدرتها على الركض، فلم يبقَ منها سوى ذكر وأنثى. لم تجد الأم تفسيرا للحريق الذي حدث، فأخبرت أبناءها الجدد أن الراعي كان غاضباً من أسلافهم لأنهم لم يكبروا بسرعة ليستخدمهم له. وعندما كبرت مجموعة وصارت دجاجات تسلطت على اخوتها تخيفهم من نوائب الدهر وشر الراعي، ولتتقي ذلك وتحفظ حياة الصيصان أمرت بتقديم قرابين من أملاكهم، وأحيانا من الصيصان أنفسهم. إلا أن الصيصان الفقيرة والمستضعفة قررت أن تثور، مرة على شكل نكران جذري لفكرة الراعي الذي استخدمته السلطات كوسيلة تجهيل وإخضاع، ومرة على شكل تغيير صورة الراعي من الغاضب المخيف إلى المحب والصديق.

إن الخوف لا يجتمع مع الحب أبداً. هكذا كانت مثلا ثورة التصوف على الأكليروس الديني. فلا يمكن أن تحب حتى والدك إذا كنت تخاف منه، سيكون خوفك منه هو الدافع وراء طاعته. هناك اتفاق في تاريخ الفلسفة على أن الأمر الأخلاقي الذي يقول لك: "افعل كذا ولا تفعل كذا" ينبع من داخل ذاتك بالذات، سواء من الفطرة حسب روسو، أو الضمير حسب دوركهايم، أو من العقل كما يؤكد كانط. فحسب توضيح كانط: الأمر الأخلاقي لا تبرره أي غاية أخرى (فهو يجب لأنه يجب. نقطة على السطر). فإذا كنتُ لا أسرق بمبرر أن المبلغ ليس مغريا، أو خوفاً من السجن، أو خوفاً من عقاب الله، فالامتثال هنا ليس أخلاقياً، لأنه لا يصدر عن العقل بل نتيجة انفعالات كـ: الخوف، الطمع، العجز، وغيرها. حين يقول كانط "استخدم عقلك" ذاك لأن العقل مُعطَّل فهو يحتاج إلى التهديد والوعيد والترغيب وإثارة الشهوة لكي يطيع، فهو لا يطيع حُباً إنما يطيع خوفا ورغبة.

يبدو ذلك جلياً في نمط تربيتنا للطفل الصغير: "إذا فعلت هذا الفعل الحسن سنشتري لك هدية، إذا فعلت هذا الفعل القبيح لن تذهب إلى الحديقة". لكنه ما إن يبلغ النضج العقلي تجده يفعل أفعالا حسنة لأنه يراها حسنة في تقييمه الذاتي لها، ويترك الأفعال القبيحة حين يستنتج ذاتياً أنها قبيحة. ولا يعني هذا ان هناك سِناً محدداً للنضج، بل قد يحين الإنسان أجلُهُ وتبقى أفعاله مرتبطة بمتعلقات الرغبة والخوف.

تنبهتْ لذلك رابعة العدوية حين قالت: "أحبك لا أحبك للثوابِ ولكني أحبك للعقابِ / وكل مآربي قد نلتَ منها سوى ملذوذ وجدي بالعذابِ" إنها وصلت للمحبة الإلهية فاستوى عندها الثواب والعقاب، بل هي لا تكترث له وتفضل العقاب على الثواب إذا ما بدر من المحبوب، لأن كل ما هو منه جميل. وكان أبو يزيد البسطامي يقول: "جاءني سيل عشقه فأحرَقَ الماء دوني، فبقي الواحد حين لم يزل أحد". أي أنه لم يعد يخاف النار ولم يراها محرقة، ولم يعد يرى أي أحد او يهاب شيئاً لأن الله حباه عِشقَه فبقي هو وحده أمام ناظريه. فكان يقول ابن خضرويه: "رأيت رب العزة في منامي فقال لي: يا أحمد، كل الناس يطلبون مني، إلا أبا يزيد فإنه يطلبني". ولم يستسغ ملا صدرا فكرة العقاب الأبدي للإنسان نتيجة أفعال اقترفها في حياة مؤقته، فذلك لا يصدر من رب عادل رحيم. لكن آيات النار لا يمكن الإفلات من صراحتها في القرآن، خصوصا من رجل مثل ملا صدرا، فأخذ يفسر العقاب بكونه مؤقتاً ثم يصبح أهل النار من جنس النار فيكون نعيمهم بها وعذابهم في الخروج منها. وكما تقول إليف شافاك: إن الإنسان يرى الله على صورته، فإذا امتلأ القلب رحمة وشفقة على الناس رأى الله أشفق منه عليهم، وإذا امتلأ قلبه قسوة رأه جباراً عتيدا. أو كما اختصر الجنيد البغدادي الفكرة بقوله: "لون الماء لون إنائه".

ما نستنتجه إذاً أن السعادة تتحقق أولاً في الإنسان من خلال استقلاله الفكري والمعرفي فلا يكون تابعاً لأحد، وأن يتحرر ثانياً من الخوف، وأن يملأ ذاته ثالثاً بالحب والرحمة اتجاه النفس والخلق.

السبت، 7 سبتمبر 2019

الشيخ محمد مهدي الخالصي - من وحدة الطائفة إلى وحدة الأمة



الشيخ محمد مهدي الخالصي


لفت انتباهي وأنا أقرأ في كتاب حسين علي الجبوري: "تطبير الرؤوس وتجريح الأجساد تفجعاً على مصرع الحسين" حديثه عن شخصية الشيخ محمد مهدي الخالصي (١٨٨٨-١٩٦٣م) من مواليد الكاظمية بالعراق، حيث كان هذا الأخير واحداً من قواد ثورة العشرين ضد الاحتلال الإنكليزي في بداية عشرينيات القرن المنصرم.

كان موكب الخالصية الذي ينتمي جماهيره لمحمد الخالصي يخرج في الكاظمية مع مواكب العزاء، فلا يقوم جمهوره بالرغم من مروره بجانب المواكب الأخرى بتمثيل واقعة الطف (التشبيهات)، ويمتنعون عن التطبير وضرب الزناجيل، لأنهم يعتقدون حسب رأي شيخهم بأنه لا يجوز ممارستها.

ولتسليط الضوء على هذه الشخصية الجدلية يذكر الجبوري أن الشيخ محمد الخالصي هو مجتهد ضمن مرتبة آيات الله، وتتلمذ على يد والده الشيخ مهدي الخالصي ومجموعة من مراجع زمانه فحاز على درجة الاجتهاد في سن مبكرة، وحارب الاحتلال الإنكليزي سنة ١٩١٤م تحت إمرة والده، وعلى إثر ذلك ذهبت عينه اليمنى في القتال. ولما فشلت ثورة العشرين في دحر الاحتلال نفاه الإنكليز إلى الحجاز ثم إيران، وبقى في المنفى ٢٦ عاماً. وهناك أحدث إصلاحات عديدة وأصدر العديد من المجلات حيث كان يجيد الفارسية والتركية والفرنسية بالإضافة إلى لغته العربية. وكانت منشوراته جميعها تهدف لوحدة المسلمين تحت شعار لا شيعة ولا سنة، وعندما عاد إلى العراق قام بعدة أمور مهمة ومثيرة من بينها الدعوة لوحدة العراقيين ونبذ الطائفية ثم أصدر فتوى بتحريم الشهادة الثالثة في الأذان (أشهد أن عليا ولي الله) ووردت في كتابه "الاعتصام بحبل الله" نقاشات بينه وبين مشايخ آخرين، ويجد الخالصي أنه لا أصل لهذه الشهادة في سنة النبي وأئمة أهل البيت، وكل ما ليس له أصل عندهم في نظره هي بدعة يحرم القيام بها. وربما أضافها المذهب الشيعي بعد ذلك ليثبت أن الإمامة أصل من أصول الدين، فلا يصح إسلام المرء إلا بها، فضلا عن صلاته. ثم نزه الشعائر الحسينية مما يعتقد أنه من البدع المستحدثة، كالتشبيه واللطم والتطبير. وعند وفاته اشترك في تشييعه جمع غفير من السنة والشيعة ودفن في حجرته في الصحن الكاظمي.(١)

تمثلت عندي وأنا أقرأ حول شخصية الخالصي صورة الشيخ أحمد الوائلي الذي كان يدعو لوحدة الأمة وينبذ الطائفية، وللشيخ قصيدة طويلة أنقل منها أجزاء متفرقة في توصيفيه للطائفية حيث يقول: 
"وَلَجَتْ حِماكَ وفي النفوس مخططٌ..وأُعيذُ قومي من لظاها المُروِعُ
وهي التي إن أوترت أقواسها..في غلفة فأنا وأنت المصرعُ
فدماؤنا امتزجت سواءَ ولم تكن..فِرَقَا يصنفها الهوى ويُنَوِّعُ
ومشت تصنفنا يد مسمومةٌ..متسننٌ هذا وذا متشيِّعُ"
وكذلك أيضا نبذ الوائلي الطقوس التي دخلت حديثا على مذهب الشيعة حيث يرى أنها شوهت رسالة الحسين واختزلتها في نواحي ضيقة مهملةً الصراع الكبير الذي خاضته هذه الشخصية.

وعلى غرار زيد بن علي كان كل من الخالصي والوائلي، ففي سنة ١٢٢هـ اجتمع حشد من الناس في كوفة العراق حول زيد للثورة على الوالي الأموي هشام بن عبدالملك، وزيد هو أخو محمد الباقر الإمام الخامس للشيعة الإمامية، وهو عم جعفر الصادق المؤسس الفعلي للمذهب الإمامي الأثني عشري، إلا أن جمهور الصادق والموالين له رفضوا المشاركة في ثورة زيد لأن زيداً كان يرى أن فضل علي بن أبي طالب لا يستلزم إدانة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وحين أصر الجمهور الأثنا عشري أن يدينهما رفض فرفضوا مشاركته ثورته، وكذلك فعل شيعة العباسيين فأمر داعيتهم "بكير بن ماهان" بمقاطعة الحركة وتحذير الناس منها لأسباب حزبية. أما أبو حنيفة النعمان المؤسس لأهم المذاهب السنية وأكثرها تقدما فقد أيد ثورة زيد وبايعه وأمد الجيش الثائر بعشرة آلاف درهم.(٢) مسكين أبو حنيفة هذا فلا السنة يعرفون قدره لأنه ناصر العلويين فيحيون تراثه الفقهي، ولا الشيعة يحيون ذكره أو يزورون قبره لأنه ليس فقيها شيعياً. وبالرغم من أن أبا حنيفة كان ركنا من أركان المعارضة للأمويين والعباسيين ولم ينغمس كثيرا في المجادلات العقائدية، إلا أن الباحث العراقي علاء اللامي ينقل عن أحد المثقفين النجفيين أن والده وكان شيخا معمما أراد أن ينشر هذه الحقائق عن أبي حنيفة فمنعوه ولم يتجرأ على مخالفتهم، وكان عالم اللغة والباحث في التراث هادي العلوي قد نشر هذه الحقائق فأمر خطباء الجمعة في لبنان بقطع يده. هذا ما يفعله التحزب الطائفي في كلا الجانبين: إخفاء الحقائق، خوفا على الخلائق. وبالأحرى خوفا من أن يخرج الناس عن قبضتهم أو أن يخرجوا على مسلماتهم التي بها يسيِّرون الجماهير داخل فلكهم السياسي.


ـــــــــــــــــــــــ
(١) تطبير الرؤوس وتجريح الأجساد تفجعا على مصرع الحسين، حسين علي الجبوري، ط: الوراق للنشر ٢٠١٦، ص٧٥
(٢) المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة، هادي العلوي، ط: دار المدى ٢٠١٤، ص١٠٦ 

السبت، 10 أغسطس 2019

هل لهو الحديث هو الغناء؟



 تستند معظم المذاهب الفقهية الإسلامية في تحريمها للغناء على الآية السادسة من سورة لقمان: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم". ويبدو من غير المنطقي تفسير الآية على أنها وردت في الغناء إذا ما كانت نتيجة الاستماع للهو الحديث هي أن يضل الإنسان عن سبيل الله!



سبب النزول وسبب التحريم

في أحد المحاضرات للشيخ محمد الشعراوي (١٩١١ - ١٩٩٨م)  يخبرنا أن الآية نزلت في مورد الحديث عن الجماعات التي كانت معروفة في ذاك الوقت ضمن الجماعات التي تقود الحركات المضادة لمنطق القرآن وأحاديثه، وكانت قد نزلت تحديدا في النِّضر بن الحارث لتثني الناس عن الاستماع إليه، ويبدو أن هذا التفسير أكثر منطقية لأن التضليل لا يكون بالغناء وإنما بالأفكار المضادة.


ويتفق المفكر العراقي هادي العلوي (١٩٣٣ - ١٩٩٨م) مع هذا الرأي وهو باحث في التراث وعالم لغة ولسانيات، حيث يقول في كتاب "مدارات صوفية" أن معظم الفقهاء يتفقون على تحريم الغناء بينما القرآن لم يحرمه، وإنما وردت آية أولوا فيها لهو الحديث بالغناء، والتأويل متعسف فالآية واضحة في دلالتها على التضليل وليس الإلهاء. أما عبارة لهو الحديث فيراد بها الحديث الضال الذي لا معنى فيه وكان أهل المدينة يغنون في عهد النبي وكانت فيها مجالس غناء صاخبة كمجلس حسان بن ثابت. ويقول العلوي في سبب التحريم: "ويمكن أن يتحمل عمر بن الخطاب مسؤولية التحريم ضمن اتجاهه في تركيز اهتمام المسلمين بالمهام الثقيلة في بناء الدولة والمجتمع وتوسيع الإسلام بالفتح"(١)


كل فن ينتسب إلى المعيار الأخلاقي

يعرف السيد محمد حسين فضل الله (١٩٣٥ - ٢٠١٠م) على أنه من أبرز فقهاء الشيعة المعاصرين الذين قاموا بالثورة على بعض المفاهيم والتصورات والروايات التي تُصَنَّف "ضمن المشهور الذي لا أصل له". في كتاب معنون بـ "حوار مع السيد محمد حسين فضل الله" وَرَدَ في رده على سؤال يقول: هل الموسيقى كلها محرمة؟ أن قال: "إن الموسيقى التي تريح الأعصاب والموسيقى التي تجعل الإنسان يعيش في أجواء روحية عالية، والموسيقى الحماسية، هذه كلها ليست محرمة. وما ينطبق على الموسيقى ينطبق على الغناء" ويقول أيضا بأن هذا هو رأي المرجعين الشيعيين: الخوئي والخميني.

كل فن إذاً يخضع إلى المعيارية الأخلاقية، فهناك فن هابط وهناك فن رفيع، وربما تخضع أشياء عديدة لهذه المعيارية الأخلاقية، حتى الدم. فالدم واحد، ولكنه في الإسلام يأخذ مواضع معينة قد يكون فيها مقدساً: كدم الشهيد. وفي مواضع أخرى قد يكون نجساً. والشِّعر فن واحد، ولكنه محبذٌ حين يكون شعرا يحمل مشاعر حب صادق، أو حين يكون رثاءً لشخصية عظيمة، أو حين يستدعي القيم الثورية في الجماعات، ويكون كأداة للتحشيد ضد العدو والنهوض بهمة الجنود والشعب، ويكون محرماً إذا ما دعا وشجع على أمور يعتبرها الإسلام غير أخلاقية: كالشذوذ الجنسي، ومدح السلاطين الجائرين، وكثيرا ما وقف الشعراء عند هذه الأبواب. 

يبدو أن تحريم الغناء والرقص عند معظم الفقهاء جاء من هذا الباب، من باب النظر إلى معيارية أحادية في تقييمه كفن هابط يلهي الناس عن ذكر الله، ولكن ماذا لو كان الرقص والغناء يقود إلى الاندماج مع الذات الإلهية؟ ذلك ما نجده عند المتصوفة مثلا، حين يتحول الغناء من مجرد ملهاة إلى وسيلة ذكر، وحين تفتح لك رقصة الدرويش معاني إنسانية عميقة ترتقي بفكر الإنسان واتصاله ليس بالله فقط وإنما بأخيه الإنسان، ربما لا نجد ذلك في أي مذهب إسلامي.

كنت استمع إلى فيروز مرة فقال لي أحد الأقرباء المتدينين: ما هذا الذي تسمع! فقلت: مناجاة. فضحك مستهزئ. وكانت فيروز تغني: "بيتي أنا بيتك وما إلي حدا". وحين وضعتُ أغينة: "عندما كنت صغيرا" لخالد الشيخ، التي يكون مطلعها: "إلهي أعدني إلى وطني عندليب". علقت عليها حين نشرتها بكلمات قلت فيها: "حين تتحول الأغنية إلى مناجاة، ويصبح صوت المغني كصوت نبي، أو حكيم من أرض فارس القديمة، يأخذ الله بيديه إلى الشعر، ويأخذه عصفور أزرق من النافذة إلى نايهِ، فيطلق تغريدته الخالدة". أعجب بها كثيرون، لأنه كان هذا ما شعرت به حقا، وربما هم كذلك حملتهم على بساطها إلى سماء الله عليلة.

قيل: لا يصح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي، نفس ذبحت بسيوف المجاهدة وقلب حي بنور الموافقة(٢). وهكذا أيضا كان فن الشعر عند حيكم سنائي، حيث يقول في حديقة الحقيقة: "إلهي لقد جعلت نسبتي إليك في حين أن كل شاعر ينتسب في شعره إلى هذا وذاك". وفي عوارف المعارف يرد شيخ الإشراق السهروردي على محرمي الغناء فيقول: "ماذا يُنكَر من محبٍ تربّى باطنه بالشوق والمحبة ويرى انحباس روحه الطيّارة في مضيق قفص النفس الأمّارة، يمر بروحه نسيم أُنسِ الأوطان وتلوح له طوالع جنود العرفان وهو بوجود النفس في دار الغربة يتجرع كأس الهجران، يئن تحت أعباء المجاهدة ولا تحمل عنه سوانح المشاهدة، وكلما قطع منازل النفس بكثرة الأعمال لا يقرب من كعبة الوصال ولا يكشف له المسيل من الحجاب فيتروح بتنفس الصعداء ويرتاح باللائح من شدة البرحاء، فيقول مخاطباً للنفس والشيطان وهما المانعان:

أيا جَبَلي نعمـــان بـالله خلِّيا       نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها

وهو يقول لهم هنا: دعوني استمع إلى هذه الأصوات فهي واحدة من السبل لاتصالي به في دار الغربة والهجرة عنه، وهكذا يكون الشعر والغناء فن تجلٍ وفن مشاهدة وليس فنا للتخلي عن ذكر الله.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) مدارات صوفية، هادي العلوي، الطبعة الأولى: دار المدى ١٩٩٧، ص١٧٣.
(٢) الرسالة القشيرية، عبدالكريم بن هوزان القشيري، فصل: شرح المقامات أو مدارج أرباب السلوك، باب: السماع.

الجمعة، 25 أغسطس 2017

تونس نحو المساواة بين الجنسين وما يوازيها في الإسلام

فتاة درزية من لبنان - عام ١٨٨٩م


في يوم الأحد الموافق ١٣ أغسطس ٢٠١٧ نشرت وسائل الإعلام العربية تصريحاً مرئياً لرئيس الجمهورية التونسية "الباجي قايد السبسي" يدعو فيه للمساواة بين الجنسين و تكافؤ المرأة مع الرجل في الميراث. وأيضا قامت تونس بإلغاء الزواج الضرائري -تعدد الزوجات- منذ فترة وأباح "السبسي"  للمرأة حرية اختيار الزوج ولو كان غير مسلم(١). توالت التصريحات المؤيدة والمعارضة لتونس في الأيام التي تلت؛ فقد صرح وكيل الأزهر "عباس شومان" قائلاً بأن ما يحدث في تونس هو أمر مخالف لقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية، والمواريث مقسمة حسب الآيات القرآنية وأي مخالفة لذلك هي تعدي على الإسلام. بينما استغل الداعية المصري "وجدي غنيم" وجوده في تركيا ليصرح بتكفير تونس حكومة وشعباً ووصفها بالدولة العلمانية، وذاك ما لم تقبله لا تونس ولا تركيا من "غنيم".

علينا أن نقر أولاً وقبل أي شيء بأن لكل تشريع أي تشريع كان (بشري - عقلي -) أو (إلهي - ديني-) سياقاً تاريخياً يسير فيه، وسياقاً إجتماعياً آخر. أي بأنَّ هناكَ زمان ومكان يرتبط التشريع بهما. وحين نحاول أن ننزع عن هذا التشريع سياقاته التاريخية والاجتماعية لا يمكن أن نصل لحقائق علمية حول ما هي الغايات والأسباب التي دعت للتشريع. فيصبح في نظرنا هذا التشريع تشريعا كونياً بدل أن يكون تشريعا تاريخياً. إن أي تشريع كان لا يمكن أن يتصف بالكونية، حتى ما تعتقد فيه جماعة من الناس أنه إلهي، فإن هذه الجماعة ستجد نفسها غير قادرة على جعل التشريع كونياً في لحظة ما لا من ناحية الممارسة ولا من ناحية الفكر نتيجة للتغير الدائم في  الظروف الاقتصادية والتاريخية أو تطور القيم الأخلاقية، ولذلك لم يجعل الله شريعة سماوية واحدة له. إن الإنسان إذا ما أراد أن يسبغ على تشريعاته طابعا كونياً يضطر عندها للتأويل أو لتفسير يعطي التشريع دليلاً برهانياً يتماشى مع عصره. إذن ما يتحرك هنا هو العقل!

عندما يكون هناك تفسير وتأويل فذلك يعني أن الإنسان دائماً سواءً كان يؤمن بالمرجعية الدينية؛ أو بالمرجعية الفلسفية -العقلية البحتة- لاستنباط قوانين تنظيم المجتمع، فهو كائن إستدلالي -عقلاني- وإن كانت تقيده نصوص ثابتة مقدسة في الحالة الاولى بينما في الحالة الثانية هو خاضع لبراهين العقل الصرف. ولهذا نجد أحياناً وخصوصاً في الجانب الفلسفي في تاريخ الإسلام خروجات عقلية على حساب النص قوبلت بالهجوم من قبل الإتجاهات السلفية باختلاف مسمياتها المذهبية كما هي الحال عند الدروز - الإسماعليين في الأصل - والذين يتمركزون حالياً في لبنان وبعض المنتبذات السورية والمصرية.

أ- الميراث: في الجاهلية والإسلام، أوربا القرون الوسطى، والصين الاشتراكية!

إن أول ميراث تحضى به المرأة العربية كان بعد معركة "أُحد" التي جرت بين المسلمين وقبيلة قريش. أما قبل ذلك فكان الذكر هو الوارث الوحيد، وإذا لم يكن هناك ذكور بين الأبناء يذهب الميراث إلى العم. وبعد مقتل الصحابي سعد بن الربيع في "أُحُدْ" والذي خَلَّفَ بنتان؛ جاءت زوجته تشكو النبي إستيلاء عمهما على الميراث حيث لم يترك لهما شيء، فدعا عمهما وقال له: اعط ابنتي سعد الثلثين وأعطي أمهما الثمن ولك مابقي. فكان ميراث سعد هو أول ميراث يقسم على البنات والأم. ونزلت بعد هذه الحادثة آية المواريث، وبالرغم من أن حصة التوريث كانت النصف إلا أنها كانت خطوة كبيرة للثورة الإسلامية في مجتمع كان يفرض الحرمان التام على النساء.

بالمقارنة مع الغير، نجد المرأة الأوروبية في العصور الوسطى وعصر النهضة محرومة من الإرث. وكان الإرث في بريطانياً يذهب كله للإبن الأكبر فتحرم منه ليس البنات فقط وإنما بقية البنين. وعند الساميين القدماء والسومريين أعطت شريعة أورنمو حق الإرث للبنت العازبة إذا كانت وحيدة والدها وتحرم منه المتزوجة التي تحضى بعائل. أما في الإسلام فكانت شاملة للأولاد جميعاً بنين وبنات، متزوجين وعزاب. وكان من المنتظر أن يعاد النظر في الحصص بعد تطور نظم الإنتاج في المجتمع الإسلامي لتكون متساوية بين الجنسين، وهذا ما قام به الدروز حيث ساووا بين الإبن والإبنة في الميراث. والدروز مسلمون فلاسفة وليسوا فقهاء، هذا ما جعل تحكيم العقل عندهم متقدم على حاكمية النص الإلهي وتطوير شريعة جديدة، لا يتوانى البعض في القول بأن هنالك شريعة درزية مع أن ذلك لا يخرجهم من الاعتقاد بالثوابت الإيمانية في الإسلام.

وفيما يخص الاشتراكية فإن هذه المسألة ثانوية عندهم. ينقل المفكر العراقي هادي العلوي عن زيارته للصين عام ١٩٧٩ وهو عام الإنقضاض على نظامهم الشيوعي بأنه لم تكن لديهم مواريث بعد أن ألغوا الملكية الخاصة وأعادوا توزيع الثروة على الناس بالتساوي. فلا يبقى لدى أحد مال شخصي يوزع على الورثة. وفيما يخص المهور ألغت الصين المهر في عقد الزواج بصفة أن العلاقة الزوجية هي علاقة روحية في المقام الأول لا تقوم على لذة الرجل دون المرأة ولا يجب أن تدخل فيها مصارفات البيع والشراء. وفي المقام الثاني أن المرأة العاملة ليست بحاجة للمال. فتجري ترتيبات الزواج البسيطة بين العائلتين دون ذلك(٢)


ب - رأي عقلي

هناك رأي عقلي لكمال الحيدري وهو شخصية إسلامية معاصرة، يقول بأن مسألة الميراث كانت ترتبط دائما بالكيفية التي ينتج فيها المجتمع اقتصاده. ففي المجتمع البدائي لم يكن هناك توريث للمرأة لأنه لم يكن لها مشاركة في الحياة الاقتصادية، أما في المجتمع الزراعي فقد نزلت المرأة مع الرجل للعمل ولكن إنتاج الرجل كان ضعف إنتاج المرأة، لأن عملية الحرث والحصاد كانت تحتاج لجهد عضلي والرجل أقوى بدياً، إضافة لما يصيب المرأة من حالات كالحيض والحمل والولادة تجبرها على القعود. أما في المجتمع الصناعي الذي نعيشه اليوم فإننا أصبحنا نعتمد على الجهد الفكري وليس العضلي، وبه دخلت المرأة ميادين متعددة وقد فاقت نظيرها فأصبحت مهندسة ومعلمة وطبيبة، وقد يفوق دخلها دخل زوجها أحيانا، فهل يمكن أن نقول اليوم بأن النفقة يجب أن تكون على الرجل وحده، وإذا كانت المرأة تشارك الرجل في النفقة، فإن هذا النظام الإقتصادي يجب أن يحيل للمساواة في المواريث!(٣)


ج - الزواج الضرائري وحرية الإختيار

يعتبر تعدد الزوجات من المسائل الجدلية اليوم بين المدافعين عن حقوق المرأة والإنسان وبين الفقه والتجديد الفقهي من داخل الإسلام نفسه. فالمسلم يبيح تعدد الزوجات لكنه لا يقبله من ناحية أخرى على أخته أو أمه أو ابنته. ما نتفاجأ منه حينما ننظر للتشريعات في سياقها التاريخي هو اننا نستشف أنها ثورات تتعلق بما يحدث على الأرض أكثر مما يتعلق بتاريخ السماء. فالإسلام لم يبح تعدد الزوجات إنما كان التعدد قائم وقد عرفته جميع المعاشر القديمة قبل أن تنتقل من حالتها البدائية - الأمومية - إلى حالة التحضر الأبوي - الذكوري -. وكان التعدد في الجاهلية بلا قيود. فقلصه الإسلام إلى أربع. يورد هادي العلوي عن "المحبِّر" لإبن حبيب أسماء مَن كانت لهم عشر زوجات فسرحوا منهن ست وأبقوا على أربع. أما لماذا لم يخطو الإسلام على خطى المسيح بإلغاء تعدد الزوجات وإقامة العائلة الوحدانية؟ فيعلل العلوي بأن نبوة محمد بعد فتح مكة أصبحت أقرب لنبوة موسى منها إلى المسيح، فهي نبوة دولة وليست نبوة خالصة كاليسوعية التي انتهت بضرب الدولة الرومانية لمعشرها منذ تكونه. وكان يهدف النبي محمد لتكثير عدد المسلمين بغرض توسيع الدولة الإسلامية ومن أحاديثه: "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد" و "إني مكاثر بكم الأمم". وكان هناك قطبان إسلامياً لم يقبلوا بتعدد الزوجات ولا بالتسري - إتخاذ السراري أو الجواري - وهما أبو ذر و سلمان الفارسي.  لكن بعد توسع الدولة الإسلامية وعدم الحاجة لتعدد الزوجات كانت خطوتهما تنتظر ثورة أخرى هي ثورة الإسماعيلية و القرامطة اللتان ألغتا الزواج الضرائري ولو أنهما لم تستمرا شأنهما شأن التحولات الثورية المجهضة. وكان أكثر من دعا للعائلة الوحدانية وإلغاء تعدد الزوجات هو الفيلسوف والشاعر المسلم أبو العلاء المعري، وله بيت يقول:

قرانك ما بين النساء أذية لهن     فلا تحمـــل أذاة الحــرائرِ

أما في ما يخص حرية اختيار الزوجة لزوجها فيُنقل حديث عن النبي: "لا تُنكح الثيب حتى تُستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن". والثيب هي من تزوجت سابقاً فامتلكت تجربةً ونضجاً يخولانها تقرير مصيرها واختيار طريقة حياتها. وتتفق جميع المذاهب بخصوص الثيب. والخلاف الأشد يقع فيما يخص البكر. فمن منطوق الحديث يجوز لها الرفض حتى لو وافق الأب على الزوج، وتبقى حرية الثيب أوسع من حرية البكر في الاختيار بحكم الفرق بين الاستئمار والإستئذان. وربما ما أثار حفيظة الحركات الإسلامية هو إعطاء تونس حرية أكبر للمسلمة من الزواج من غير المسلم.

تبقى تونس سباقة دائما في عصرنا الحديث لمثل تلك الخطوات العقلية وهي كما رأينا ليست الوحيدة ولا الأولى ولا الأخيرة في تاريخها التي تجعل حاكمية العقل متقدمة على حاكمية النص. وكان الصراع دائما ما يحكم تاريخ الإسلام بين الحركات السلفية والحركات الفلسفية، وصلت في أقصى مداها للتكفير وإباحة دم فيلسوف ما بتلك الحجة كما يصدر اليوم عن وجدي غنيم اتجاه التوانسة.

التشريع الإسلامي كما رأينا هنا لم يكن مجحفاً للمرأة بل كان متقدما على الجاهلية من ناحية الحقوق التي أتاحها لها. وإن نزعه عن سياقه التاريخي هو ما يجعل منا غير قادرين على فهم ذلك فنحاكم بعض تشريعاته بصفتها غير متوافقه مع التقدم الأخلاقي أو الاقتصادي الحالي، أو يقودنا لإزاحة الصفة التاريخية للتشريع فنجعل منه تشريعا كونياً واجباً لكل مرحلة تاريخة ولكل مجتمع مهما كان مختلفاً في نمط إنتاجه أو البنية الاجتماعية والاقتصادية عن بيئة مكة اثناء الدعوة الإسلامية.



ـــــــــــــــــــــــــــ
(١) (يوتيوب) الباجي قايد السبسي: ماضون نحو المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة
(٢) فصول عن المرأة، هادي العلوي، الطبعة الأولى ١٩٩٦، دار الكنوز - بيروت، ص٤٧ و ص٤٨
(٣) (يوتيوب) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة



الأربعاء، 11 يناير 2017

رؤيتان حول التشيع

اليمين: حسين مروّة. اليسار: محمد باقر الصدر


هذه مقارنة بين رؤيتين تناولتا موضوع التشيع بصورة مختلفة، الرؤية الأولى يمكن أن نطلق عليها دعوية، لأنها من داخل التشيع نفسه، وهي رؤية - محمد باقر الصدر (شيخ وفقيه شيعي١٩٣٥-١٩٨٠م) -. والرؤية الثانية يمكن أن نطلق عليها رؤية تحليلية، والتي تعتمد المنهج المادي في قراءة التاريخ، وهي رؤية - حسين مرُوَّة (مفكر لبناني ١٩٠٨-١٩٨٧م).

قبل كل شيء نشير إلى أن محمد باقر الصدر يعتبر من عِظام فقهاء شيعة القرن العشرين، حيث رد في كتابه "فلسفتنا" على الرؤى المناوئة للفكر الإسلامي وبالخصوص الماركسية التي كانت تأخذ مدىً واسعاً بين المثقيفين العرب الطامحين للتحرر الوطني والقومي. وقد قُتل الصدر في عام ١٩٨٠م وكان من أهم الأسباب التي أدت لذلك معارضته لحزب البعث العراقي وتحريمه الإنتماء إلى صفوفه.

في المقابل يُعتبر حسين مروة مفكراً ماركسياً من أفذاذ المفكرين العرب، وهو أول من استخدم المنهج المادي في قراءة التاريخ العربي الإسلامي ضمن كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" محاولاً أن يقدم دراسة شاملة حول تطور الإتجاهات الفلسفية والكلامية والفقهية عند العرب منذ الجاهلية إنتهاءً بالعصر العباسي. قُتل حسين مروة أيضاً في الفترة التي كانت فيها الحرب الأهلية في لبنان تلتهم كل شيء، وكان أهم سبب لقتله هو ما قدمه من رؤى في هذا الكتاب ومشروعه التقدمي في التحرر الوطني المناهض للطائفية ودولة إسرائيل.

يقدم محمد باقر الصدر في كتابه "نشأة الشيعة والتشيع" بالنسبة لأمر الخلافة الإسلامية وموقف النبي محمد منها في حياته ثلاثة احتمالات: الأول - إهمال النبي محمد لأمر الخلافة من بعده وتركه بيد الناس: وهو بالنسبة له موقف سلبي. الثاني - نظام الشورى: وهو موقف إيجابي لكن المسلمين لم يكونوا مهيئين لمثل هذا النظام حيث لم يكن هناك شكل واضح لطريقة الشورى التي يجب أن يمشي المسلمون على خطاها. الثالث - الإختيار والتعيين ممثلاً في شخصية علي بن ابي طالب. وهذا الاحتمال هو الإيجابي بالنسبة لمحمد باقر الصدر وعموم الشيعة.

بينما يقدم لنا الصدر فكرة إيمانية واضحة باعتبار التشيع الحالة الطبيعية للإسلام أو الحالة الإيجابية له، يقوم حسين مروة بالبحث عن الجذور الإجتماعية لتكوّن هذه النظرة، ليس باعتبارها صراعا بين الجانب القويم "التعبدي" ممثلاً بالشيعة والجانب السياسي "الاجتهادي" ممثلاً بالسنة كما عبر عنه الصدر، بل باعتبار مشكلة الخلافة نتيجه لصراع كامن في حياة النبي محمد بين مكونات مختلفة ومتباينه هي ليست بين مكونين "شيعي/سني"، بل بين مكونات متشعبة ومعقدة أكثر من ذلك. إن مصطلح "شيعة" كما يتفق الصدر مع مروّة لم يكن موجوداً في تلك اللحظة، حيث يقول محمد باقر الصدر: "إذا كنا لا نجد كلمة -شيعة- في اللغة السائدة في حياة النبي(ص)، أو بعد وفاته، فلا يعني هذا أن الإطروحة والاتجاه الشيعي لم يكن موجوداً"(١). وقد عارض الناشر كلام الصدر هذا حيث رد في الهامش عليه بكلام لابن عساكر يستدل فيه بوجود مصطلح شيعة منذ عهد النبي. والاستدلال بابن عساكر ليس من العلمية في شيء، لأنه من مواليد القرن السادس، ويتحدث بمصطلحات مجتمعه لا مجتمع النبي أنذاك، حيث يفصله عن ذلك العهد ٥ قرون.

بالنسبة لمرُوًّة، يمكننا أن نطلق على الصراع الذي نشأ بعد وفاة النبي بأنه البذرة التي شغلت معظم الإتجاهات الكلامية: من معتزلة، وأشاعرة، ومرجئة ومنطق، وجبر، وقدر، من ثم الفقه ومدارسه. وهي البذرة الأولى لثمرة التنظير الإسلامي والمذاهب الإسلامية، إن الصراع ذاك كان يمثل صراعا بين تكتلات قبلية، بين فئة المهاجرين -أي أهل مكة-، وفريق الأنصار -أهل المدينة الذين استقبلوا النبي في هجرته-. حيث يرى أنه وبعد وفاة النبي ظهرت فجأة رواسب هذا الصراع القديم بين مكة والمدينة. نشأت بعد الهجرة إلى المدينة مؤسسة شبه مشاعية تقوم فوق القبيلة كون الإسلام كدين يقوم على إطار موحد جامع، إلا أن هذه المؤسسة ظهر فيها تمايز ملحوظ بين المهاجرين والأنصار، كان للمهاجرين فيها النصيب الأكبر من الغنائم والأماكن القيادية، حيث كان لأبي بكر وعمر بن الخطاب الدور الأول في تنظيم شؤونها.

تنبهت لدى المهاجرين أنفسهم انقسامات أخرى لها رواسب قديمة في الجاهلية: "بين بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي وصهره وابن عمه علي بن ابي طالب واصحابه من جانب، وبين عبدشمس وتميم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي إليهم سائر المهاجرين(٢). من خلال هذه المواقع التي يمثلها كل فريق نشأت النظرية التي حاول كل أن يدافع عن موقعه من خلالها

ينقل مروة تسلسل الأحداث عن مصدرين تاريخيين معترف بهما عند عموم المسلمين هما تاريخ اليعقوبي -ت ٢٨٤هـ- وهو مؤرخ شيعي يصنف من المؤرخين المحترفين لا الدعاة، والثاني هو تاريخ الطبري -ت ٣١٠هـ- أيضا مؤرخ سني محترف طغت حياديته التاريخية على ان يكون داعياً سنياً:

"في البدء كان علي بن ابي طالب والعباس بن عبدالمطلب عم النبي وأسامة بن زيد مشغولين في غسل جثمان النبي وتكفينه، ثم حملوه إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها في بيت عائشة، فسُمع منادياً من الأنصار يقول: إجعلوا لنا في رسول الله نصيباً. فاعتقد -علي- أنهم يريدون أن يكون لهم نصيبا في دفنه، حيث دعى أحد الأنصار ويسمى"أوس بن خولي" للمشاركة في عملية الدفن. وقد تبين ماذا كان يقصد الأنصار من كلمة "نصيب" سريعا، فبينما كان علي بن ابي طالب يدعو صاحبهم أوس اجتمع زعماء الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليعلنوا خلافة المسلمين بعد محمد لزعيم الخزرج الأنصاري "سعد بن عبادة". ولما بلغ الأمر أبا بكر وعمر بن الخطاب وبعض المهاجرين جاؤوا مسرعين فأبعدوا الناس عن سعد، وشق أبو بكر طريق الإجتماع قائلاً: "يا معاشر الأنصار منا رسول الله ونحن أحق بمقامه". فقال الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير". فقال أبو بكر: "منا الأمراء ومنكم الوزراء". واحتدم الصراع وكانت الفتنة ان تحدث بين المهاجرين والأنصار في دار السقيفة، حتى قام "ابو عبيدة الجراح" وهو أحد زعماء الأنصار بحسم الموقف للمهاجرين وذلك بمبايعة أبي بكر بالخلافة... غير أن الصراع لم ينحسم فعلاً مع غياب بني هاشم عن تلك العملية".

هذا هو مختصر ما نقله الطبري إذ أن الصراع لم يكن مجرد صراع بين جانب "تعبدي" ممثلاً بالشيعة، وجانب "يجتهد على حساب النص" ممثلا بالسنة. يمكن أن نرى أن الأنصار ومبادرتهم الأولى بالاجتماع في أمر الخلافة هو نتيجة لاحساسهم بأنهم الأكثر بعدا والأقل نصيبا فيها، إذ لجأوا للشورى سريعاً، واتخذ المهاجرون من غير بني هاشم تلك النظرية "الشورى" لأنهم كانوا أقدر على الفعل فيها، بينما لجأ بنو هاشم لنظرية التنصيب الإلهي التي ارتبطت بحادثة الغدير مبدأً لهم - وهي حادثة تاريخية تعترف بها جميع المذاهب الإسلامية -، لكنهم -المسلمون- اختلفوا في تفسير معنى كلمة "مولى" بيوم الغدير، بل إن المهاجرين اعتبروا تسليم النبي لأبي بكر إمامة الصلاة بعد مرضه الأخير دليل خفي على إمامته الكبرى للمسلمين...

يستكمل اليعقوبي قائلا: "لما علم بنو هاشم بالأمر ثار بهم الغضب، وقدم بعضهم إلى حيث حدث الأمر، فوقف عتبه بن أبي لهب ينشد شعراً يمدح به علياً بن ابي طالب وكأنه يرشحه للخلافة إلا أن علياً بعث إلى عتبه هذا ينهاه عن دعوته التي أعلنها، لكنه في نفس الوقت -أي علي- تخلَّف عن مبايعة أبو بكر ومعه جماعة من بني هاشم وبني أمية..." وينقل الطبري أن أبا سفيان بن حرب (أبو معاوية مؤسس الدولة الأموية) تخلف عن مبايعة أبي بكر، وقال مثيراً زعماء قريش: "أرضيتم يا عبد مناف -وهو أحد أجداد القبائل القرشية- أن يلي عليكم هذا الأمر غيركم؟) حيث أن بني أمية وبني هاشم معاً -بالرغم من اختصامهم- غضبوا أن يتولى الخلافة رجل من تميم".

هذا الشكل الجديد من الصراع لدى العرب هو ما يفسر نشوء أقوال مختلفة في مسألة الخلافة لدى القائلين بوجوب أن يكون الخليفة من بني هاشم في قريش: "وهي رؤية بنو هاشم وأنصارهم" أم في قريش بوجه عام "وهي رؤية بنو أمية وغيرهم من القبائل القرشية" أم يصح أن يكون من غير قريش في العرب "وهي رؤية الأنصار مع المهاجرين من غير قريش". وسينشأ مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين تيار آخر يقول بأن الخلافة تصح في العرب وغير العرب من المسلمين (حتى لو كان عبداً حبشياً) "تلك هي رؤية الخوارج".

يحاول مروَّة إذا أن لا يقدم إيماناً بقدر ما يحاول أن يقدم فهماً لطبيعة الصراع التاريخي الذي تنشأ منه النظريات الإيمانية، معتبراً ذلك الصراع ليس صراعاً شخصانياً، وإنما صراعاً حتمياً يمر بجميع مراحل التاريخ المشابهة، حيث تنتقل القوة من القبائل إلى المركز -الدولة-، تلك القوة التي يدور الصراع حولها.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) نشأة الشيعة التشيع، محمد باقر الصدر، مركز الغدير للدراسات الإسلامية-بيروت، الطبعة الرابعة ١٩٩٩م، ص١٦
(٢) النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، حسين مروّة، دار الفارابي، الطبعة الأولى٢٠٠٢، ج١، ص٤٣٢

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

التابو والأخلاق والتشريع: هل الأنظمة الأخلاقية ثابتة أم متغيرة؟


يُعرّف التابو على أنه فعل محظور يوجد ميل شديد نحوه في اللاشعور، وهو عند الناس موقف ازدواجي بين ميولهم وبين محضوراتهم التابوية والتي تصبح مع مرور الوقت قيماً. ينقل بو علي ياسين عن فونت: "من ينتهك تابواً يصبح هو نفسه التابو"(١) هذه المقولة تعبر عن جدلية الأخلاق وتطورها في المجتمعات. فمن ينتهك محرماً يصبح هو ذاته محرماً، بعبارة أخرى من ينتهك المقدس/الصنم يصبح هو ذاته مقدساً/يؤسس لصنميات أخرى. ولكن هل المسألة الأخلاقية بهذه البساطة؟ وما هي القوانين التي تحرك المجتمع نحو تبديل قيمه؟ وما الذي يجعل الشيء أخلاقيا هنا وغير أخلاقي هناك؟ مقبولا في زمان ما ويعبر عن قيمة عليا، ثم يصبح محط للنقاش والجدل، ثم ينتهك ويستبدل في زمن آخر؟


في مطلع القرن السابع عشر وتحديداً في العام ١٦١٢م رسم بيتر بول روبنز لوحة لفتاة إيطالية، هذه الصورة أصبحت خيطاً دقيقاً بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وحين نشرها الفنان التشكيلي العراقي "ستار كاووش" على صفحته في الفيسبوك أثارت جدلاً واسعاُ، وكان من الأجدر لكاووش أن يوضح الحدث من وراء هذا الرسم الذي هز روماً أنذاك: "كانت للوحة تُصور فتاة ترضع والدها الذي حُكِم عليه بالموت جوعاً، وكانت الفتاة ابنته تأتيه يومياً ويتم إدخالها بعد أن تُفتش جيداً، ويتم التأكد من أنها لم تحضر معها أي طعام، وفي سبيل ذلك لم تجد الإبنة غير هذه الطريقة لإطعام والدها وإنقاذه من الموت، وعندما اكتُشف أمرها تعطاف معها شعب روماً، وقامت السلطات بإطلاق سراح والدها".

ما الذي جعل شعب روما يتعاطف مع قضية هذه المرأة، بالرغم من أن هذا الفعل سفاح محرم ليس في الدين فقط بل في التابو الذي يسبق مرحلة اندماج الأخلاق في الأديان؟!

peter paol rubens - roman charity 1612

يمكننا ان نبين من خلال بعض الأمثلة أن غريزة البقاء تمتلك الدور الأهم لدى البشر في تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير كذلك. على سبيل المثال: "قد ترى شاباً يضرب عجوزاً، فتقول ما أقسى ذلك الشاب، لكنك ستقف معه لو علمت أن العجوز قام باغتصاب أحد الأطفال"... "وقد ينحرف سائق قطار عن سكته فيقتل رجلاً، لكن السلطات لن تحاكمه، وربما ستمنحه وسام الشرف إذا ما علمت أن السائق انحرف عن مساره لأن سكة الجسر على الطريق الآخر متهالكة وستودي بحياة الآلاف... لكن هناك من لن يغفر لسائق الباص أيضاً، وهم أقارب الرجل المقتول، إذ يلعب الجين/القرب/وصِلة الدم مسألة أخرى في تحديد القيم الآخلاقية لدى الفرد"


تختلف المعايير الأخلاقية من مجتمع لآخر أيضا باختلاف الظروف التي تمر بهذا المجتمع أو ذاك في سبيل الحفاظ على كيانه: "يُذكر أن موظفا هنديا احتفل في أحد المؤسسات بمناسبة قدوم مولوده الجديد، فتعجب أقرانه لأنهم لم يحسبوا أنه غادر البلاد منذ سنتين، وأصابهم العجب اكثر حين أجابهم بأن الطفل من زوجته لأخيه" ويقال أن الهندي أخذ يناكف أقرانه حول تشريع تعدد الزوجات في الإسلام، متعجبا هو الآخر. ولو أننا بحثنا في الظروف التاريخية لجميع التشريعات التي تثير استغراب واستهجان الآخرين اليوم لوجدنا ألف مبرر ومبرر. ولكن يبقى السؤال: هل الظروف هي دائما نفسها؟ ولماذا تبقى القيم ثابتة ومقدسة وفوق النقد رغم عدم توافقها مع البنى الإجتماعية الأخرى؟ ورغم تغير الظروف في المجتمع ذاته؟

إن هذه ليست دعوة للانحلال الأخلاقي، وإنما هي دعوة للنظر فيما هو ثابت وقراءته في سياقه التاريخي، فالعودة إلى البنية الإجتماعية لكافة التشريعات تجعلنا نفهمها، وحين نفهمها نتحرر من النظر إليها بعين المقدس الثابت، او الإزدراء الغير مفهوم والمعادي. إننا حين نفهم لا نعادي ولا نقدس، وإنما نقارن ونُطور.


بالعودة إلى التاريخ ما قبل الإسلامي -الجاهلي الأخير- يمكننا أن نفهم مثلا أن الإسلام في سياقه التاريخي لم يشرع لتعدد الزوجات، وإنما قننه بأربع، وكان رجال من بني ثقيف يملكون ١٠ نساء فتم تسريح ٦ منهن، واعطي للمرأة نصف الميراث بعد أن كانت محرومة منه، ومع تطور المجتمع الإسلامي، قام الدروز -الإسماعيليون في الأصل- بنسخ تشريع التعدد وجعلوا زوج واحد لزوجة واحدة، وساووا بين الجنسين في الميراث، إلا أن تجربة الفلاسفة الإسماعيليين انكفأت بعد أن كانت تحتل مساحات شاسعة في العصور الإسلامية. وتركت نصيب التوسع بعد ذلك للفقه الأصولي. وينحو الشيخ كمال الحيدري منحى تقدمياً على منهج الإسماعيليين في قوله بوجوب المساواة بين الجنسين في الميراث وذلك بقارنته بين وضع المرأة في المجتمع البدائي/الإقطاعي "مرحلة نزول القرآن" ووضعها في المجتمع الصناعي اليوم، وقدرتها على أن تفوق الرجل في مجال الصناعات والفكر، وقوله أيضا: لا يمكننا ان نخضع حروب اليوم لقوانين حروب الأمس التي كانت تعامل الأسير كعبد يمكن أن يباع ويشترى في سوق الرقيق(٢).
السؤال هنا: هل يمكننا أن نخلع عن الذين ينسخون التشريعات الأخلاقية إيمانهم-عقيدتهم أيا كانت تلك العقيدة-؟ وهل يمكننا أن نخرج طائفة بحجم الإسماعيلية كما الشيخ كمال الحيدري من الديانة الإسلامية؟

حسب مفهوم علي الديري فإن وظيفة الفلسفة أنسنة الوجود، أما المستشرق الفرنسي (إيرك جوفروا) والذي دخل الإسلام وعمره 27 عاما من باب الفلسفة الإسلامية لا من باب الفقه الإسلامي، أي من باب الفكر والسؤال لا من باب الأجوبة، فيقول: "إن الآيات القرآنية التي تدعو إلى التسامح واحترام حرية الإعتقاد ينبغي اعتبارها ذات صلاحية عامة وكونية، وأما آيات القتال فهي مرتبطة بظروفها الخاصة في ذلك العصر"(٣). في الواقع أن هذه المسأله: "مسألة السياق التاريخي/ أو ما يعرف بأسباب النزول" لا تؤخذ بعين الإعتبار من قبل المسلم اليوم، فيجري نقل آيات التسامح ذات القيم الكونية، وآيات القتال والتكفير التي تخص حرب النبي محمد بينه وبين مجتمع اليهود والنصارى ومشركي قريش إلى واقعنا اليوم. توضع هذه وتلك في سلة واحدة، يختلط في الثابت المقدس الأبيض والأسود، ما هو أخلاقي وكوني بما هو تكفيري ويخص مرحلة من مراحل الصراع البشري. 
فهل يمكن القول بأن الأسباب التي دعت لقتال هذه الفئة بالأمس نفسها الأسباب التي تحتم قتالها اليوم؟ هل القيم التي يحملها التكفيري اليوم هي ذاتها القيم التي كان يخوضها النبي محمد في الأمس؟!


ما نريد قوله في النهاية أن المشكلة بين ثنائية التشريع والأخلاق ليست في التشريعات وثوراتها التاريخية بوصفها ثورات في زمان ومكان معين، إن الفجوة بين التشريعات والأخلاق تكمن في ثبات التشريع رغم تقدم وتطور الأخلاق، الفجوة بين التشريع والإخلاق تنمو بقدرة التشريع على تخطي زمانه ومكانه إلا أن خطاه تبقى ثابته رغم ذاك التخطي، ما يجعل من الأخلاقي يحتوي في داخله قيم غير أخلاقية، ما يجعله غير قادر على التأقلم والبقاء، ما يجعل هناك تشريعات عدة لمدارس فكرية واحدة، أو معتقد واحد عبر التاريخ، المعتقد يمكن أن يثبت في القلب، لكن التشريع دائما ما كان يُنتهك وينسخ ما قبله في سبيل تقدم المجتمعات وتطورها وتقلبها.


ـــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(١) خير الزاد من حكايات شهرزاد، بوعلي ياسين، ص٢٣٥
(٢) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة
https://www.youtube.com/watch?v=QUt9oxQL9Lo
(٣) هل ينسخ الإسلام الأديان السابقة؟، إيريك جوفروا، موقع طواسين للتصوف والإسلاميات
http://tawaseen.com/?p=3213

الخميس، 20 أكتوبر 2016

"آيا صوفيا" معبد الحكمة الذهبي والتقاء الشرق بالغرب


التاريخ والعمارة



صورة تذكارية: آيا صوفيا في الخلف، من عتبات المسجد الأزرق


في الفترة ما بين السابع والعشرين من فبراير ٢٠١٦م وحتى الأول من مارس من العام نفسه تواجدت في اسطنبول، لم تكن تركيا من بين المدن المقرر زيارتها، وبسبب تعلقي بهذه المدينة نتيجة ميلي للتراث والفن الإسلامي والأديان بشكل عام وللتصوف بشكل خاص، فقد ارتسمت على روحي فرحة كبيرة، لأنني سأحضى بالدخول إلى "الحكمة المبجلة" آيا صوفيا، وبأنني سأحضى أيضا بمشاهدة طقوس الرقص الصوفي عن قرب، والتي يتم تقديمها في العديد من الحمامات والنوادي الثقافية والمتاحف داخل اسطنبول.


Image result for hodjapasha
 عرض للرقص الصوفي في الـ "hodjapasha"

لم يكتمل فرحي بزيارة تركيا لأنني لم أحضى بالدخول إلى آيا صوفيا بالرغم من اقترابي من المكان مرتين، في اليوم الأول كان الطابور يصل إلى الخارج فقررنا تأجيل الزيارة إلى اليوم الذي نزور فيه "مركز الحاج باشا الثقافي" الواقع بالقرب من المبنى والذي ويوفر للزوار أوقات لا تُنسى مع الدراويش الصوفيين لمشاهدة الرقصة الأولى المعبرة عن الإتصال بين الإنسان والله في تاريخ الإسلام، ولسوء الحظ كان اليوم المنشود هو آخر يوم لنا قبل ان تقلنا الطائرة إلى مكان آخر، واغلقت آيا صوفيا أبوابها قبل أن نصل حيث يمنع استقبال الزوار بعد الرابعة، وإلى هذا اليوم وأنا أتوق لزيارة المدينة من جديد لأحضى بالدخول لأهم معلم تاريخي فيها.



فيما يتعلق بالعمران فإنك لن تجد ذلك التعارض بين الشرق والغرب بالقدر الذي تجده في السياسة، فالكاتدرائيات والمساجد متشابهة إلى حد كبير. من الأعلى يبدو المسجد الأزرق الذي يستمد أسمه من بلاط البحر الأزرق المُستعمل لجدرانه مشابها للآيا صوفيا، وقد تجد الكثير من المباني في أوربا الجنوبية تتشابه مع هذين المبنيين، وذلك يعود للفترة التي حكم العثمانيون فيها أجزاءً من أوربا وساهموا في إعمارها، وبالتحديد في القرن السادس عشر، الذي كان فيه سنان المعماري مؤثرا في العمران وفاعلاً فيه، وللأخير ومدرسته دوراً في إضفاء الطابع الإسلامي على آيا صوفيا.



Image result for hagia sophia interior
آيا صوفيا من الداخل

بُنِيَ معبد الحكمة الذهبي في الأساس عام ٥٣٧م ، وظلّت كاتدرائية أرثذوكسية شرقية إلى عام ١٢٠٤م، حتى قام الدوق الإيطالي انريكوا داندولو خلال الحملة الصليبية الرابعة بالإستيلاء على المدينة وتحويلها إلى كنيسة كاثوليكية، لاحقا وفي القرن الخامس، بعد سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني تم تحويلها إلى مسجد، وبقيت دار عبادة إسلامية حتى العام ١٩٣٥م بعدما تمت علمنة تركيا على يد كمال أتاتورك ومن ثم تم تحويل المبنى إلى متحف، وقد قام.مجموعة من المصلين المسلمين يوم السبت ٢٨ مايو ٢٠١٦ بآداء صلاة العشاء حول محيط المبنى مطالبين بإعادته إلى مسجد، لكن ذلك ربما يساهم في إعادة صباغة الرسوم المسيحية بالأبيض كما فُعل بعد فتح القسطنطينية، او ربما يتم إزالتها بالكامل هذه المرة ليكون المتحف مهيئا للصلاة بداخله.

Image result for hagia sophia jesus
"الله" بالخط العربي مع رسم متخيل لمريم العذراء والمسيح

من الأشياء التي تجعلني منشداً لزيارة المبنى أنه بقي رغم كل هذه السنين من الحروب والدماء معبراً عن الخيال الفني الممزوج بالخيال الديني؛ ليعطينا جمالاً يقارب بقدر ما يمايز بين المسيحية والإسلام، ففي الداخل يمكنك أن تصلي ليسوع أمام وجهه البريء، ويمكنك ان تصرخ مذهولا يا الله أو تصلي على النبي محمد ولكن هذه المرة ليس هناك وجوه بل خطوط، ففي المسيحية تجسدت الكلمة التي كانت في البدء ولهذا يفضل الفن المسيحي الرسم والتجسيد الدقيق ليسوع، ولا يوجد تحسس أو قوانين لمعاقبة من يقوم برسم صور متخيلة لله أو للعالم الآخر بل لا تعتبر اللوحات ورسمها إساءة بقدر ما هو تكريم، فقد قامت الكثير من الكنائس باستدعاء مايكل أنجلو للرسم داخلها، أما لوحة الجحيم لبوتشللي فقد قدمت تصوراً عينياً للعذاب الأخروي وساهمت في إقبال الكثيرين على الكنيسة للتكفير عن خطاياهم، ونتساءل لو كان مايكل أنجلو مسلماً وقام بنحت تمثال داوود العاري فهل سيفلت من العقاب؟ هكذا ربما يتمايز الفن الإسلامي عن المسيحي بأن الأول أبدع في الأشكال  والخطوط وأحبها والثاني يحب الوجوه أكثر، وربما لهذا السبب أطلق عليه "آيا صوفيا" أي الحكمة المبجلة، لأنه مكان صارت فيه النقائض واحدة في الوجود.

وللتنويه المهم فإن الكثير من المؤرخين قد أرخوا للملوك، فالتاريخ ليس هو تاريخ الملوك وإنما تاريخ الملوك، والأمم بصورة أكبر فبهم تنهض الحياة، وبهم تُعَمَّر الأرض وهم الفاعلين الحقيقيين فيها، كثيرا ما سترى عند القراءة عن آيا صوفيا أنها بنيت في عهد الإمبراطور جوستنيان الأول فيغيب المُعَمِّر كما يغيب الإسم الفعلي لمن أبدعت يده البناء. آيا صوفيا بنيت على يد المعماريان أنثيموس وإسيدوروس في منتصف القرن السادس، وتم ترميمه على يد المهندس سنان المعماري في القرن السادس عشر ليبقى الفن في العمران رمزا خالداً معبراً عن تاريخ طويل من الصراع بين الأضداد، حاملاً وحده لرموز التاريخ المتناقض، جامعاً له، وبهذا تكمن عظمة المهمة التي تقع على عاتق المهتمين بالتراث الفني والمعماري مانعين تضاريس الحياة، وتحولات المناخ من أن تزيله وتُذهبه مع الرياح.




ــــــــــــــــــ

المصادر:

  • إعادة إكتشاف العثمانيين، إيلبير أورتايلي: يعتبر أورتايلي مؤرخ عسكري، وبوصفه كذلك كان يبرر في كتابه الكثير من ممارسات الدولة العثمانية، منها سياسة التجنيد الإجباري السيئة حتى للأطفال.
  • الجحيم، دان براون: تحتوي الرواية على العديد من المعلومات التاريخيه، خصوصا ما يرتبط بالعمران والفن الكلاسيكي. ويمكنها أن تكون دليلاً سياحياً أيضا للكثير من معالم مدينتي فلورنسا والبندقية الإيطاليتين.