الاثنين، 24 فبراير 2014

النواة السيمانتية للدين والفكر والفلسفة


شعار فلسفة "التاو" يلتحفها تنين الأسطورة الصينية
"الإنسان إعتاد أن ينظر إلى الكون من خلال إطار فكري يحدد مجال نظره
وإنه يستغرب أو ينكر أي شيء لا يراه من خلال ذلك الإطار.
فالإنسان بهذا المعنى يشابه الحصان الذي يجرّ العربات
حيث قد وضع على عينيه إطار لكي يتوجه ببصره إلى الأمام
فلا يرتبك أو يتطوح في سيره"(١)






أحاول وبقدر الإمكان التأقلم مع الحياة مع الأطر من حولي، وأنا أعلم أن هذا الإطار يحكمه الدين والدين داخل إطار أضيق (الطائفة)، والطائفة يحكمها سلطانها (رجل الدين). أحاول الإكتفاء بالإبتسامة العريضة التي تعلن عن جهلي بكل شيء وشكي بكل شيء عندما أسمع أحدهم يستشهد بمقولة تارخية، لشخصية مقدسة هنا او من هناك. فتكون هذه الكلمة هي فصل العقل عن التفكير في كل ما يمكن أن يسبب خروج عنها أو معرفة بشيء قد يهز من أيمانك بها وبالإطار الفكري أو الدلالي الذي يحيط بنظامها العقدي.

لكل إنسان في هذا الوجود نواة سميناتية (دلالية)، هذه النواة هي إيمانك الذاتي المكتسب، تغذيه البيئة أولا، الثقافة الذاتية ثانيا. وما يطبع في عقلك الباطن من قناعات ومسميات مثل: الكفر-الإيمان، الصلاح-الطلاح، الحق-الباطل. هو نتيجة هذه البيئة، فالإنسان إبن بيئته. من هنا أصبحت أؤمن بمفاهيم أخرى، أنه لا يوجد إنسان كافر في الحقيقة. هناك إنسان مؤمن بشيء، وإنسان مؤمن بشيء آخر.

هنا مساحة قليلة سأكتب فيها دون أن ينقطع حبل أفكاري مباشرة، قررت أن أكتب كل شيء مباشرا، فأمي وهي أمي أغلى ما يمكن أن يحن إليه قلب إبن في هذا الوجود، وأكثر الأشخاص الذين حاولت أن أبتعد عن مفاتحتهم بما أؤمن به خشية أن يكون كلامي غير مفهوم إليها. أرى أنه من الضروري وفي هذا اليوم أن أتكلم معها ولو بالشيء القليل وهذا القليل قد يطول إلى ساعة أو ساعتين أو ثلاث لا أعلم ولكنني قررت أن أتكلم.

كان السبب الذي أخذني وأمي للكلام أنها لاحظت علي بأني قد تركت العبادات والطقوس الدينية التي يمكن أن يؤديها أي إنسان فاجر أو مستقيم، ولكن على أي حال فإن من لا يؤديها محكوم عليه من خلال الإطار الدلالي للدين والمجتمع بالكفر وعدم الإستقامة.

يمكن أن نقرأ الدين الإسلامي في ثلاثة أقسام كما يذكر هادي العلوي: القسم الأول وهو خاص بالعبادات والطقوس وهذا أمر شخصي، والقسم الثاني هو التراث المعرفي الحضاري (العلوم والفقه والفلسفة والتصوف) وهو للجميع، والقسم الثالث الإخلاقيات الدينية وهو القسم الأهم في كل الأديان والغاية منها، وهو شخصي أيضا, وهو ما يهمني من كل قراءةٍ في الدين الإسلامي أو أي دين آخر. ولو قرأنا كل دين سنجد في الطقوس والعبادات وسيلة وليست غاية, فالغايات هي تهذيبية وليست طقوسية. الإسلام مثلا إختار للصلاة عمودا للدين إذ من خلال الإتصال يتعزز الإيمان بالذات الفوقية الحاكمة التي أختيرت كصورة ماورائية يتعزز الإيمان بها من خلال الذكر اليومي. والصوم مثلا للإحساس بالفقراء والجياع، والحج يشعر فيه الغني والفقير بالتقارب والتشابه. والزكاة ضريبة على الغني والتاجر للفقير. والجدير بالذكر أن الإسلام في مرحلة الثورة ضد قريش كان يمنع كنز الأموال (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم). وقد نسخت آيه تحريم الكنز بجوازه مع فرض ضريبة الزكاة على التجار والاغنياء بعد أن أصبحت الدولة في يد النبي محمد وذلك لدوافع تنمية الإقتصاد والإزدهار والإستثمار التجاري.

في الوجود فرضيات كثيرة لما قبل الولادة وما بعد الموت، كيف جئت وأين تذهب، كلها فرضيات ترجع في نهاية الأمر إلى الواقع الذي عاش فيه صاحب الفرضية ومشروعه الإجتماعي والسياسي أو الإخلاقي.

هناك فلسفتين في الوجود، الفلسفة المادية وهي التي تقول بأسبقية المادة على الروح, وكثير ربما فهم أن المادية هي أنكار الأرواح ولكنها في الواقع لا تنكر الروح بل تؤكد على أسبقية المادة كما هي الفلسفة الماركسية, وليس ماركس هو أبو الفلسفة المادية بل هناك نزعات مادية في الحضارة الإسلامية كما وضحها العلاّمة حسين مروة في مجلدة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية, وهو الكتاب الذي أدى إلى إغتياله. وكانت في اليونان عند فلافسفتها, وقد انكر كنفوشيوس الصيني الكائنات المفارقة وهو أحد فلاسفة الصين القدامى، ولكن أنتقدها موتسه الذي ظهر بعده في القرن الخامس ق.م. فوجد في الكائنات المفارقة ضرورة لضبط الناس وتشكيل وازع الخير والمحبة فيهم(٢).

أما الفلسفة الأخرى فهي الفلسفة المثالية وهي نظرة للكون تقول بأسبقية الروح على المادة. من خلال الإطار الدلالي المثالي نتجت فكرة وجود الروح الأزلية والأبدية التي خلقت الوجود وهي نظرة تعتمد على الإيمان القلبي الذي لا يدركه العقل والحواس، بخلاف المادية التي تخضع الكون للملاحظة الطبيعية والتأمل العيني وليس القلبي، في المادية أنت أمام علم في المثالية أنت أمام إفتراض لم يصل له العقل البشري ولن يصل. هذا الإفتراض لا يتصف بالروح ولا بالمادة، لنقل شيء ثالث آخر كما يحب أن يسميه إبن عربي، هذا الشيء سمه ما شئت، الله، التاو، الهيولى. وهذه النظرة هي نظرة الأديان، سوى من تبنت فكرة السماء ومحادثتها (السماوية)، أو من قالت بنتاجها العقلي والتأملي ووضعت أدلتها (الديانات الأرضية).

إختصت المادية بفلاسفة الطبيعة، وقالوا بأن أصل الوجود هو المادة، وقد وجدوا ذلك من خلال ملاحظاتهم في الطبيعة، فمثلا عندما تقطف ثمرة فهي تتحول لجماد منفصل عن الحياة، ولكن الثمرة نفسها تحتاج للمادة المحركة (التربه الضوء والماء) كي تستعيد نشاطها الحيوي. وفي تكوين الجنين، فإن المادة الجنينية تسبق حركته، وهذه نظرة فيزياوية للحياة والطبيعة تخضع للملاحظة والتجربة فكانت المادية أقرب لفكرة الكمون والحلولية التي سنتحدث عنها لاحقا. أما المثالية فهي واسعة الخيال والتأمل تخرج من العالم الطبيعي والمرئي إلى التأملات الغيبية والتصورات الماورائية اللامرئية الفوقية (الميتافيزيقية).

تبنت الحركات المثالية (الدينية) القانون الغيبي ووجدته ضروري لتقويم السلوك الإنساني، وفي مسألة الثواب والعقاب الأخروي  حاجة ايضا لتهذيب النفس بقوة فوقية مسؤولة عليها، ترهيبية، وترغيبية فتصورت شكل مادي للجنة والنار. من هنا إستلهم الإسلام صورة الإله من صورة الحاكم الذي يملك عرشا وجنود. فهو حاكم على الحكام وملك على الملوك وجنوده من نور يعذب من يخالفه ويرحم من يطيعه. لأن محمد كانت حربه ضد الأباطرة الرومانيين والكسرويين ووجهاء قريش.

"الكمون والحلولية مفهوم دخل على الفلسفتين المادية  والروحية, ففي الحلولية الكمونية الروحية ينزل الإله إلى العالم ويسكن أو يحل أو يكمن في الإنسان وفي الطبيعة, وتبقى روحهُ المُفارقة حالّة في الأشياء"(٣) وهذه عند بعض المتصوفة والتاويين الصينيين إذ جعلوه في الماء والهواء والتربة والروث.

"والحلولية الكمونية المادية تنزل الإله إلى الكون والمادة وتسلب منه إسم الإله فيتحوّل إلى القوة المطلقة أو الطاقة أو الطبيعة أو المادة. إن حلول وكمون الإله في المادة أو الطبيعة، وليس تجاوزه لها، جعل المادة أو الطبيعة تكتفي بما فيها، أي تكتفي بعالمها الطبيعي المادي"(٤).

هذه الأفكار والفلسفات جعلتني أنقل هذه المسؤولية من مسؤولية حاكم فوقي أخاف من عقابه وأطمح في ثوابه إلى مسؤولية حاكم روحي، مسؤولية داخلية كامنة فيّ، أميز بها بين الخير والشر. أصبحت أفهم مقولة الحكيم الإسلامي علي إبن أبي طالب بصورة أوسع حين قال: لا يعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله. ما أؤمن به هو ما وضع في داخل كل إنسان سمة الحق الذي يتصوره من خلال عقله وإطارة الدلالي، وهذا الحق قد يتغير يضيق ويتسع بإتساع المعرفة. مفهوم الحق لا يمكن حصره في دين او عقيدة أو فكر أو ما شابه، بل هو مفهوم داخلي مكتسب؛ يتجوهر في الإنسان بقدر ما يراه من أطر دلالية للحقيقة. فعندما أتصدق ليس لأني أريد ثوابا، أو أجرا، بل لأني أشعر بحاجة الفقير للمال وأشعر بسعادة كبيرة لأني ساعدت أحدهم. وعندما لا أزني ليس خوفا من عقاب، بل لأني مؤمن بأن المرأة كائن روحي، فلا حلاوة ولا شعور ولا لذة جسدية لا يحكمها الحب والتضحية والمودة، وربما يكون الزنا في مفهومي يختلف عن المفهوم الذي تجعله مشروعا بمجرد ورقة زواج، هذه الورقة تضمن حقوق الزوجية فقط كمسؤولية إقتصادية من الزوج. ولكن المفهوم الأكمل للزواج هو ما حدده القرآن (وجعلنا بينكم مودة ورحمه) فلا زواج شرعي دون هذه المودة والرحمة، فمن قدمت نفسها حبا لشخص ما وأنتهى بها القدر إلى فشل لا يمكن أن أسميها مُومس، المُومس والزانية هي من تمارس الحب الجسدي مع عدة أشخاص وتأخذ أجرا أو مالا. وربما تكون كل هذه المفاهيم والنظرة خاضعة للإطار الدلالي والنواة السيمانتية بل هي كذلك.

تحدثت في الفقرة السابقة عن أن الإله هو الحق، مفهوم الحق الذي أتكلم عنه مفهوم فلسفي وليس المفهوم السلوكي. لأن الظلم هو باطل وهذا متفق عليه والعدل حق والمساواة حق وإحترام الآخر حق، أما الحق الذي هنا هو نظرة الإنسان الكونية التي تخضع للإفتراض الفلسفي وليس الحق السلوكي، أو ما يسميه هادي العلوي السلوك الروحاني ويفرق بينه وبين الفكر الروحاني.



سألتني أمي بعد كل هذه التوضيحات، أو أسميها تشويشات، وأنا لا أملك أي وضوح عن أي حقيقة، أنا بين إفتراضات لا أعلم هل كل ما أراه وأشعر به هو فقط العالم، أم ما لا أراه، ولماذا أُحاسب على شيء لا أدركه وأفتقر له، أنا محتاج للحديث مع الحقيقة، الحديث مع كل هذه المتضادات في الوجود، لماذا أنا هنا بين من يظن جاهلا بكل هذا أنه على حق، وآخر يتجاهل، وآخر يكفرني ربما، نعم أنا كافر، كافر بكل شيء، ومؤمن بكل شيء. فقالت وهل كل رجال الدين هؤلاء هم لا يدركون كل هذه العلوم؟!

هنا نرجع إلى كتاب علي الديري خارج الطائفة حيث يتحدث عن النواة الدلالية التي تحكم رجل الدين والتي تحكم المُفكر، رجل الدين ينطلق من مسلمات عقدية، هو جزء من المجتمع المدينة الدولة، جزء من الإنسان والعالم. وليس كل العالم. أنتي يا أمي تنتمين إليه ويتفق تكوينكِ العقلي والدلالي مع ما يطرحه من مسلمات لا تخرج الإنسان إلى حالة الفكر، فرجل الدين هو رجل دين، ليس فيلسوفا ولا مثقفا كونيا، بل هو متخصص في مسلماته التاريخية والمحكومة بنظامه العقدي، فعندما يقرأ العالم ينبذ العالم هو يحاول أن يدحض الفرضية الأخرى، والعالم الآخر ليثبت نظريته، بينما المفكر او المثقف الكوني ينظر للعالم فلا ينبذه يفتحك ولا يغلقك، لا يريدك أن تمشي خلفه بل أن تواكب عقله، فينقلك إلى الآخر المختلف. هنا الفرق بين قراءة رجل الدين للفلسفة وقراءة الفكر الحر للفلسفة، عندما أقرأ لرجل دين من أي دين كان أنا أعرف أنه يدعوني إلى، بينما المفكر يفتحني على، على عوالم أخرى لا أدركها ويجعلني متفكرا في دلالياتها، بينما رجل الدين فهو بدلالياته يحكم وبقدر عباءته يتيح لك أن ترى، اما المفكر فهو يعري الهوامل ويتيح لك ان تكتشف العالم بقدر ما تسمح به خيوط الشمس التي تظلل كل هذه البشرية لا خيوط النص المحكومة بالتاريخ واللغة والصراع الدموي.

تفهمت أمي كيف أفكر وهي تقول: "يا بني تملك روحا طيبة، ولكن يجب أن تؤمن بأن الله هو خالق كل شيء" أنا مؤمن بذلك يا أمي ولأني مؤمن بذلك أشد الأيمان، فأنا أراه كما يمكن أن أراه، شيء لا كالأشياء، هو الحق، يتجلى كما يريد، لمن يريد، في المادة لتكون روحا، في الفراشة وهي تحلق، في الحب، والجنس، في الموت والولادة، أنا أراه ولا أراه، فقير عنه، غني به، وأنا اليوم في أكثر حالاتي نقاءً، أراه أب الإختلافات لا كما يصفونه أب الإتفاقات، قالوا بأن الله خالق جنة ونار، فإن كان كذلك فانا أشعر بأنه راضيا عني ويفهمني أكثر من أمي وأبي ومن هم حولي، وإن كان الله الذي تؤمنين به يا أمي يعذبني على أفكاري، فانا لست ملك أفكاري ولا حاكمها. أرجوك أيها الحق إن كنت حقا وتسمعني فحدثني، أحتاجك كما يحتاج الطفل لثدي أمه، لا أريد الملك والنبوة ولا الصولجان فقط أريد أن أعرف من أنا. وكأنك قد خلقتني فهجرتني، أم أنت هنا قريب لا بعيد فلا أفهمك ولا تفهمني؟


(١) علي الوردي, خوارق اللاشعور. صفحة ٤٣.
(٢) راجع كتاب مدارات صوفية لهادي العلوي فصل الأبدال موجز موتسه.
(٣) و (٤) علي الديري/ خارج الطائفة صفحة ١٣٢.

السبت، 15 فبراير 2014

خارج التقليد ..!



 

Displaying DSC_1016_3.jpg

أنا أفكر إذن أنا موجود - ديكارت


كنّا في أحد الجلسات العائلية, وبدأ حوار وكان يحضر المجلس المحافظ والغير محافظ. سألني أحدهم من مقلدك (مرجعك الديني).
كما هو معروف عند الطائفة الشيعية بأن الدين لا يكتمل إلا بتقليد رجل دين تذهب إليه في المسائل الفقهية المتعلقة بالحلال والحرام والمستحسن والمكروه.

فما أن أجبت بأني (خارج التقليد) حتى نظر إليّ السائل نظرة إستيحاش.

فطرح علي: لماذا أنت خارج التقليد؟

كان جوابي مختصرا بعيد عن الجدال الديني: أن أكون داخل التقليد يعني أنني لا أستطيع التفكير إلا من خلال عقل آخر, يعني أن أكون نسخة مكررة لأحدهم. في حاله جمود يتجرد فيها العقل من مهنته واضعا أياها في يد فعل نتيجة أمر.

كانت بداية علاقتي بالقراءة باحثاً عن حرف يثري قناعاتي, حتى تعرفت على دكتور الفلسفة علي الديري, وبالرغم أنه من أبناء القرية إلا أنني لم ألتقيه إلا من خلال كتابه, وهو ومنذ حاله الطوارئ التي عاشتها البلدة لأشهر بعد فض إعتصام فبراير ٢٠١١ يعيش المنفى، وقد ألّف الديري مؤخرا (كيف يفكر الفلاسفة؟)

قبل إسبوع إقتنيت كتابه (خارج الطائفة) وهو كتاب يهدف لتوسيع مدارات الأفراد الفكرية جاعلا من الطائفة إطاراً يشتغل عليه، لا هوية يستند إليها. محددا في بدايته الأبعاد السياسية والإجتماعية والإنثروبولوجية  للصراع الديني والسلطة الدينية والطائفية.


ذهب الكاتب بإسهاب في كتابه (خارج الطائفة) وفي الفصل الأول تحت عنوان (خارج التقليد) صفحة ٥٣ إلى الفرق بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر، وذلك حسب قوله عندما أتهمه أحدهم قائلا: (أنت خرجت من تقليد الفقيه ووقعت في تقليد أركون)، يقول:

من المهم أن نحول التهمة سؤالاً كي نتحول من مقام الدفاع وما يقتضيه من منافحة وجدال ورغبة في الغلبة، إلى مقام البيان وما يقتضيه من توضيح وكشف وفتح وفهم وإستشراف. وأقترح أن يكون السؤال: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟ أو بصيغة أكثر تعميماً وأكثر تحيزاً، مالفرق بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر؟ هل يمكن أن يكون الفقيه صديقا؟

فيبدأ بالتوضيح بعدها:

العلاقة مع الفقيه محكومة بقانون الماهية (تحديد ما أنت)، والعلاقة مع المفكر محكومة بقانون التصيير (تصييرك شيء آخر). قانون الماهية يفرض عليك أن تكون هو، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك ثابتة وأبدية وأن تكون نسخة من الفقيه، نسخة من فعل (أمره). أن تكون ماهيتك محددة بصرامة أوامره، فالفقيه يختزل النص الديني في فعل الأمر الذي يتحدد من خلاله الحلال والحرام والمستحب والمكروه. وأنت أو ماهيتك أو حقيقتك محددة بمحددات فعل الأمر هذا.

وبعدها يذكر في الصفحة ٥٤ - ٥٥:

علاقتك مع الفقيه تقوم على التقليد، تقلد (فعل أمره) وتمتثل لأحكامه، وترهن كلك به، وعلاقتك مع المفكر تقوم على الصداقة، تصادق مفاهيمه، وتتمثل عوالمه، وتفتح كلك به، وتتصرف في العالم من خلالها. أحكام الفقيه أقفال، ومفاهيم المفكر مفاتيح، تلك تغلق العالم وتماهيه حد التطابق وهذه تفتح العالم وتصيره حد الإختلاف. إمتثالك للأحكام يغلقك وتَمَثُّلك للمفاهيم يفتحك، مع الفقيه أنت تقع في حكم نهائي، ومع المفكر أنت لا تقع في بل أنت تقع على، تقع على ما يفك محكماتك ويخرجك من كينونتك الأحادية.

وهكذا يكون الخروج السليم في نظر علي الديري ليس براءة ولا عقدة ولا إستنكاف، بل أنت تخرج من نطاق ضيق ومنغلق في تقليد الفقيه إلى نطاق أوسع؛ صداقة المفكر. خارج التقديس داخل الفكر تتحول العلاقة من خضوع وسيادة إلى صداقة ونقد، فقد تكون صديقا للمفكر ولكنك تتحرر من التقديس فيحق لك أنتقاده والخروج عليه والدخول في فكر أوسع.

من هنا كان يقول هادي العلوي في مداراته أن الإنسان يتغير بإستمرار، وحده المنافق والمرائي لا يتغير. لا يمكن أن يكون الباحث ثابتا، فعندما يتحرر الإنسان من السلطة المطلقة للحقائق يصبح قابل لكل صور الحق في الموجودات. فيكون هو بنفسه مجموعة من الحقائق. ليخلق فكرا جديدا، وهذا ما إنتهى إليه العلوي دامجا بين التراث الإسلامي والتاو في الصين والماركسية، فأنتج فكر جديد وهو الفكر المشاعي الخاص بالمدارس أو العلوم الثلاثة معا. من هنا أنا خارج التقليد الأضيق داخل الفكر الأوسع والمنفتح على العالم الآخر. خارج التماهي داخل التصيير.

الاثنين، 3 فبراير 2014

المفكر الراحل هادي العلوي - طفولته وأثرها على تكوينه الثقافي


صورة شخصية: هادي العلوي


 

هذه المقالة للكاتب خالد سليمان

 
 
تعتبر شخصية المفكر العراقي الراحل هادي العلوي من بين الشخصيات الأكثر إشكاليةً في الثقافة العربية والإسلامية والأكثر إختلافاُ في حقول المعرفة الفلسفية والدينية . وهذا ما دفع المستعرب الفرنسي " جاك بيرك " إعتباره واحداً من أخطر عشرة مفكرين في القرن العشرين ووضعه في موازاة سارتر ، فوكو ، هربرت ماركوز ، كاسترياديس ، برتراند راسل ، سونغ لي ، تروتسكي وأخيراً نوم تشومسكي . هذا الرجل الذي جمع بين الدين والفلسفة والمعرفة والسياسة في كتاباته وبحوثه الفكرية النقدية ، دخل عالم الفكر والثقافة من مكان منسي وبيئة إجتماعية هامشية مرتبطة بفقر شديد وتخلف ثقافي كبير صنعه برأي العلوي العثمانيون .
حاولت في حواراتي الطويلة معه في أعوام 1997،1998،1999 التحدث إليه عن طفولته وتأثير المكان عليه بالإضافة إلى ذلك الفقر المدقع الذي كان تتميز به " كرادة مريم " مكان ولادته ، وهي ضاحية من ضواحي بغداد يقول عنها العلوي : " يصدق على أهلها بالضبط وصف أنجلز فلاحين مستقرين لكنهم في حالة إنحطاط " . كان هذا الوصف المستعار إختصاراً لسرديات المكان أراد من خلاله العبور إلى ضفة أُخرى وهي ضفة " جميع الخلق " أو الكل المئتلف في إختلافه وفي الفُقر الكُلي الذي أصبح فيه الفجل مصدراً للتجارة . بذلك أراد العلوي الحديث عن عموم " الخَلق " حسب تعبيره والإبتعاد عن الأمور الذاتية التي كانت تشكل بالنسبة له نوعاً من النرجسية لدى الكاتب . رأيت هذا الوصف لتلك المرحلة ، أي العقد الأخير من النصف الأول من القرن العشرين ، باباً مناسباً للدخول إلى ذاكرته والعودة من خلالها إلى كرادة مريم لإظهار طفولته . سألته عن مستويات ذلك الإنحطاط ومكوناته واسبابه وكان جوابه كالآتي : شأنها شأن المدن ، فقد امتد التأثير العثماني إلى تلك الضاحية ، ومسها حضارياً وحتى إنتاجياً . فرغم خصوبة التربة ووقوع الكرادة على ضفاف دجلة ، فقد كانت مزارعها كلهشيم المحترق وبساتينها خفيفة متفرقة الشجر . وكانت القيم الموروثة في حالة " البلبلة " والفقر الشديد إلى حد أنهم اعتبروا " الفجّال " تاجراً وكانوا يسمون الفجل " أبو خوصة الذهب " ( كانوا يشدّون باقة الفجل بالخوص ) والكادح منهم يضع طبق الفجل على رأسه ويذهب إلى بغداد ليبيعه إلى أغنيائها . والفجل عند " البغادّة شاويش العشا أي عريف الطعام .
وحسب رواية العلوي فإن ما كان يأتي للفجّال من طبق الفجل هو رزق يومين وإذا تأخر عن البيع ثلاثة أيام لم يجد عياله طعاماً . وارتبط ذلك الفقر الشديد بانحطاط الوعي .
في عام 1932 وفي تلك البيئة الفقيرة إقتصادياُ وحضارياً ولد هادي العلوي من عائلة متدينة وكبر مع البوؤس والحرمان ، عمل والده عاملاُ في البناء و ومات جده المتفقه السيد سلمان عام 1937 أي بعد خمس سنوات من ولادته . تعرف في نعومة أظفاره على شيئان رئيسيان وهما صورة الفقر القاسية في ملامح أُمه ومكتبة كبيرة ومليئة بأمهات المصادر الإسلامية تركها له جده . تظهر ملامح شخصية العلوي في سياق الصورة الأولى من خلال كلمات محدودة لم يضف إليها شيئاً في لقاءاتي معه وهي : " تأثرت طبقياً بوضعي العائلي ، عانيت الفقر مع والدتي ، مما غرس في وعيي الصغير كرهاً للأغنياء ولدولة الأغنياء " . اختصرهذه المرة ايضاً السرد وتفاصيل حياة معذبوا " كرادة مريم" إلى جمل قصيرة ومكثفة وبدأ يتكلم عن الصورة الثانية المتمثلة في مكتبة السيد سلمان التي أوصلته إلى صدمة مبكرة في حياته وهي أن الإسلام يبيح التملك العام ويسمح بتقسيم الناس على مالك ومحروم وخادم ومخدوم .
العثور على صورة طفل في طفولة العلوي هو أصعب الأشياء في أي بحث عنه ، لأنه افتقد للطفولة أولاً وتجنب الحديث عنها إن وجدت ثانياً . فرغم كل محاولاتي المتكررة بالتحدث إليه حول ذات الموضوع ، أي الطفولة وكرادة مريم ، فضل التكلم عن " العلوي " الكبير وأمكنته الكونية التي أصبحت مساحات للمعرفة لديه . وبسبب هذا النزوع الكوني إلى النظر للمكان لم يعتد الإرتياد في حياته اليومية على الأماكن العامة وأسس لذاته بؤر مكانية إفتراضية كـ" معرة نعمان " مثلاً . واختار في فترة شبابه مقهى " حسين الحمد " للقاء بالمثقف العراقي شاكر جابر في تلك الفترة ، ولا نستغرب إن سألناه عن مقهى ما في حياته وهو لا يعرف سوى مقهى الكرادة " حسين الحمد " الذي تحدث عنه بأسطر قليلة بعد مشاكسات كثيرة مع ذاكرته وأسئلة مكررة :
ما يشدني إلى مقهى محلتنا التاريخي هي جلساتي مع شاكر جابر وأخي الكبير كاظم وكان بعيداً عن همومنا الثقافية بسبب نزوعه نحو علوم الطبيعة ، ولكنه كان يحضر جلساتنا مكتفياً بالإستماع .
" حسين الحمد " مقهى للطرف أي لأبناء المحلة . هو مكانهم الذي يستريحون فيه من عناء العمل ويتسلون بلعب الدومنة والطاولة " النرد " . لم أكن من رواد المقاهي وإنما أخذني إليها شاكر وكاظم . وهكذا فالمكان الذي هو المقهى يصبح عندي المدرسة المفتوحة . وعندئذ يفقد المكان المقهى مفهومه الجغرافي ليكتسب جوهرية أُخرى من علاقتي به .
بعد تعرفه على مكتبة جده الغنية بمصادر التراث الإسلامية وبداية رحلة التعرف على عالم الكتب والقراءة يتعرف على شاكر جابر الذي يوجهه بدوره إلى طريق الثقافة العلمية . ويصف العلوي جابر صاحب رواية " الأيام المضيئة " و " الهارب " وأحد قادة الشيوعيين في الكرادة في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي ، يصفه بموسوعة أدب وثقافة ، وكان عنده مكتبة عامرة بالأمهات من الأصيل والمترجم قرأت أكثرها بتوجيه منه . وإلى جانب القراءة كانت لقاءاته شبه يومية معه في مقهى " حسين الحمد " . ومن المفارقة أن يتوقف هذا الكاتب عن الإنتاج ، فلا يكتب غير " الأيام المضيئة " ثم رواية صغيرة عنوانها " الهارب " كما يذكر العلوي .
نفهم من هذه السيرة القاسية والمجردة من السرديات والتي تظهر في اللامكان أحياناً ، أن الطفولة في حياة العلوي كان شيئاً مؤجلاً ، ولا تظهر ملامحها إلاّ في سياق أحاديثه عن الدين والسلطة والناس " الخلق " . حكى لي مرة عن ضعف بنيته الجسدية عندما كان يافعاُ وما كان يستطيع التسلق بأشجار النخيل لقطف ثمارها كما كان يفعل أخوه " حسن العلوي " . هذا التمايز الجسدي انعكس فيما بعد في الفكر والسلوك أيضاً وصار لكل واحد منهما طريقا يختلف فيه عن الآخر ، فـ" حسن " القوي جسدياً والذي كان يقطف التمر بسهولة اتجه نحو الأوساط المهيمنة في الثقافة والسياسة وأصبح واحداً من الرموز الصحافية البارزة في الصحافة العراقية السلطوية ،أما هادي النحيف فاتجه نحو ضفة المعارضة لكل ما هو سلطوي ومألوف في الحياة الثقافية والسياسية وصنف ذاته في موقع المهمشين .
زرعت تلك البيئة الدينية التي عاشها العلوي داخل عائلته ومكتبة جده السيد سلمان طقوس وممارسات يومية كانت جزءاً من شخصيته وإهتماماته ، ومن هذه الأشياء كانت مسألة الطهارة التي كان يسميها النظافة . فبعد كل مرة يمسك فيها شيء من خارج المنزل كان يغسل يديه بالصابون ويطهرهما من النجاسة الخارجية . وكنت قد أعتدت خلال حواراتي معه لمدة عام أن أغسل يدي بعد وصولي إلى منزله مباشرة وكان يقول لي أنت آت من الخارج وقد لمست النقود كي تشتري وتدفع إجرة السيارة التي وصلتك إلى هنا فعليك بغسل اليدين . ولا أخفي بأني تأثرت بهذا السلوك الحذر من النقود ولا أسطتيع تناول الأكل حتى الآن إذا لمست النقود . كان الحذر من الإتساخ – النجاسة ضمناً – جزءاً من إشكالاته السياسية والآيديولوجية وليست الجسدية فقط . لذلك قرر الإبتعاد عن رجالات السلطة والدين والمال ، وكما يقول عنه فوزي كريم كان العلوي " حزباً متطرفاً في داخله " في نظرته لهرميات الدولة والدين والمال . لم يجمعه بالتالي لقاء مع الأغنياء ورجالات الدولة على طاولة واحدة وبقي منعزلاً داخل بيته المحصن ضد التفسخ السياسي .
لقد لازمته ميزة الحذر والتفادي لرموز سلطات الدولة والدين والمال منذ ان كان طالباً في الجامعة ونتذكر هنا حدث مهم في حياته يتعلق بهذه المسألة وهو تفاديه مصافحة شخص ملك العراق عندما وزع الشهادات على الطلاب المتفوقين . حدث هذا عام 1955 وكان العلوي من المتفوقين على كلية التجارة والإقتصاد في بغداد .
سيطرت عناصر الثقافة الريفية على شخصية العلوي وتكوينه الفكري حتى بعد خروجه من بيئته الدينية والإجتماعية المتخلفة حضارياً وإقتصادياً ويقول عن نفسه : كان لمهدي الريفي أثر على بساطتي الثقافية في النشأة وأذكر نكتة قالها لي صديقي الراحل " يوسف عبدالقادر " . لقد رحمك الله إذ أخرجك من الكرادة ولو لا ذلك لكان طول عمامتك ذراعين ولحيتك ذراعاً " . لكن بعد خروجه من ذلك المكان المنسي يتعرف في بغداد على إسم المثقف اليساري اللبناني " جورج حنا " في تلك المرحلة ويقرأ كتابه المعنون " صنجة في صف الفلسفة " دون ان يستوعب الأفكار المطروحة فيه في المرة الأُولى ، لكنه يعيد قرائته ويستأنس به كما يقول ، لأن الكتاب بسيط ، يعكس شفافية جورج حنا واسلوبه الظريف الطليق .
والحال، ندرك من خلال هذه البورتريهات المتناثرة المتشابهة لشخصية هادي العلوي ان الصدمة الأولى في حياته تجسدت في عذابات الأُم في " الفقر الكلّي " وتليها الصدمة الثانية التي يكتشف فيها ان الإسلام يبيح التملك العام وتقسيم الناس إلى ملك ومحروم وخادم ومخدوم . من هنا دفع سؤال البحث التاريخي والإقتراب من حدود القدسي " غرامشي الإسلام " لتأسيس علاقة إشكالية مع التراث إذ قام بتفكيك عناصره وفضح وجدان قمعي يتخفى ورائه .
وكان للطفولة القلقة التي عاشها العلوي عوامل كثيرة منها عامل القلق العام الذي كان جزءاً من تطور هوية الإسلام الحضارية والوجدان القمعي والتخلف الإقتصادي والثقافي والإرث الذي تركته الإمبراطورية العثمانية. دفعت هذه العوامل التي تقدمت على أي شيء آخر في تأسيس مقدمات التصدع التاريخي والإجتماعي والإقتصادي ، دفعته للبحث عن جواب يليق بتصدع كرادة بغداد وطفولته المتروكة في تخوم مكان الفقر الأول .

يوتيوب حول حياة هادي العلوي:
http://www.youtube.com/watch?v=yqhxuDhNLK0

السبت، 1 فبراير 2014

عزازيل - والصراع الكنسي في الشرق

عزازيل (غلاف الطبعة الأولى للرواية)

عزازيل لـ يوسف زيدان:

باحث ومحقق في التراث الشرقي



كان الفضل يعود لشخص عرفني على معنى السفر الحقيقي معنى أن أؤمن بأنني لست الوحيد في هذه الأرض وأن الأرض ليست الوحيدة في هذه المجرة وأن المجرة ليست الوحيدة في هذا الكون وأن الزمن نسبي في عقل الكائن وما من زمن ثابت. ليس من أحد لا يعرف ذلك ولكن هناك فرق كبير بين المعرفة والشعور, أن تُغمر دواخلك بتلك الحقيقة. وربما كانت الأحداث التي جرت في موطني الفترة الأخيرة لها علاقة بإماني بهذا الإنسان فلم يلفتني فكره, لم أعد أهتم للأفكار والثقافات والإنتماءات بقدر ما تهمني المواقف. فالموقف هو سيد على الفكر في هذا الظرف السيء من ناحية وجيد لأنه يعرفك على معادن الأشخاص هو ما جعلني أحب الحياة في عيون ؤلائك البسطاء. وليس أجمل من البسطاء في هذه الحياة.

 

 

"إكتب يا هيبا, فمن يكتب لن يموت أبداً"

 
كانت هذه وصية عزازيل لهيبا وها أنا آخذٌ بها، مجرد سائح أبحث عن حرف يُخرجني من نطاقي النرجسي، إلى نطاقه الإنساني. أي شيء يملئ ذلك الإنسان بدواخلنا؛ السيء الجيد الحظ. سيء لأنه هنا، وجيد لأنه امسى مسافراً بين الحرف والحرف. فعندما أختم هذا النوع من الأحرف أخرج من نطاقه عائدا إلى نطاق الواقع. في لمحة درويشة تقول: "أنا إثنان في واحد كجناحي سنونوةٍ، إن تأخر فصل الربيع إكتفيت بنقل البشارة"

"عزازيل" بشارة أكتب عنها في هذه السطور وقليلا ما أكتب عن رواية.



معنى!


عزازيل إسم عبري ويعني (المُعزّى من الله) وهو إبليس في المفهوم المعاصر وهي مشتقة من معنى الإلتباس, وكان إسم عزازيل هو الرائج قديما.. وفي كلام الراوي: " في أصل عزازيل آراء وأقاويل , بعضها مذكور في الديانات القديمة وبعضها منقول من ديانات الشرق. لا تؤمن كل الديانات بوجوده , ولم يعرفه المصريون القدماء , العرفاء.. ويُقال أن مولدهُ في وَهْمِ الناس , كان في زمن سومر القديمة , أو كان أيام الفرس الذين يعبدون النور والظلام معاً , ومنهم يعرفه البابليون , ثم كان ذكره الأشهر في التوراة التي كتبها الأحبار بعد عودة اليهود من السبي البابلي" ومنها إنتقل مفهومه في العقل المسيحي وهو فيها عدو الله, والله يرمز للآلهة, قوى الخير, النور, والكمال.

ولعزازيل عده أسماء أخرى عرّفها الناس قديما: الشيطان, أهريمان, بعلزبوب (وتعني في العبرية: سيد الذباب), وبعلزبول (سيد الزبالة)..!


الرواية


تتحدث الرواية عن رقوق تم التنقيب عنها في حلب، عُثِرَ عليها في التسعينيات من القرن العشرين. تدور أحداثها حول الصراع التاريخي الذي نشب في الكنيسة الشرقية، في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي مع الشخصية المحورية (هيبا) راهب وطبيب وهو كاتب الرقوق. يسافر هيبا بهدف الدراسة بطلب من عمه الذي تمنى له أن يكون راهبا يخدم الدين الكنسي وطبيبا يخدم الناس، وذلك بعد مقتل والده وزواج أمه من قاتليه.. ربما مُكرهة وربما راضية.

ينتقل هيبا من موطنه الأول (نجع حمادي) إلى الإسكندرية, ومنها إلى أورشليم المقدسة (موطن الحج آنذاك) ومن أورشليم ينتهي به المطاف إلى حلب ويستقر هناك. 
في الحج يلتقي بوفد أنطاكية ويتعرّف هناك على القس نسطور والأسقف تيودر. ومن اورشليم يعود ليتحدث عن بدايات سفره, مرورا بغوايات أوكتافيا في الإسكندرية أرض الصراع بين الجهل والعلم، الشيطان والآلهة.
يسقط هيبا في حب وثني لثلاث أيام تنازعه أفكاره بين الزواج والحب الطاهر وبين أن يكمل ما جاء ويسافر من أجله طالبا العلم في اللاهوت والطب.

في الأسكندرية بلد الإله وموطن الرب يشهد هبيا مقتل الفيلسوفة والعالمة الوثنية هيباتيا بأمر من البابا كيرلس. حيث يرسم هذا المشهد الفصل الآخير من حياة هيبا، والفصل الآخر من الرواية؛ تتخلله بوادٍ من التيه. هل يخضع كما خضع أول مره عندما قتل الرهبان والده؟ هل يهاجر الإسكندرية ويحمل جنازة عقله معه؟ هل يعمل على تغيير الفكر الكنسي؟ أم يهجر نفسه والناس معاً؟!

هنا أترك للقارئ أن يأخذ الرواية بين يديه ويرسم مع هيبا الطريق الأخير.

-

الرواية عمل يمزج بين الدراسة التاريخية للصراع الكنسي الشرقي والإبداع لما يحتويه من قيم إنسانية. نحتاجها في هذه الأيام المليئة بالفتن والطائفية واللعنات. وأستطيع أن ألخصها للقارئ في هذه السطور:

إن وددت أن تكون باحثا جادا عن الحقيقة فإبحث في داخلك أولا, ففي داخلك يكمن الخير والشر. كن ما شئت أن تكون فليس من فكر في هذا العالم لم يتعرض للإنحراف والطمع والجشع, وهذه حركة مستمرة يفرضها التغير المادي للتاريخ. فإن كنت تريد إعادة الإسلام لما كان عليه فهو غير قابل للعودة, وإن كنت تريد إعادة المسيحية على ما كانت عليه فهي غير قابله لذلك, إن التراث قراءة معرفية غير قابلة للإحياء نتيجه ما تعرض له خلال حركة التاريخ, فلا تتغير مفاهيمه, وإنما تتعدد قراءتنا له. فيبدأ الفكر واحدا ويتعدد بعد ذلك إلى طوائف وفِرَقْ نتيجة الصراع الطبقي والسياسي أولا وتداخل الثقافات والإنفتاح والغزو ثانيا. المهم أن تكون أنت الإنسان, كن ما شئت إسلاميا، بوذيا, مسيحيا،لاإدرياً, ولكن من خلالك أنت أياها الإنسان ترسم الطريق القويم للفكر وليس الفكر هو من يحدد ان كنت إنسانا صالحا. فكن أنت, أنت .. إنسانا صالحا. وردد معي كما ردد هيبا وهو خارجا من أسوار الإسكندرية:

" باسمك أيها المتعالي عن الاسم
المتقدس عن الرسم والقيد والوسم
أخلي ذاتي لذاتك ، كي يُشرق بهاؤك الأزليّ على مرآتك ".




الحُبلى بالإله!

 
بدأ الصراع الأول في الكنسية الشرقية بين الأسقف ألكسندر والقس آريوس في السنة الأولى من ثلاثينات القرن الرابع الميلادي وذلك حول الأقانيم؛ أقصد طبيعة الثالوث المسيحي: الأب - الإبن - الروح القُدس.

كانت آراء الأسقف آريوس أميل إلى العقل, حيث كان يقول بأن المسيح هو إنسان ولكن تجلت فيه المعاني والقيم الإلهية. بينما كان الأسقف ألكسندر وهو يمثل الأغلبية يقول بأن العذراء هي ثيوتوكوس (كلمة يونانية تعني: أم الإله). يقول يوسف زيدان في الرواية: "لقد أراد آريوس أن تكون الديانة لله وحده, لكنه ترنم في زمانه بلحن غير معهود. معترفا بسر الظهور الإلهي في المسيح, وغير معترف بإلوهية يسوع. معترفا بأن يسوع إبن مريم الموهوب للإنسان, وغير معترف بشريك لله الواحد"

على أي حال فإن الإمبراطور قسطنطين إنتصر للأسقف ألكسندر الذي يمثل الأغلبية وكانت الأسباب سياسية وإقتصادية فهو كان يريد أن يضمن قمح مصر ومحصول العنب السنوي, فحُكم على آريوس بالهرطقة وحرقت كتبه وتم الحظر على تعاليمه. وهنا أنتشرت العقائد الأرثذوكسية وأصبح كل من يخالفها ويقول بأن يسوع هو إنسان مهدد بالخطر. ولا تزال العقائد الأرثذوكسية هي السائدة حيث غنت فيروز في أحدى كنائس لبنان:

"عذراء يا أم الإله يا طاهرة نقية
صلي إلى إبنكِ الإله وحنني عليَّ..."

خمدت نار الخلاف بين السكندرانيين والآريوسيين لسنوات وعادت بعد مئة عام في نهايات النصف الأول من القرن الخامس الميلادي بين الأسقف نسطور الذي نصب حاميا للكنيسة الأنطاكية بعد موت الأسقف تيودور وبين الأسقف كيرلس السكندراني. المعروف بتعصبه للعقائد الأرثذوكسية.

إنتهى الخلاف بعقد المجمع المسكوني في إفسوس بحظور الإمبراطور وجماعة من الأساقفة يترأسهم كيرلس, حُكِمَ فيه على نسطور بالهرطقة, وعُزلْ من موقعه. وكأن التاريخ يعيد نفسه, فلم يشأ الإمبراطور وبابا روما أن يُغضبا الإسكندرية, للأسباب المعروفة. شيئا فشيئا قل عدد المدارس والكهنة المتكلمين في الأقانيم والتي على أساسها يختلف المسيحيون شرقا وغربا, فأنتشرت العقائد الأرثذوكسية بصورة أوسع من غيرها في الشرق وَوُضِع قانون للإيمان يسمى (قانون الإيمان الأرثذوكسي) يلقن على الرهبان والأطفال ليقر به كل مسيحي.


ولادة طبيعية

 
المقاله التالية مجملها ملخص من كتاب مدارات صوفية للمفكر والمؤرخ المشاعي هادي العلوي من فصل الأبدال - موجز (يسوع الناصري). أحببت أن أضعها بعد إتمامي الرواية لما رأيت فيها من أهمية مرتبطة بالموضوع. وتحققت بنفسي من رواية ولادة المسيح في الإصحاح من إنجيلي متى ولوقا وهما إحدى الأناجيل الأربعة الصحيحة عند المسيحيين. وللموضوعية تحققت منها في نسخة إلكترونية على مواقع الشبكة تابعه للإخوة المسيح وليس من الإنجيل الورقي.
 
يُعرف بإسم (يسوع الناصري) وإسمه الحقيقي عمانوئيل بن مريم من زوجها الشرعي يوسف بن داود. والأصل يشوع ويعرف في العربية التي هي إحدى اللغات المنحدرة من السامية واللاحقة للسريانية (عيسى). ولد في فلسطين في العام السادس قبل الميلاد وعاش سته وثلاثين سنه. أعدمه الرومان صلباً بالتواطؤ مع عملاء من اليهود بعد أن عرفوا الأبعاد الخطرة لحركته. بالرغم أنه لم يصطدم مباشرة بالدولة الرومانية وإنما كان مناضلا إجتماعيا يهدف لتحقيق دولة العدل في فلسطين. شكك بعض مؤرخي العصر الحديث في وجوده وقالوا بأنه شخصية خياليةً. ومعظم المشككين من اليهود الغربيين. وتلقف تشكيكهم كاتب مصري ملحد هو عصام الدين حفني ناصف في كتاب كرسه لهذا الغرض عنوانه (المسيح في مفهوم معاصر) والتشكيكات إعتباطية. إن كلام الأناجيل عن يسوع واضح ولا خرافة فيه سوى ما يمس لغة العقيدة. وقد أعطي المخيل الديني للمسيح صفات رمزية تخلع عنه صفة الإنسان وتضع فيه صفات الألهة كما حدث لسائر الأنبياء مثل العلم بالغيب وإحياء الموتى. وأعطاه المخيل الصوفي أيضا قدرة المشي على الماء وعللها بخفه بدنه الناتجة عن شدة زهده بحيث تظاءل جسده وصار له قابليه على العوم!

والأناجيل لم يكتبها المسيح وإنما كتبوها الرسل الذين جاؤا من بعده بسنوات على أساس تحركه الإجتماعي. كإنجيل مرقس ومتى ويوحنا ولوقا... والمسيح لا يعلم عنها شيئا. على خلاف القرآن فهو كتاب كتبه صاحب الحركة نفسه. جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى بالنص:

"أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبه ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حُبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارّاً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سراً. ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم إمرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القُدُس... فلما إستيقض يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ إمرأته. ولم يعرفها حتى ولدت إبنها البكر ودعا إسمه يسوع" لم يعرفها: لم يمسسها.

وفي إنجيل لوقا إصحاح ٢ أن الملاك نزل عليها وقال لها: ستحبلين وتلدين إبنا وتسمينه يسوع فقالت له: كيف يكون وهذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجابها الملاك: الروح القدس يحل عليكِ... وفي نفس الإصحاح يذكر ولادة يسوع وإحتضانه من قبل مريم ويوسف.

وبتنحيه اللغو الديني جانباً يبقى لنا أن نتحدث عن ولادة طبيعية لطفل أسمه عمانوئيل (وهو إسم عبري يعني: معنا الإله) قد تكون أمه حبلت به في فترة الخطوبة وقبل الدخول بها، كما يترجح من نصوص الإنجيلين، وإستغلت هذه الحادثة لنسج قصة الروح القدس والولادة بلا دنس أي بلا إتصال جنسي. والشرقيون يتأثمون من الجماع حتى حين يكون ضمن العلاقة الزوجية. وقد مدح أبو ذيب الهذلي أحد أبطاله بأن أمه حبلت به  من وراء ثياب:

"ممن حملن بهم وهن عواقدُ
حُبُك الناطق فشبّ غير مهبلِ"

أي من غير أن يحدث تماس مباشر بينها وبين زوجها. ومن الغريب أن تفوت المسلمين مثل هذه اللمحة فلا تدخلها كتب السيرة في ولادة محمد. والعقيدة الإسلامية تتشدد في نجاسه الفعل الجنسي ولذلك شرعت غسل الجنابة. وكلمة جنابه تعني الإثم والدنس وغسلها يراد لتطهير الروح منها.

طٌهرانية الشرقيين تفتق الخيال عن أمنية مستحيلة أن تكون ولادة ضنائن الله من غير دَنَس!...


-

وبالرغم أني مؤمن بأن ولادة يسوع طبيعية كما يذكرها هادي العلوي. لكنه وعلى أي حال من يؤمن بالمسيح كإبن للإله أو من يؤمن به كإنسان, الجميع يقر بمكانته التاريخية. فقد تجلت فيه صفات الخير والكمال, ويبقى إنسانا عظيما أعطى للتاريخ الإنساني صفات ومبادئ وقيم حاولت تحرير الإنسان من الظلمات إلى النور.. ومن الكلمات الأخيرة لأسقف دير حلب الداعية للوحدة في ذلك الظرف الصعب والتاريخي ننهي هذه المقالة: "وليجمع بيننا أمرٌ وحيد هو محبة الرب , وبشارة يسوع , وتوقير العذراء المقدسة , سواء هي أم الإله , أم أم المسيح. فنحن وقد ودعنا صخب الدنيا , نعرف العذراء بقلوبنا , لا بأقوال اللاهوتيين ومذاهبهم"