قراءة في الجذور الإجتماعية للحركات السياسية الإسلامية وتطورها الفكري بعد وفاة النبي
ساهمت الثورة الإسلامية بقيادة النبي محمد، والتي سماها المفكر الشهيد حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية بـ "الثورة التقدمية"؛ وذلك لما تحمل من أهداف تسعى لنقل الرقعة العربية أنذاك من مجتمع القبيلة وإنقساماته الوثنية التعددية؛ إلى مجتمع موحّد. من هنا جاءت فكرة التوحيد أيضا، والتي مهد لها الحنفاء قبل الإسلام، فالتوحيد ليس مجرد شعار ديني، بل هو في مضمونه الإجتماعي التاريخي يعني وجود سلطة مركزية موحّدة تسعى لضمّ القبائل تحت رايتها، ونقلها من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة، أو الإمبراطورية، بما يحمل هذا الشكل من تغيرات جديدة على المستوى الإجتماعي، الإقتصادي، السياسي، والفكري.
القراءة التاريخية والقراءة الإيمانية
لا بد لنا أن نخرج من هذا الكتاب ونحن قادرين على أن نفرق عند القراءة لأي مؤرخ آخر بين القراءة التاريخية والقراءة الإيمانية، وبين القراءة التي تحمل مشاعر الكره أو الحب، وبين القراءة الموضوعية المتحررة من كل ذلك. فالكل من حقه أن يقرأ التاريخ بما يتوافق مع مصلحته في هذا الحاضر الذي يعيشه؛ ويبقى الحكم في نهاية الأمر لعقل القارئ وميزانه، فالقراءة الإيمانية هي التي تجعل من المتن هامشاً، وتجعل القراءة التاريخية من الهامش هناك متناً هنا، ما هو المتن هنا وما هو الهامش هناك؟
المتن في القراءة الإيمانية هو المقدس "الديني - الآيدلوجي - العقائدي" فهو مصدر الصراع وأساسه بين الحق والباطل، بينما يبقى الهامش هو الجذر التاريخي الذي تسير فيه حركة الفكر مهما كان مقدساً أو غير مقدس، ويصبح المقدس (القرآن والسنة مثلاً) الذي يعود لحدث تاريخي جزئي متطابقاً على جميع العموميات وصالحا لجميع الأزمنة والأماكن. أما القراءة التاريخية تجعل من المتن هناك هامشاً حين هي تقوم بتعرية حجاب المقدس، وتعمل على كشف الجذور التاريخية للفكر-النص-، ولا خصوصية أو إستثناء للإسلام أو للشعر الجاهلي، أو للنتاج الفكري الذي أنتجه المتكلمون من معتزلة وأشاعرة وغيرهم، وإن كان يأخذ بطبيعته مع مرور الوقت شكل الصراع الفكري، لكنه في باطنه لا يستطيع ان يتخلص من جذور الصراع الأولى، فيختلط حاضر الإنسان ليصبح الدفاع عن؛ أو إستعادة الحق الإلهي أو الشورى الإسلامية اللذان جاءا في ظروف تاريخية محددة؛ هما الأولوية في مواجهة الباطل، ليختلط بأسم المقدس الأسود بالأبيض في الصراع الحاضر.
القراءة التاريخية بخلاف القراءة الإيمانية لا ترى الصراع التاريخي هو صراع بين الحق الإلهي والباطل الشيطاني، إنما هو صراع بين حق وحق، حق القبيلة مثلا، ومصالحها، وحق الثائرين عليها. حق الطبقة الإجتماعية تلك، وحق المناوئين لها. وإن كان لكلا الحقين ان يطغي على أحدهما السلب أو الإيجاب في حركة التاريخ، لكنه منها تأتي لغة الدفاع لتتخذ شكلها الفكري. ولا يمكننا معرفة سلبيات وإجابيات أي حركة تاريخية فكرية-إجتماعية إلا بالرجوع للواقع الذي تثور عليه أو تحاول تغييره، وتحرير العقل من النظر إليها نظرة الإعجاب أو الكره. فالصراع لا يأخذ شكلاً شخصانياً، وإنما هو الشكل الموضوعي لحركة التاريخ حتى لو تغيرت تلك الأسماء والشخصيات.
الإسلام: حربٌ على جبهتين!
يمكننا القول بأن الإسلام جاء في البداية ليحارب على جبهتين: "جبهة القبيلة وصراعاتها الإنقسامية الجاهلية، ويمثله من ناحية الفكر (الوثنية) وتعدديتها الإلهية" ومن هنا جاءت الكثير من الآيات التي تحث على الإعتصام بحبل الله وعدم الفرقة. فحرب الإسلام على الوثنية ليست حربا ضد الأصنام لذاتها، وإنما لما تمثله تلك التعدديات الإلهية من إنقسامات قبيلة هي في جوهرها سلبية وضد مشروع التقدم التاريخي للتوحيد الإسلامي وبناء الدولة العربية أنذاك. أما الجبهة الأخرى فهي جبهة الصراع ضد ظاهرة التمايز الطبقي: "الذي جعل من مكة والقبائل المجاورة لها منقسمة في داخلها إلى فئات فقيرة وفئات غنية" بعد أن قام العرب بتأسيس خط للتجارة يصل بين الساسانيين في الشرق والبيزنطيين في الشمال والأحباش جنوباً والذي سمي بـ "خط العطور" والذي يتمركز في مكة، خصوصا مواسم الحج الجاهلي. وقد جاء الإسلام أساساً على أنقاض ثورات فكرية وإجتماعية؛ حيث كان الحنفاء الموحدون يخوضون الصراع ضد التعددية الوثنية من الجانب الفكري، والذين لم يكونوا هودا ولا نصارى كما وصفهم القرآن، إنما جماعة من الناس يتأملون في وحدانية الخالق والكون والإنسان: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين". أما الصعاليك وغيرهم فيمثلون جبهة الصراع الإجتماعي ضد الطبقية، فهم جماعة من الفقراء غير المستفيدين داخل قبائلهم؛ إنسلخوا عنها منزوين عن جماعتهم القبلية إلى الواحات، حيث كانت مهمتهم السلب من الأغنياء وقوافل الأغنياء. ويبدو هنا جليا أن الإسلام جاء ليكلل جهود تلك الثورات الفكرية-الإجتماعية حيث جاء في بدايته داعياً لتحريم كنز المال وأن يتكافل المسلمون فيما بينهم: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، إلا أنه سرعان ما نسخت أيه تحريم الكنز بآيه الزكاة بعد فتح مكة، التي أحلت لوجهاء قريش كنز المال مقابل تزكيته بنسبة قليلة منه، وهذا النسخ في التشريع واحد من نتائج نسخ التشريعات نتيجة لتغير الظروف الإجتماعية والمصلحة التاريخية لحركة الإسلام.
في مشكلة الخلافة
بالرغم من أن الإسلام جاء محارباً للتمايز الطبقي، إلا أنه كان واضحا بأن النبي محمد كان يفضّل المهاجرين على الأنصار في توزيع غنائم الحرب وتقسيم الثروة والمناصب السياسة ايضا، فالمهاجرون هم أوائل الداخلين في الإسلام والذين هاجروا من مكة مع النبي وعانوا ما عاناه داخل أسوارها. أما الأنصار فهم الذين إستقبلوا النبي في المدينة.
ما إن مات النبي سنة ٦٦١م حتى تنبهت تلك النوازع المكبوتة بين المهاجرين والأنصار، وقبل أن يشيع جثمان النبي إلى مثواه الأخير؛ صار كل فريق يريد أن تكون له سلطة الخلافة بعد النبي، وأن تكون له القيادة الفعلية لهذه السلطة.
في ذات الوقت أيضا برزت نوازع الإنقسام بين المهاجرين أنفسهم، وتنبهت رواسب القبلية الجاهلية بين بني هاشم الذين ينتمي لهم النبي محمد، وصهره وابن عمه علي بن ابي طالب. وبين بني عبد شمس وتميم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي لهم سائر المهاجرين، ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب. وعلي أن اكرر أن الموضوع هنا ليس موضوع شخصيات وانما موضوع صراع اجتماعي وضرورة تاريخية تستحثها طبيعة حركة التاريخ وقوانينه لامحالة؛ ذلك نتيجة لهذا الانتقال المفاجئ من الصراع القبلي الى صراع اوسع، وهو: "من هو الذي يجب ان يتولى شؤون المسلمين بعد تمركز جميع الصلاحيات في شكل سلطة مركزية واحدة، وهي الخليفة والخلافة!".
كيف إنفجر الصراع؟!
هذه الجزئية ننقلها حرفيا عن حسين مروة في كتابه لأهميتها ولأنها لا تحتمل الإيجاز: لمراجعة الكتاب (طبعة ٢٠٠٢، دار الفارابي-بيروت، ج١ ص٤٣٤)، وهو ينقل هذه الحوادث من مصدرين تأريخيين (تاريخ اليعقوبي، وتاريخ الطبري)، يقول:
"في حين كان علي بن ابي طالب والعباس بن عبدالمطلب عم النبي، وأسامة بن زيد أحد الصحابة، مشغولين في غسل جثمانه وتكفينه، ثم حمله إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها ببيت زوجه عائشة، كان منادي "الأنصار" ينادي في "المهاجرين" قائلا: (اجعلوا لنا في رسول الله نصيباً في وفاته، كما كان لنا في حياته). فبدا أول الأمر أن ذلك لا يعني أكثر من أنهم يريدون أن ينالوا شرف توديعه والمشاركة في عملية الدفن. ولذلك بادر علي بن أبي طالب بدعوة أحد الأنصار، وهو "أوس بن خولي" أن يشارك في النزول معهم إلى القبر لدفن النبي وتوديعه الوداع الأخير. إلا أنه سرعان ما أنكشف المعنى الذي يقصدونه بكلمة "النصيب" التي أطلقها مناديهم. فقد ظهر أنه بينما علي بن أبي طالب يدعو صاحبهم أوس إذا بزعماء الأنصار هؤلاء يعقدون إجتماعاً طارئاً في "سقيفة بني ساعدة" ثم يعلنون إمارة المسلمين -أي الخلافة- بعد محمد لزعيم الخزرج الأنصاري: سعد بن عبادة.
بلغ الأمر أبا بكر وعمر بن الخطاب وبعض المهاجرين، فجاءوا مسرعين إلى حيث يجتمع الانصار، وأبعدوا الناس عن سعد بن عبادة الذي أعلنه أهل المدينة -الأنصار- اميراً. وشق أبو بكر طريقه إلى صدر الإجتماع وخطب في المجتمعين قائلاً: (يا معشر الأنصار! منّا رسول الله، ونحن أحق بمقامه) فأجاب الأنصار: (منا أمير، ومنكم أمير). فقال أبو بكر: (منا الأمراء، ومنكم الوزراء)، وإحتدم الجدال بين الفريقين "المهاجرين" و "الأنصار" وكادت الفتنة تشتعل بينهم، لولا أن أنقذ الموقف واحد من زعماء الأنصار: أبو عبيدة الجرّاح. إذ تقدّم إلى أبي بكر وبايعه بالخلافة فانقاد الأنصار لرأي أبي عبيدة الحاسم، فأصبح أبو بكرأول خليفة من الخلفاء الأربعة بعد وفاة النبي. والذين أطلق عليهم لقب (الخلفاء الراشدين): أبو بكر من تميم، ثم عمر بن الخطاب من بني عدي، ثم عثمان بن عفان من بني امية، ثم علي بن أبي طالب من بني هاشم، وكلهم من المهاجرين.
غير أن الصراع لم ينحسم بذلك، فقد كان بنو هاشم وهم آل محمد غائبين عن المشهد، فلما علموا بالأمر ثار بهم الغضب. وقَدِمَ بعضهم إلى حيث حدث الأمر، ووقف أحدهم وهو "عتبة بن أبي لهب" ينشد شعراً يمدح به علياً بن أبي طالب وكأنه يرشحه للخلافة دون غيره؛ داعيا إلى كون علي هو صاحب الحق وحده بالخلافة. وقد اتخذت حادثة الغدير التي سنتحدث عنها في الجزئية القادمة "تحول الصراع من سياسي إلى صراع ديني -إلهي-" حجة قوية لموقف أنصار علي الإجتماعي ولكن إختلف بنو هاشم مع غيرهم من قبائل المهاجرين والأنصار في تفسير الحديث لإختلاف الدافع الإجتماعي والطبقي في الصراع وموقعهم منه. ويقول اليعقوبي وهو مؤرخ شيعي موثوق أن علي بن أبي طالب بعث إلى عتبة هذا ينهاه عن دعوته التي أعلنها. ولكنه -أي علي- تخلّفَ عن مبايعة أبي بكرومعه جماعة من بني هاشم وبني أمية. ويبدو أن فريقاً من الغاضبين ذهب إلى علي بن أبي طالب يريدون مبايعته بالخلافة، فطلب إليهم أن يرجعوا إليه في الغد، فلما جاء الغد لم يحضر منهم سوى ثلاثة أنفار/ الطبري: ج٢ ص٢٠٢.
صحيح ان علي بن ابي طالب تعاون مع الخليفة الأول ابي بكر، وتعاون مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وصحيح قبل هذا أن الأنصار انقادوا لكبيرهم أبي عبيدة، لكن الصراع بقي كامناً أول الأمر، ثم ظهر واحتدم احتداماً دموياً حيناً وفكرياً أيديولوجيا حيناً. لأن الدوافع القائمة وراءه بقيت دون حسم، ولأن المحتوى الإجتماعي - السياسي لهذا الصراع هو هو لم يتغير. غير أنه صراع إيجابي تاريخياً، فهو من جهة أولى كان ضرورة يقتضيها قانون حركة التطور الإجتماعي، وهو من جهة ثانية كان مصدرا خصباً لنشوء حركات فكرية أصبحت فيما بعد من مكونات حركة تطور الفكر العربي الإسلامي، ولا سيما الفكر الفلسفي منه".
الحصيلة من هذه الجزئية: "أن الصراع لم يكن يأخذ بعدا طائفياُ أو دينياُ -فكرياُ- لأن النموذج الفكري للصراع هو شكل منبثق عما يسبقه من صراع اجتماعي سياسي بعد أن يركد ويستقرالأخير، فهو لم يكن يتعدى كونه صراع بين أحزاب أو فرق سياسية أتخذ أما شكلا طبقيا بين المهاجرين والأنصار أو شكلا قبلياً مترسبا من قيم الجاهلية ونموذجها القديم الذي لم يستطع الإسلام في عشرين سنة من دعوته أن يزيله تماماً، وهو ما سيشكل نظرية المعرفة عند شيعة علي متمثلة بعد ذلك في نظرية الحق الإلهي لوراثة الخلافة في بني هاشم، وبين نظرية المعرفة المنبثقة من موقف القبائل الأخرى من المهاجرين والأنصار وهي نظرية الشورى "شبه الديمقراطية" والتي تجعل الحق للبشر في انتخاب خليفتهم وليس الله، إلا أنها ليست الشورى بالصورة التامة، إذ أنها كانت محصورة في نخبة من المسلمين وقد أقصي فيها أخرون، من خلال انتخاب الخليفة نفسه لأشخاص معينين يقع عليهم الإختيار منه وتكون الشورى عليهم".
تطور الصراع من الشكل السياسي إلى شكله الديني
بالرغم من أن الصراع كان مسوقا بدوافع إجتماعية - وسياسية غير خفية، فقد إتخذ شكله الديني، لأن هذا هو الشكل التاريخي له موضوعياً في ذلك العصر. ومن هنا تحول ظاهر الصراع من صراع بين المهاجرين والأنصار إلى صراع بين حق الهاشميين وسائر القبائل على الخلافة.
وهنا أشغل الصراع الإجتماعي العقل في إيجاد المفهوم الإسلامي المناسب للخلافة: فهل هي حق إلهي؟ وهل الخليفة يجب أن يكون منصب من قبل الله، شأنه شأن النبوة والنبي عند المسلمين؟ أم أن الخلافة منصب رئاسي لا يأتي اختياره من عند الله، بل هو حق من حقوق المسلمين أنفسهم، فهم الذين يقررون الصفات التي يرون ضرورة توافرها في من يتولى امر هذا المنصب؟... بين القائلين برفض كون الخلافة منصبا إلهيا، نشأ نزاع أخر وسؤال آخر: هل واجب أن يكون الخليفة من بني هاشم في قريش؟ أم واجب أن يكون من قريش بوجه عام، أم يصح أن يكون من غير قريش في العرب، أم يصح أن يكون من العرب وغير العرب من المسلمين حتى لو كان "عبداً حبشيا" والأخير هو رأي الخوارج، وهو الوجه الإجابي والإنساني لحركتهم. وكل تلك الآراء لا تنفصل عن الموقع الطبقي الذي يتبوأه القائلون بالرأي دون الآخر، كون تلك الآراء إنطلقت من بيئة الصراع نفسها ومواقع المتصارعين فيها.
القول بأن الخلافة حق إلهي/ هو القول الذي إتخذه أنصار علي بن أبي طالب، وصار بعد ذلك أصلا من أصول العقيدة والإيمان عند الشيعة، حيث الإيمان بالإمامة شرط من شروطها. والنص الأكثر إعتماداً لهم والأقوى سنداً تاريخيا واسلامياً عند كافة المؤرخين (سنة وشيعة) هو ما يسمى بـ "حديث الغدير"، وقصة الحديث هي:
"أنه عندما عاد النبي من حجه الآخير"حجة الوداع"، أوحي إليه في الطريق: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته). وجمع الناس عند غدير يقال له "غدير خم" ثم أخذ بيمين علي ورفعها وقال: (يا أيها الناس! ألست أولى منكم بأنفسكم!). قالوا: بلى. فقال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه. اللهم وال من والاه وعادي من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق حيثما دار).
هذا الحديث يتفق على صحته كما يقال تاريخياً، فهو حدث تاريخي من تلك الناحية، ولكن أختلف المسلمون في دلالته، ومركز الإختلاف كلمة: "مولى" او "الموالاة" الواردة في الحديث. فالشيعة يفسرونها على أنها تعني وراثة الخلافة في أمور المسلمين؛ جملةً وتفصيلاً. اما سائر الفرقاء من المسلمين قالوا: إن كلمة مولى وكل ما ورد في الحديث من أفعال ومشتقات للكلمة، تدل على المودة والمحبة فقط، وليست تعني النص على الإمامة. في مثل هذا الجانب الديني قال بعض المسلمين أن النبي نص نصاً خفياً على خلافة أبي بكر، لا على خلافة علي. وذلك ما يذكرونه من ان النبي امر الصحابة، أثناء مرضه الأخير، ان يصلّوا جماعة وأن يكون أبا بكر إمامهم في صلاتهم هذه. فقالوا إن الإمامة في الصلاة هي الإمامة الصغرى، وإن ذلك يوحي بإسناد النبي الإمامة الكبرى لأبي بكر. وقد إستند عمر بن الخطاب إلى هذه الحجة في طلب البيعة لأبي بكر يوم السقيفة...
وهناك طرفاً آخر دخل خط التنافس على منصب القيادة العليا للسلطة الإسلامية. إذ نرى مثلاً، حين إنتهى الأمر لخلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، أن أبا سفيان بن حرب - والد معاوية مؤسس الدولة الأموية - تخلف عن مبايعة أبي بكر، وقال مثيراً زعماء قريش: (أرضيتم يا عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم). وبنو عبد مناف هو الفرع الذي ينحدر منه أجداد القبائل القرشية. وتقول المصادر إن بني هاشم وبني أمية بالرغم من إختصامهم؛ غضبوا أن يتولى أمرهم رجل من تميم -أي أبو بكر-، من هنا ظهرت آراء في الخلافة: هل هي حصر في فئة من قريش، أو في قريش جملة، أو هي حصر في العرب، أو هي للمسلمين جميعا، عرباً وغير عرب؟!
كان شكل الصراع في كل ذلك فكريا دينيا، وكانت الحجج لكل فريق دينية أيضا، لكنه صراعٌ إجتماعيٌ-سياسيٌ بجوهره ومضمونه. وقد انتهى عصر الخلفاء الراشدين الأربعة تاركاً في الحياة الإجتماعية والسياسية والفكرية ثلاثة تكتلات رئيسية: "شيعة علي بن أبي طالب، حزب الأمويين، الخوارج." وهناك كتل أخرى ثنوية ظهرت سريعاً وانطفأت سريعاً، دون أن تترك في الحياة الإجتماعية والسياسية أثرا مهماً. وإنتهى عصر الخلفاء الراشدين بعد علي بن أبي طالب ولا تزال المسألة في صراعها الفكري الأيدلوجي لتلك الحوادث التاريخية رهن الصراع الفكري الإسلامي اليوم، بل إن هذا الصراع الفكري لا يمكنه أن يبني الحاضر إلا على أساس إرتهانه لذلك الصراع وإستعادة إما الحق الإلهي لعلي في الخلافة متمثلناُ في حق شيعته، أو حق الشورى بشكلها في عصر الخلفاء. لتتخذ اليوم شكل الصراع الديني ايضا بين الفكر والفكر، وهي لا تزال في جوهرها ومضمونها ليست كذلك.