عزازيل (غلاف الطبعة الأولى للرواية) |
عزازيل لـ يوسف زيدان:
باحث ومحقق في التراث الشرقي
كان الفضل يعود لشخص عرفني على معنى السفر الحقيقي معنى أن أؤمن بأنني لست الوحيد في هذه الأرض وأن الأرض ليست الوحيدة في هذه المجرة وأن المجرة ليست الوحيدة في هذا الكون وأن الزمن نسبي في عقل الكائن وما من زمن ثابت. ليس من أحد لا يعرف ذلك ولكن هناك فرق كبير بين المعرفة والشعور, أن تُغمر دواخلك بتلك الحقيقة. وربما كانت الأحداث التي جرت في موطني الفترة الأخيرة لها علاقة بإماني بهذا الإنسان فلم يلفتني فكره, لم أعد أهتم للأفكار والثقافات والإنتماءات بقدر ما تهمني المواقف. فالموقف هو سيد على الفكر في هذا الظرف السيء من ناحية وجيد لأنه يعرفك على معادن الأشخاص هو ما جعلني أحب الحياة في عيون ؤلائك البسطاء. وليس أجمل من البسطاء في هذه الحياة.
"إكتب يا هيبا, فمن يكتب لن يموت أبداً"
"عزازيل" بشارة أكتب عنها في هذه السطور وقليلا ما أكتب عن رواية.
معنى!
عزازيل إسم عبري ويعني (المُعزّى من الله) وهو إبليس في المفهوم المعاصر وهي مشتقة من معنى الإلتباس, وكان إسم عزازيل هو الرائج قديما.. وفي كلام الراوي: " في أصل عزازيل آراء وأقاويل , بعضها مذكور في الديانات القديمة وبعضها منقول من ديانات الشرق. لا تؤمن كل الديانات بوجوده , ولم يعرفه المصريون القدماء , العرفاء.. ويُقال أن مولدهُ في وَهْمِ الناس , كان في زمن سومر القديمة , أو كان أيام الفرس الذين يعبدون النور والظلام معاً , ومنهم يعرفه البابليون , ثم كان ذكره الأشهر في التوراة التي كتبها الأحبار بعد عودة اليهود من السبي البابلي" ومنها إنتقل مفهومه في العقل المسيحي وهو فيها عدو الله, والله يرمز للآلهة, قوى الخير, النور, والكمال.
ولعزازيل عده أسماء أخرى عرّفها الناس قديما: الشيطان, أهريمان, بعلزبوب (وتعني في العبرية: سيد الذباب), وبعلزبول (سيد الزبالة)..!
الرواية
تتحدث الرواية عن رقوق تم التنقيب عنها في حلب، عُثِرَ عليها في التسعينيات من القرن العشرين. تدور أحداثها حول الصراع التاريخي الذي نشب في الكنيسة الشرقية، في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي مع الشخصية المحورية (هيبا) راهب وطبيب وهو كاتب الرقوق. يسافر هيبا بهدف الدراسة بطلب من عمه الذي تمنى له أن يكون راهبا يخدم الدين الكنسي وطبيبا يخدم الناس، وذلك بعد مقتل والده وزواج أمه من قاتليه.. ربما مُكرهة وربما راضية.
ينتقل هيبا من موطنه الأول (نجع حمادي) إلى الإسكندرية, ومنها إلى أورشليم المقدسة (موطن الحج آنذاك) ومن أورشليم ينتهي به المطاف إلى حلب ويستقر هناك.
في الحج يلتقي بوفد أنطاكية ويتعرّف هناك على القس نسطور والأسقف تيودر. ومن اورشليم يعود ليتحدث عن بدايات سفره, مرورا بغوايات أوكتافيا في الإسكندرية أرض الصراع بين الجهل والعلم، الشيطان والآلهة.
يسقط هيبا في حب وثني لثلاث أيام تنازعه أفكاره بين الزواج والحب الطاهر وبين أن يكمل ما جاء ويسافر من أجله طالبا العلم في اللاهوت والطب.
في الأسكندرية بلد الإله وموطن الرب يشهد هبيا مقتل الفيلسوفة والعالمة الوثنية هيباتيا بأمر من البابا كيرلس. حيث يرسم هذا المشهد الفصل الآخير من حياة هيبا، والفصل الآخر من الرواية؛ تتخلله بوادٍ من التيه. هل يخضع كما خضع أول مره عندما قتل الرهبان والده؟ هل يهاجر الإسكندرية ويحمل جنازة عقله معه؟ هل يعمل على تغيير الفكر الكنسي؟ أم يهجر نفسه والناس معاً؟!
هنا أترك للقارئ أن يأخذ الرواية بين يديه ويرسم مع هيبا الطريق الأخير.
-
الرواية عمل يمزج بين الدراسة التاريخية للصراع الكنسي الشرقي والإبداع لما يحتويه من قيم إنسانية. نحتاجها في هذه الأيام المليئة بالفتن والطائفية واللعنات. وأستطيع أن ألخصها للقارئ في هذه السطور:
إن وددت أن تكون باحثا جادا عن الحقيقة فإبحث في داخلك أولا, ففي داخلك يكمن الخير والشر. كن ما شئت أن تكون فليس من فكر في هذا العالم لم يتعرض للإنحراف والطمع والجشع, وهذه حركة مستمرة يفرضها التغير المادي للتاريخ. فإن كنت تريد إعادة الإسلام لما كان عليه فهو غير قابل للعودة, وإن كنت تريد إعادة المسيحية على ما كانت عليه فهي غير قابله لذلك, إن التراث قراءة معرفية غير قابلة للإحياء نتيجه ما تعرض له خلال حركة التاريخ, فلا تتغير مفاهيمه, وإنما تتعدد قراءتنا له. فيبدأ الفكر واحدا ويتعدد بعد ذلك إلى طوائف وفِرَقْ نتيجة الصراع الطبقي والسياسي أولا وتداخل الثقافات والإنفتاح والغزو ثانيا. المهم أن تكون أنت الإنسان, كن ما شئت إسلاميا، بوذيا, مسيحيا،لاإدرياً, ولكن من خلالك أنت أياها الإنسان ترسم الطريق القويم للفكر وليس الفكر هو من يحدد ان كنت إنسانا صالحا. فكن أنت, أنت .. إنسانا صالحا. وردد معي كما ردد هيبا وهو خارجا من أسوار الإسكندرية:
" باسمك أيها المتعالي عن الاسم
المتقدس عن الرسم والقيد والوسم
أخلي ذاتي لذاتك ، كي يُشرق بهاؤك الأزليّ على مرآتك ".
الحُبلى بالإله!
كانت آراء الأسقف آريوس أميل إلى العقل, حيث كان يقول بأن المسيح هو إنسان ولكن تجلت فيه المعاني والقيم الإلهية. بينما كان الأسقف ألكسندر وهو يمثل الأغلبية يقول بأن العذراء هي ثيوتوكوس (كلمة يونانية تعني: أم الإله). يقول يوسف زيدان في الرواية: "لقد أراد آريوس أن تكون الديانة لله وحده, لكنه ترنم في زمانه بلحن غير معهود. معترفا بسر الظهور الإلهي في المسيح, وغير معترف بإلوهية يسوع. معترفا بأن يسوع إبن مريم الموهوب للإنسان, وغير معترف بشريك لله الواحد"
على أي حال فإن الإمبراطور قسطنطين إنتصر للأسقف ألكسندر الذي يمثل الأغلبية وكانت الأسباب سياسية وإقتصادية فهو كان يريد أن يضمن قمح مصر ومحصول العنب السنوي, فحُكم على آريوس بالهرطقة وحرقت كتبه وتم الحظر على تعاليمه. وهنا أنتشرت العقائد الأرثذوكسية وأصبح كل من يخالفها ويقول بأن يسوع هو إنسان مهدد بالخطر. ولا تزال العقائد الأرثذوكسية هي السائدة حيث غنت فيروز في أحدى كنائس لبنان:
"عذراء يا أم الإله يا طاهرة نقية
صلي إلى إبنكِ الإله وحنني عليَّ..."
خمدت نار الخلاف بين السكندرانيين والآريوسيين لسنوات وعادت بعد مئة عام في نهايات النصف الأول من القرن الخامس الميلادي بين الأسقف نسطور الذي نصب حاميا للكنيسة الأنطاكية بعد موت الأسقف تيودور وبين الأسقف كيرلس السكندراني. المعروف بتعصبه للعقائد الأرثذوكسية.
إنتهى الخلاف بعقد المجمع المسكوني في إفسوس بحظور الإمبراطور وجماعة من الأساقفة يترأسهم كيرلس, حُكِمَ فيه على نسطور بالهرطقة, وعُزلْ من موقعه. وكأن التاريخ يعيد نفسه, فلم يشأ الإمبراطور وبابا روما أن يُغضبا الإسكندرية, للأسباب المعروفة. شيئا فشيئا قل عدد المدارس والكهنة المتكلمين في الأقانيم والتي على أساسها يختلف المسيحيون شرقا وغربا, فأنتشرت العقائد الأرثذوكسية بصورة أوسع من غيرها في الشرق وَوُضِع قانون للإيمان يسمى (قانون الإيمان الأرثذوكسي) يلقن على الرهبان والأطفال ليقر به كل مسيحي.
ولادة طبيعية
المقاله التالية مجملها ملخص من كتاب مدارات صوفية للمفكر والمؤرخ المشاعي هادي العلوي من فصل الأبدال - موجز (يسوع الناصري). أحببت أن أضعها بعد إتمامي الرواية لما رأيت فيها من أهمية مرتبطة بالموضوع. وتحققت بنفسي من رواية ولادة المسيح في الإصحاح من إنجيلي متى ولوقا وهما إحدى الأناجيل الأربعة الصحيحة عند المسيحيين. وللموضوعية تحققت منها في نسخة إلكترونية على مواقع الشبكة تابعه للإخوة المسيح وليس من الإنجيل الورقي.
والأناجيل لم يكتبها المسيح وإنما كتبوها الرسل الذين جاؤا من بعده بسنوات على أساس تحركه الإجتماعي. كإنجيل مرقس ومتى ويوحنا ولوقا... والمسيح لا يعلم عنها شيئا. على خلاف القرآن فهو كتاب كتبه صاحب الحركة نفسه. جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى بالنص:
"أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبه ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حُبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارّاً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سراً. ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم إمرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القُدُس... فلما إستيقض يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ إمرأته. ولم يعرفها حتى ولدت إبنها البكر ودعا إسمه يسوع" لم يعرفها: لم يمسسها.
وفي إنجيل لوقا إصحاح ٢ أن الملاك نزل عليها وقال لها: ستحبلين وتلدين إبنا وتسمينه يسوع فقالت له: كيف يكون وهذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجابها الملاك: الروح القدس يحل عليكِ... وفي نفس الإصحاح يذكر ولادة يسوع وإحتضانه من قبل مريم ويوسف.
وبتنحيه اللغو الديني جانباً يبقى لنا أن نتحدث عن ولادة طبيعية لطفل أسمه عمانوئيل (وهو إسم عبري يعني: معنا الإله) قد تكون أمه حبلت به في فترة الخطوبة وقبل الدخول بها، كما يترجح من نصوص الإنجيلين، وإستغلت هذه الحادثة لنسج قصة الروح القدس والولادة بلا دنس أي بلا إتصال جنسي. والشرقيون يتأثمون من الجماع حتى حين يكون ضمن العلاقة الزوجية. وقد مدح أبو ذيب الهذلي أحد أبطاله بأن أمه حبلت به من وراء ثياب:
"ممن حملن بهم وهن عواقدُ
حُبُك الناطق فشبّ غير مهبلِ"
أي من غير أن يحدث تماس مباشر بينها وبين زوجها. ومن الغريب أن تفوت المسلمين مثل هذه اللمحة فلا تدخلها كتب السيرة في ولادة محمد. والعقيدة الإسلامية تتشدد في نجاسه الفعل الجنسي ولذلك شرعت غسل الجنابة. وكلمة جنابه تعني الإثم والدنس وغسلها يراد لتطهير الروح منها.
طٌهرانية الشرقيين تفتق الخيال عن أمنية مستحيلة أن تكون ولادة ضنائن الله من غير دَنَس!...
-
وبالرغم أني مؤمن بأن ولادة يسوع طبيعية كما يذكرها هادي العلوي. لكنه وعلى أي حال من يؤمن بالمسيح كإبن للإله أو من يؤمن به كإنسان, الجميع يقر بمكانته التاريخية. فقد تجلت فيه صفات الخير والكمال, ويبقى إنسانا عظيما أعطى للتاريخ الإنساني صفات ومبادئ وقيم حاولت تحرير الإنسان من الظلمات إلى النور.. ومن الكلمات الأخيرة لأسقف دير حلب الداعية للوحدة في ذلك الظرف الصعب والتاريخي ننهي هذه المقالة: "وليجمع بيننا أمرٌ وحيد هو محبة الرب , وبشارة يسوع , وتوقير العذراء المقدسة , سواء هي أم الإله , أم أم المسيح. فنحن وقد ودعنا صخب الدنيا , نعرف العذراء بقلوبنا , لا بأقوال اللاهوتيين ومذاهبهم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق