الاثنين، 24 فبراير 2014

النواة السيمانتية للدين والفكر والفلسفة


شعار فلسفة "التاو" يلتحفها تنين الأسطورة الصينية
"الإنسان إعتاد أن ينظر إلى الكون من خلال إطار فكري يحدد مجال نظره
وإنه يستغرب أو ينكر أي شيء لا يراه من خلال ذلك الإطار.
فالإنسان بهذا المعنى يشابه الحصان الذي يجرّ العربات
حيث قد وضع على عينيه إطار لكي يتوجه ببصره إلى الأمام
فلا يرتبك أو يتطوح في سيره"(١)






أحاول وبقدر الإمكان التأقلم مع الحياة مع الأطر من حولي، وأنا أعلم أن هذا الإطار يحكمه الدين والدين داخل إطار أضيق (الطائفة)، والطائفة يحكمها سلطانها (رجل الدين). أحاول الإكتفاء بالإبتسامة العريضة التي تعلن عن جهلي بكل شيء وشكي بكل شيء عندما أسمع أحدهم يستشهد بمقولة تارخية، لشخصية مقدسة هنا او من هناك. فتكون هذه الكلمة هي فصل العقل عن التفكير في كل ما يمكن أن يسبب خروج عنها أو معرفة بشيء قد يهز من أيمانك بها وبالإطار الفكري أو الدلالي الذي يحيط بنظامها العقدي.

لكل إنسان في هذا الوجود نواة سميناتية (دلالية)، هذه النواة هي إيمانك الذاتي المكتسب، تغذيه البيئة أولا، الثقافة الذاتية ثانيا. وما يطبع في عقلك الباطن من قناعات ومسميات مثل: الكفر-الإيمان، الصلاح-الطلاح، الحق-الباطل. هو نتيجة هذه البيئة، فالإنسان إبن بيئته. من هنا أصبحت أؤمن بمفاهيم أخرى، أنه لا يوجد إنسان كافر في الحقيقة. هناك إنسان مؤمن بشيء، وإنسان مؤمن بشيء آخر.

هنا مساحة قليلة سأكتب فيها دون أن ينقطع حبل أفكاري مباشرة، قررت أن أكتب كل شيء مباشرا، فأمي وهي أمي أغلى ما يمكن أن يحن إليه قلب إبن في هذا الوجود، وأكثر الأشخاص الذين حاولت أن أبتعد عن مفاتحتهم بما أؤمن به خشية أن يكون كلامي غير مفهوم إليها. أرى أنه من الضروري وفي هذا اليوم أن أتكلم معها ولو بالشيء القليل وهذا القليل قد يطول إلى ساعة أو ساعتين أو ثلاث لا أعلم ولكنني قررت أن أتكلم.

كان السبب الذي أخذني وأمي للكلام أنها لاحظت علي بأني قد تركت العبادات والطقوس الدينية التي يمكن أن يؤديها أي إنسان فاجر أو مستقيم، ولكن على أي حال فإن من لا يؤديها محكوم عليه من خلال الإطار الدلالي للدين والمجتمع بالكفر وعدم الإستقامة.

يمكن أن نقرأ الدين الإسلامي في ثلاثة أقسام كما يذكر هادي العلوي: القسم الأول وهو خاص بالعبادات والطقوس وهذا أمر شخصي، والقسم الثاني هو التراث المعرفي الحضاري (العلوم والفقه والفلسفة والتصوف) وهو للجميع، والقسم الثالث الإخلاقيات الدينية وهو القسم الأهم في كل الأديان والغاية منها، وهو شخصي أيضا, وهو ما يهمني من كل قراءةٍ في الدين الإسلامي أو أي دين آخر. ولو قرأنا كل دين سنجد في الطقوس والعبادات وسيلة وليست غاية, فالغايات هي تهذيبية وليست طقوسية. الإسلام مثلا إختار للصلاة عمودا للدين إذ من خلال الإتصال يتعزز الإيمان بالذات الفوقية الحاكمة التي أختيرت كصورة ماورائية يتعزز الإيمان بها من خلال الذكر اليومي. والصوم مثلا للإحساس بالفقراء والجياع، والحج يشعر فيه الغني والفقير بالتقارب والتشابه. والزكاة ضريبة على الغني والتاجر للفقير. والجدير بالذكر أن الإسلام في مرحلة الثورة ضد قريش كان يمنع كنز الأموال (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم). وقد نسخت آيه تحريم الكنز بجوازه مع فرض ضريبة الزكاة على التجار والاغنياء بعد أن أصبحت الدولة في يد النبي محمد وذلك لدوافع تنمية الإقتصاد والإزدهار والإستثمار التجاري.

في الوجود فرضيات كثيرة لما قبل الولادة وما بعد الموت، كيف جئت وأين تذهب، كلها فرضيات ترجع في نهاية الأمر إلى الواقع الذي عاش فيه صاحب الفرضية ومشروعه الإجتماعي والسياسي أو الإخلاقي.

هناك فلسفتين في الوجود، الفلسفة المادية وهي التي تقول بأسبقية المادة على الروح, وكثير ربما فهم أن المادية هي أنكار الأرواح ولكنها في الواقع لا تنكر الروح بل تؤكد على أسبقية المادة كما هي الفلسفة الماركسية, وليس ماركس هو أبو الفلسفة المادية بل هناك نزعات مادية في الحضارة الإسلامية كما وضحها العلاّمة حسين مروة في مجلدة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية, وهو الكتاب الذي أدى إلى إغتياله. وكانت في اليونان عند فلافسفتها, وقد انكر كنفوشيوس الصيني الكائنات المفارقة وهو أحد فلاسفة الصين القدامى، ولكن أنتقدها موتسه الذي ظهر بعده في القرن الخامس ق.م. فوجد في الكائنات المفارقة ضرورة لضبط الناس وتشكيل وازع الخير والمحبة فيهم(٢).

أما الفلسفة الأخرى فهي الفلسفة المثالية وهي نظرة للكون تقول بأسبقية الروح على المادة. من خلال الإطار الدلالي المثالي نتجت فكرة وجود الروح الأزلية والأبدية التي خلقت الوجود وهي نظرة تعتمد على الإيمان القلبي الذي لا يدركه العقل والحواس، بخلاف المادية التي تخضع الكون للملاحظة الطبيعية والتأمل العيني وليس القلبي، في المادية أنت أمام علم في المثالية أنت أمام إفتراض لم يصل له العقل البشري ولن يصل. هذا الإفتراض لا يتصف بالروح ولا بالمادة، لنقل شيء ثالث آخر كما يحب أن يسميه إبن عربي، هذا الشيء سمه ما شئت، الله، التاو، الهيولى. وهذه النظرة هي نظرة الأديان، سوى من تبنت فكرة السماء ومحادثتها (السماوية)، أو من قالت بنتاجها العقلي والتأملي ووضعت أدلتها (الديانات الأرضية).

إختصت المادية بفلاسفة الطبيعة، وقالوا بأن أصل الوجود هو المادة، وقد وجدوا ذلك من خلال ملاحظاتهم في الطبيعة، فمثلا عندما تقطف ثمرة فهي تتحول لجماد منفصل عن الحياة، ولكن الثمرة نفسها تحتاج للمادة المحركة (التربه الضوء والماء) كي تستعيد نشاطها الحيوي. وفي تكوين الجنين، فإن المادة الجنينية تسبق حركته، وهذه نظرة فيزياوية للحياة والطبيعة تخضع للملاحظة والتجربة فكانت المادية أقرب لفكرة الكمون والحلولية التي سنتحدث عنها لاحقا. أما المثالية فهي واسعة الخيال والتأمل تخرج من العالم الطبيعي والمرئي إلى التأملات الغيبية والتصورات الماورائية اللامرئية الفوقية (الميتافيزيقية).

تبنت الحركات المثالية (الدينية) القانون الغيبي ووجدته ضروري لتقويم السلوك الإنساني، وفي مسألة الثواب والعقاب الأخروي  حاجة ايضا لتهذيب النفس بقوة فوقية مسؤولة عليها، ترهيبية، وترغيبية فتصورت شكل مادي للجنة والنار. من هنا إستلهم الإسلام صورة الإله من صورة الحاكم الذي يملك عرشا وجنود. فهو حاكم على الحكام وملك على الملوك وجنوده من نور يعذب من يخالفه ويرحم من يطيعه. لأن محمد كانت حربه ضد الأباطرة الرومانيين والكسرويين ووجهاء قريش.

"الكمون والحلولية مفهوم دخل على الفلسفتين المادية  والروحية, ففي الحلولية الكمونية الروحية ينزل الإله إلى العالم ويسكن أو يحل أو يكمن في الإنسان وفي الطبيعة, وتبقى روحهُ المُفارقة حالّة في الأشياء"(٣) وهذه عند بعض المتصوفة والتاويين الصينيين إذ جعلوه في الماء والهواء والتربة والروث.

"والحلولية الكمونية المادية تنزل الإله إلى الكون والمادة وتسلب منه إسم الإله فيتحوّل إلى القوة المطلقة أو الطاقة أو الطبيعة أو المادة. إن حلول وكمون الإله في المادة أو الطبيعة، وليس تجاوزه لها، جعل المادة أو الطبيعة تكتفي بما فيها، أي تكتفي بعالمها الطبيعي المادي"(٤).

هذه الأفكار والفلسفات جعلتني أنقل هذه المسؤولية من مسؤولية حاكم فوقي أخاف من عقابه وأطمح في ثوابه إلى مسؤولية حاكم روحي، مسؤولية داخلية كامنة فيّ، أميز بها بين الخير والشر. أصبحت أفهم مقولة الحكيم الإسلامي علي إبن أبي طالب بصورة أوسع حين قال: لا يعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله. ما أؤمن به هو ما وضع في داخل كل إنسان سمة الحق الذي يتصوره من خلال عقله وإطارة الدلالي، وهذا الحق قد يتغير يضيق ويتسع بإتساع المعرفة. مفهوم الحق لا يمكن حصره في دين او عقيدة أو فكر أو ما شابه، بل هو مفهوم داخلي مكتسب؛ يتجوهر في الإنسان بقدر ما يراه من أطر دلالية للحقيقة. فعندما أتصدق ليس لأني أريد ثوابا، أو أجرا، بل لأني أشعر بحاجة الفقير للمال وأشعر بسعادة كبيرة لأني ساعدت أحدهم. وعندما لا أزني ليس خوفا من عقاب، بل لأني مؤمن بأن المرأة كائن روحي، فلا حلاوة ولا شعور ولا لذة جسدية لا يحكمها الحب والتضحية والمودة، وربما يكون الزنا في مفهومي يختلف عن المفهوم الذي تجعله مشروعا بمجرد ورقة زواج، هذه الورقة تضمن حقوق الزوجية فقط كمسؤولية إقتصادية من الزوج. ولكن المفهوم الأكمل للزواج هو ما حدده القرآن (وجعلنا بينكم مودة ورحمه) فلا زواج شرعي دون هذه المودة والرحمة، فمن قدمت نفسها حبا لشخص ما وأنتهى بها القدر إلى فشل لا يمكن أن أسميها مُومس، المُومس والزانية هي من تمارس الحب الجسدي مع عدة أشخاص وتأخذ أجرا أو مالا. وربما تكون كل هذه المفاهيم والنظرة خاضعة للإطار الدلالي والنواة السيمانتية بل هي كذلك.

تحدثت في الفقرة السابقة عن أن الإله هو الحق، مفهوم الحق الذي أتكلم عنه مفهوم فلسفي وليس المفهوم السلوكي. لأن الظلم هو باطل وهذا متفق عليه والعدل حق والمساواة حق وإحترام الآخر حق، أما الحق الذي هنا هو نظرة الإنسان الكونية التي تخضع للإفتراض الفلسفي وليس الحق السلوكي، أو ما يسميه هادي العلوي السلوك الروحاني ويفرق بينه وبين الفكر الروحاني.



سألتني أمي بعد كل هذه التوضيحات، أو أسميها تشويشات، وأنا لا أملك أي وضوح عن أي حقيقة، أنا بين إفتراضات لا أعلم هل كل ما أراه وأشعر به هو فقط العالم، أم ما لا أراه، ولماذا أُحاسب على شيء لا أدركه وأفتقر له، أنا محتاج للحديث مع الحقيقة، الحديث مع كل هذه المتضادات في الوجود، لماذا أنا هنا بين من يظن جاهلا بكل هذا أنه على حق، وآخر يتجاهل، وآخر يكفرني ربما، نعم أنا كافر، كافر بكل شيء، ومؤمن بكل شيء. فقالت وهل كل رجال الدين هؤلاء هم لا يدركون كل هذه العلوم؟!

هنا نرجع إلى كتاب علي الديري خارج الطائفة حيث يتحدث عن النواة الدلالية التي تحكم رجل الدين والتي تحكم المُفكر، رجل الدين ينطلق من مسلمات عقدية، هو جزء من المجتمع المدينة الدولة، جزء من الإنسان والعالم. وليس كل العالم. أنتي يا أمي تنتمين إليه ويتفق تكوينكِ العقلي والدلالي مع ما يطرحه من مسلمات لا تخرج الإنسان إلى حالة الفكر، فرجل الدين هو رجل دين، ليس فيلسوفا ولا مثقفا كونيا، بل هو متخصص في مسلماته التاريخية والمحكومة بنظامه العقدي، فعندما يقرأ العالم ينبذ العالم هو يحاول أن يدحض الفرضية الأخرى، والعالم الآخر ليثبت نظريته، بينما المفكر او المثقف الكوني ينظر للعالم فلا ينبذه يفتحك ولا يغلقك، لا يريدك أن تمشي خلفه بل أن تواكب عقله، فينقلك إلى الآخر المختلف. هنا الفرق بين قراءة رجل الدين للفلسفة وقراءة الفكر الحر للفلسفة، عندما أقرأ لرجل دين من أي دين كان أنا أعرف أنه يدعوني إلى، بينما المفكر يفتحني على، على عوالم أخرى لا أدركها ويجعلني متفكرا في دلالياتها، بينما رجل الدين فهو بدلالياته يحكم وبقدر عباءته يتيح لك أن ترى، اما المفكر فهو يعري الهوامل ويتيح لك ان تكتشف العالم بقدر ما تسمح به خيوط الشمس التي تظلل كل هذه البشرية لا خيوط النص المحكومة بالتاريخ واللغة والصراع الدموي.

تفهمت أمي كيف أفكر وهي تقول: "يا بني تملك روحا طيبة، ولكن يجب أن تؤمن بأن الله هو خالق كل شيء" أنا مؤمن بذلك يا أمي ولأني مؤمن بذلك أشد الأيمان، فأنا أراه كما يمكن أن أراه، شيء لا كالأشياء، هو الحق، يتجلى كما يريد، لمن يريد، في المادة لتكون روحا، في الفراشة وهي تحلق، في الحب، والجنس، في الموت والولادة، أنا أراه ولا أراه، فقير عنه، غني به، وأنا اليوم في أكثر حالاتي نقاءً، أراه أب الإختلافات لا كما يصفونه أب الإتفاقات، قالوا بأن الله خالق جنة ونار، فإن كان كذلك فانا أشعر بأنه راضيا عني ويفهمني أكثر من أمي وأبي ومن هم حولي، وإن كان الله الذي تؤمنين به يا أمي يعذبني على أفكاري، فانا لست ملك أفكاري ولا حاكمها. أرجوك أيها الحق إن كنت حقا وتسمعني فحدثني، أحتاجك كما يحتاج الطفل لثدي أمه، لا أريد الملك والنبوة ولا الصولجان فقط أريد أن أعرف من أنا. وكأنك قد خلقتني فهجرتني، أم أنت هنا قريب لا بعيد فلا أفهمك ولا تفهمني؟


(١) علي الوردي, خوارق اللاشعور. صفحة ٤٣.
(٢) راجع كتاب مدارات صوفية لهادي العلوي فصل الأبدال موجز موتسه.
(٣) و (٤) علي الديري/ خارج الطائفة صفحة ١٣٢.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق