الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

التابو والأخلاق والتشريع: هل الأنظمة الأخلاقية ثابتة أم متغيرة؟


يُعرّف التابو على أنه فعل محظور يوجد ميل شديد نحوه في اللاشعور، وهو عند الناس موقف ازدواجي بين ميولهم وبين محضوراتهم التابوية والتي تصبح مع مرور الوقت قيماً. ينقل بو علي ياسين عن فونت: "من ينتهك تابواً يصبح هو نفسه التابو"(١) هذه المقولة تعبر عن جدلية الأخلاق وتطورها في المجتمعات. فمن ينتهك محرماً يصبح هو ذاته محرماً، بعبارة أخرى من ينتهك المقدس/الصنم يصبح هو ذاته مقدساً/يؤسس لصنميات أخرى. ولكن هل المسألة الأخلاقية بهذه البساطة؟ وما هي القوانين التي تحرك المجتمع نحو تبديل قيمه؟ وما الذي يجعل الشيء أخلاقيا هنا وغير أخلاقي هناك؟ مقبولا في زمان ما ويعبر عن قيمة عليا، ثم يصبح محط للنقاش والجدل، ثم ينتهك ويستبدل في زمن آخر؟


في مطلع القرن السابع عشر وتحديداً في العام ١٦١٢م رسم بيتر بول روبنز لوحة لفتاة إيطالية، هذه الصورة أصبحت خيطاً دقيقاً بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وحين نشرها الفنان التشكيلي العراقي "ستار كاووش" على صفحته في الفيسبوك أثارت جدلاً واسعاُ، وكان من الأجدر لكاووش أن يوضح الحدث من وراء هذا الرسم الذي هز روماً أنذاك: "كانت للوحة تُصور فتاة ترضع والدها الذي حُكِم عليه بالموت جوعاً، وكانت الفتاة ابنته تأتيه يومياً ويتم إدخالها بعد أن تُفتش جيداً، ويتم التأكد من أنها لم تحضر معها أي طعام، وفي سبيل ذلك لم تجد الإبنة غير هذه الطريقة لإطعام والدها وإنقاذه من الموت، وعندما اكتُشف أمرها تعطاف معها شعب روماً، وقامت السلطات بإطلاق سراح والدها".

ما الذي جعل شعب روما يتعاطف مع قضية هذه المرأة، بالرغم من أن هذا الفعل سفاح محرم ليس في الدين فقط بل في التابو الذي يسبق مرحلة اندماج الأخلاق في الأديان؟!

peter paol rubens - roman charity 1612

يمكننا ان نبين من خلال بعض الأمثلة أن غريزة البقاء تمتلك الدور الأهم لدى البشر في تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير كذلك. على سبيل المثال: "قد ترى شاباً يضرب عجوزاً، فتقول ما أقسى ذلك الشاب، لكنك ستقف معه لو علمت أن العجوز قام باغتصاب أحد الأطفال"... "وقد ينحرف سائق قطار عن سكته فيقتل رجلاً، لكن السلطات لن تحاكمه، وربما ستمنحه وسام الشرف إذا ما علمت أن السائق انحرف عن مساره لأن سكة الجسر على الطريق الآخر متهالكة وستودي بحياة الآلاف... لكن هناك من لن يغفر لسائق الباص أيضاً، وهم أقارب الرجل المقتول، إذ يلعب الجين/القرب/وصِلة الدم مسألة أخرى في تحديد القيم الآخلاقية لدى الفرد"


تختلف المعايير الأخلاقية من مجتمع لآخر أيضا باختلاف الظروف التي تمر بهذا المجتمع أو ذاك في سبيل الحفاظ على كيانه: "يُذكر أن موظفا هنديا احتفل في أحد المؤسسات بمناسبة قدوم مولوده الجديد، فتعجب أقرانه لأنهم لم يحسبوا أنه غادر البلاد منذ سنتين، وأصابهم العجب اكثر حين أجابهم بأن الطفل من زوجته لأخيه" ويقال أن الهندي أخذ يناكف أقرانه حول تشريع تعدد الزوجات في الإسلام، متعجبا هو الآخر. ولو أننا بحثنا في الظروف التاريخية لجميع التشريعات التي تثير استغراب واستهجان الآخرين اليوم لوجدنا ألف مبرر ومبرر. ولكن يبقى السؤال: هل الظروف هي دائما نفسها؟ ولماذا تبقى القيم ثابتة ومقدسة وفوق النقد رغم عدم توافقها مع البنى الإجتماعية الأخرى؟ ورغم تغير الظروف في المجتمع ذاته؟

إن هذه ليست دعوة للانحلال الأخلاقي، وإنما هي دعوة للنظر فيما هو ثابت وقراءته في سياقه التاريخي، فالعودة إلى البنية الإجتماعية لكافة التشريعات تجعلنا نفهمها، وحين نفهمها نتحرر من النظر إليها بعين المقدس الثابت، او الإزدراء الغير مفهوم والمعادي. إننا حين نفهم لا نعادي ولا نقدس، وإنما نقارن ونُطور.


بالعودة إلى التاريخ ما قبل الإسلامي -الجاهلي الأخير- يمكننا أن نفهم مثلا أن الإسلام في سياقه التاريخي لم يشرع لتعدد الزوجات، وإنما قننه بأربع، وكان رجال من بني ثقيف يملكون ١٠ نساء فتم تسريح ٦ منهن، واعطي للمرأة نصف الميراث بعد أن كانت محرومة منه، ومع تطور المجتمع الإسلامي، قام الدروز -الإسماعيليون في الأصل- بنسخ تشريع التعدد وجعلوا زوج واحد لزوجة واحدة، وساووا بين الجنسين في الميراث، إلا أن تجربة الفلاسفة الإسماعيليين انكفأت بعد أن كانت تحتل مساحات شاسعة في العصور الإسلامية. وتركت نصيب التوسع بعد ذلك للفقه الأصولي. وينحو الشيخ كمال الحيدري منحى تقدمياً على منهج الإسماعيليين في قوله بوجوب المساواة بين الجنسين في الميراث وذلك بقارنته بين وضع المرأة في المجتمع البدائي/الإقطاعي "مرحلة نزول القرآن" ووضعها في المجتمع الصناعي اليوم، وقدرتها على أن تفوق الرجل في مجال الصناعات والفكر، وقوله أيضا: لا يمكننا ان نخضع حروب اليوم لقوانين حروب الأمس التي كانت تعامل الأسير كعبد يمكن أن يباع ويشترى في سوق الرقيق(٢).
السؤال هنا: هل يمكننا أن نخلع عن الذين ينسخون التشريعات الأخلاقية إيمانهم-عقيدتهم أيا كانت تلك العقيدة-؟ وهل يمكننا أن نخرج طائفة بحجم الإسماعيلية كما الشيخ كمال الحيدري من الديانة الإسلامية؟

حسب مفهوم علي الديري فإن وظيفة الفلسفة أنسنة الوجود، أما المستشرق الفرنسي (إيرك جوفروا) والذي دخل الإسلام وعمره 27 عاما من باب الفلسفة الإسلامية لا من باب الفقه الإسلامي، أي من باب الفكر والسؤال لا من باب الأجوبة، فيقول: "إن الآيات القرآنية التي تدعو إلى التسامح واحترام حرية الإعتقاد ينبغي اعتبارها ذات صلاحية عامة وكونية، وأما آيات القتال فهي مرتبطة بظروفها الخاصة في ذلك العصر"(٣). في الواقع أن هذه المسأله: "مسألة السياق التاريخي/ أو ما يعرف بأسباب النزول" لا تؤخذ بعين الإعتبار من قبل المسلم اليوم، فيجري نقل آيات التسامح ذات القيم الكونية، وآيات القتال والتكفير التي تخص حرب النبي محمد بينه وبين مجتمع اليهود والنصارى ومشركي قريش إلى واقعنا اليوم. توضع هذه وتلك في سلة واحدة، يختلط في الثابت المقدس الأبيض والأسود، ما هو أخلاقي وكوني بما هو تكفيري ويخص مرحلة من مراحل الصراع البشري. 
فهل يمكن القول بأن الأسباب التي دعت لقتال هذه الفئة بالأمس نفسها الأسباب التي تحتم قتالها اليوم؟ هل القيم التي يحملها التكفيري اليوم هي ذاتها القيم التي كان يخوضها النبي محمد في الأمس؟!


ما نريد قوله في النهاية أن المشكلة بين ثنائية التشريع والأخلاق ليست في التشريعات وثوراتها التاريخية بوصفها ثورات في زمان ومكان معين، إن الفجوة بين التشريعات والأخلاق تكمن في ثبات التشريع رغم تقدم وتطور الأخلاق، الفجوة بين التشريع والإخلاق تنمو بقدرة التشريع على تخطي زمانه ومكانه إلا أن خطاه تبقى ثابته رغم ذاك التخطي، ما يجعل من الأخلاقي يحتوي في داخله قيم غير أخلاقية، ما يجعله غير قادر على التأقلم والبقاء، ما يجعل هناك تشريعات عدة لمدارس فكرية واحدة، أو معتقد واحد عبر التاريخ، المعتقد يمكن أن يثبت في القلب، لكن التشريع دائما ما كان يُنتهك وينسخ ما قبله في سبيل تقدم المجتمعات وتطورها وتقلبها.


ـــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(١) خير الزاد من حكايات شهرزاد، بوعلي ياسين، ص٢٣٥
(٢) كمال الحيدري ينتصر لحقوق المرأة
https://www.youtube.com/watch?v=QUt9oxQL9Lo
(٣) هل ينسخ الإسلام الأديان السابقة؟، إيريك جوفروا، موقع طواسين للتصوف والإسلاميات
http://tawaseen.com/?p=3213

الخميس، 20 أكتوبر 2016

"آيا صوفيا" معبد الحكمة الذهبي والتقاء الشرق بالغرب


التاريخ والعمارة



صورة تذكارية: آيا صوفيا في الخلف، من عتبات المسجد الأزرق


في الفترة ما بين السابع والعشرين من فبراير ٢٠١٦م وحتى الأول من مارس من العام نفسه تواجدت في اسطنبول، لم تكن تركيا من بين المدن المقرر زيارتها، وبسبب تعلقي بهذه المدينة نتيجة ميلي للتراث والفن الإسلامي والأديان بشكل عام وللتصوف بشكل خاص، فقد ارتسمت على روحي فرحة كبيرة، لأنني سأحضى بالدخول إلى "الحكمة المبجلة" آيا صوفيا، وبأنني سأحضى أيضا بمشاهدة طقوس الرقص الصوفي عن قرب، والتي يتم تقديمها في العديد من الحمامات والنوادي الثقافية والمتاحف داخل اسطنبول.


Image result for hodjapasha
 عرض للرقص الصوفي في الـ "hodjapasha"

لم يكتمل فرحي بزيارة تركيا لأنني لم أحضى بالدخول إلى آيا صوفيا بالرغم من اقترابي من المكان مرتين، في اليوم الأول كان الطابور يصل إلى الخارج فقررنا تأجيل الزيارة إلى اليوم الذي نزور فيه "مركز الحاج باشا الثقافي" الواقع بالقرب من المبنى والذي ويوفر للزوار أوقات لا تُنسى مع الدراويش الصوفيين لمشاهدة الرقصة الأولى المعبرة عن الإتصال بين الإنسان والله في تاريخ الإسلام، ولسوء الحظ كان اليوم المنشود هو آخر يوم لنا قبل ان تقلنا الطائرة إلى مكان آخر، واغلقت آيا صوفيا أبوابها قبل أن نصل حيث يمنع استقبال الزوار بعد الرابعة، وإلى هذا اليوم وأنا أتوق لزيارة المدينة من جديد لأحضى بالدخول لأهم معلم تاريخي فيها.



فيما يتعلق بالعمران فإنك لن تجد ذلك التعارض بين الشرق والغرب بالقدر الذي تجده في السياسة، فالكاتدرائيات والمساجد متشابهة إلى حد كبير. من الأعلى يبدو المسجد الأزرق الذي يستمد أسمه من بلاط البحر الأزرق المُستعمل لجدرانه مشابها للآيا صوفيا، وقد تجد الكثير من المباني في أوربا الجنوبية تتشابه مع هذين المبنيين، وذلك يعود للفترة التي حكم العثمانيون فيها أجزاءً من أوربا وساهموا في إعمارها، وبالتحديد في القرن السادس عشر، الذي كان فيه سنان المعماري مؤثرا في العمران وفاعلاً فيه، وللأخير ومدرسته دوراً في إضفاء الطابع الإسلامي على آيا صوفيا.



Image result for hagia sophia interior
آيا صوفيا من الداخل

بُنِيَ معبد الحكمة الذهبي في الأساس عام ٥٣٧م ، وظلّت كاتدرائية أرثذوكسية شرقية إلى عام ١٢٠٤م، حتى قام الدوق الإيطالي انريكوا داندولو خلال الحملة الصليبية الرابعة بالإستيلاء على المدينة وتحويلها إلى كنيسة كاثوليكية، لاحقا وفي القرن الخامس، بعد سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني تم تحويلها إلى مسجد، وبقيت دار عبادة إسلامية حتى العام ١٩٣٥م بعدما تمت علمنة تركيا على يد كمال أتاتورك ومن ثم تم تحويل المبنى إلى متحف، وقد قام.مجموعة من المصلين المسلمين يوم السبت ٢٨ مايو ٢٠١٦ بآداء صلاة العشاء حول محيط المبنى مطالبين بإعادته إلى مسجد، لكن ذلك ربما يساهم في إعادة صباغة الرسوم المسيحية بالأبيض كما فُعل بعد فتح القسطنطينية، او ربما يتم إزالتها بالكامل هذه المرة ليكون المتحف مهيئا للصلاة بداخله.

Image result for hagia sophia jesus
"الله" بالخط العربي مع رسم متخيل لمريم العذراء والمسيح

من الأشياء التي تجعلني منشداً لزيارة المبنى أنه بقي رغم كل هذه السنين من الحروب والدماء معبراً عن الخيال الفني الممزوج بالخيال الديني؛ ليعطينا جمالاً يقارب بقدر ما يمايز بين المسيحية والإسلام، ففي الداخل يمكنك أن تصلي ليسوع أمام وجهه البريء، ويمكنك ان تصرخ مذهولا يا الله أو تصلي على النبي محمد ولكن هذه المرة ليس هناك وجوه بل خطوط، ففي المسيحية تجسدت الكلمة التي كانت في البدء ولهذا يفضل الفن المسيحي الرسم والتجسيد الدقيق ليسوع، ولا يوجد تحسس أو قوانين لمعاقبة من يقوم برسم صور متخيلة لله أو للعالم الآخر بل لا تعتبر اللوحات ورسمها إساءة بقدر ما هو تكريم، فقد قامت الكثير من الكنائس باستدعاء مايكل أنجلو للرسم داخلها، أما لوحة الجحيم لبوتشللي فقد قدمت تصوراً عينياً للعذاب الأخروي وساهمت في إقبال الكثيرين على الكنيسة للتكفير عن خطاياهم، ونتساءل لو كان مايكل أنجلو مسلماً وقام بنحت تمثال داوود العاري فهل سيفلت من العقاب؟ هكذا ربما يتمايز الفن الإسلامي عن المسيحي بأن الأول أبدع في الأشكال  والخطوط وأحبها والثاني يحب الوجوه أكثر، وربما لهذا السبب أطلق عليه "آيا صوفيا" أي الحكمة المبجلة، لأنه مكان صارت فيه النقائض واحدة في الوجود.

وللتنويه المهم فإن الكثير من المؤرخين قد أرخوا للملوك، فالتاريخ ليس هو تاريخ الملوك وإنما تاريخ الملوك، والأمم بصورة أكبر فبهم تنهض الحياة، وبهم تُعَمَّر الأرض وهم الفاعلين الحقيقيين فيها، كثيرا ما سترى عند القراءة عن آيا صوفيا أنها بنيت في عهد الإمبراطور جوستنيان الأول فيغيب المُعَمِّر كما يغيب الإسم الفعلي لمن أبدعت يده البناء. آيا صوفيا بنيت على يد المعماريان أنثيموس وإسيدوروس في منتصف القرن السادس، وتم ترميمه على يد المهندس سنان المعماري في القرن السادس عشر ليبقى الفن في العمران رمزا خالداً معبراً عن تاريخ طويل من الصراع بين الأضداد، حاملاً وحده لرموز التاريخ المتناقض، جامعاً له، وبهذا تكمن عظمة المهمة التي تقع على عاتق المهتمين بالتراث الفني والمعماري مانعين تضاريس الحياة، وتحولات المناخ من أن تزيله وتُذهبه مع الرياح.




ــــــــــــــــــ

المصادر:

  • إعادة إكتشاف العثمانيين، إيلبير أورتايلي: يعتبر أورتايلي مؤرخ عسكري، وبوصفه كذلك كان يبرر في كتابه الكثير من ممارسات الدولة العثمانية، منها سياسة التجنيد الإجباري السيئة حتى للأطفال.
  • الجحيم، دان براون: تحتوي الرواية على العديد من المعلومات التاريخيه، خصوصا ما يرتبط بالعمران والفن الكلاسيكي. ويمكنها أن تكون دليلاً سياحياً أيضا للكثير من معالم مدينتي فلورنسا والبندقية الإيطاليتين.



الجمعة، 30 سبتمبر 2016

لماذا أُغتيلَ "ناهض حتر" المسيحي اليساري الذي دافع عن الإسلام؟




في يوم الأحد الموافق ٢٥ سبتمبر ٢٠١٦ أُغتيل الكاتب الأردني ناهض حتر أمام قصر العدل بالعاصمة الأردنية عَمّان بسبب كاريكاتور اعتُبِرَ بأنه يسيء للذات الإلهية، وبلغة الرصاص البارد ذاتها التي أُغتيل بها الشهيد المفكر اللبناني حسين مروّة في شقته، والشهيد مهدي عامل في الشارع الوطني في بيروت؛ لتؤكد لنا هذه اللغة بأن ذاتها الإلهية ضيقة ومتضخمة وضد الإنسان، ولا تعني ذاتهم تلك شيئا للغة الذات الإلهية الرحيمة المنزهة عن كل فعل دموي قابض بالحديد والنار على لغة العقل وحريته، وذاتهم تلك لشبيهة بالذات الأميرية السلطوية، لها العرش الذي لا يمس، وإن حق واقتربت منه توأد حياً، تُكبل، أو تُشنق.

لم يكن من المخطط كتابه هذه المقالة ونشرها؛ إلا أن ردود الفعل السلبية في كثير من وسائل التواصل الإجتماعي، والأخرى التي نصادفها يومياً من الآراء المؤيدة لإعدام ناهض دفعتني للكتابة، كما أنها تبين بأن المؤيدين لمثل هذا الفعل كما قال ناهض حتر في رده على من لم يفهم رسمه الكاريكاتوري نوعان: (أناس طيبون لم يفهموا المقصود بأنه سخرية من الإرهابيين وتنزيه للذات الإلهية، وآخرون إخونج داعشيون يحملون الخيال المريض نفسه لعلاقة الإنسان بالذات الإلهية)... فالذات الإلهية لم تُمس ولا تُمس، إنما هو مسَّ ذاتهم التكفيرية الشهوانية، التي تنتهي قدسيتها بالظفر بالجنة وخمرها وحورياتها ولذائذها الحسية، ولهذا لم يردوا على ناهض بذات لغة الفكر والعقل إنما بالرصاص الذي تبيحه ذاتهم تلك، وهذا هو الفرق بين ذاتهم  الإلهية والذات الإلهية المنزهة التي تحترم كرامة الإنسان، ولهذا قال ناهض في مقابلة له على قناة "OTV": (اليوم لا يوجد إسلام واحد، هناك إسلام دمشقي، وصوفي، وسلفي غير جهادي، و إسلام وهابي تأسس مع الدولة السعودية) فبالنسبة لنهاض لا يمكن أن نساوي بين الإسلام الصوفي الذي يقول فيه ابن عربي: بأن الحق في هدم النشأة لا يحق إلا لله، ويحرم قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وبين الإسلام السلفي التكفيري الجهادي الذي ينصب نفسه على عرش الله ويسفك الدماء.

كان ناهض يساريَ الفكر، مسيحيَ الولادة، قومياً-علمانياً في السياسة، هكذا وصف نفسه على مقالة نشرت له في العام ٢٠١٢ على موقع "ساتل" بعنوان "انتصارا لرمزنا القومي". لم يمنعه كل ذلك من أن يكون أول المدافعين عن النبي محمد ضد كيل الإساءات وأن يقرأ شخصيته في سياقها التاريخي، قائلا: (ولدت في عائلة مسيحية، وأنا ماركسي في الفكر، وقومي علماني في السياسة، وبسبب كل ذلك –ليس برغمة- تجرحني الإساءة للرسول) وأضاف أيضا..: (ليس قساً أمريكياً صهيونياً أو مجرد جمع متطرف من يرتكب ذلك العدوان على رمز أمتنا، بل هو تيار عريض من الغرب عامةً، وفي الولايات المتحدة خاصة، يعبر عن انحطاط الإمبريالية الأمريكية الروحي والثقافي والفكري). وأضيف أنا إلى جانب ذلك تيار عريض من المثقفين الغرباويين العرب  الذين سَخَّروا جل كتاباتهم من أجل ترسيخ فكرة الكراهية والحقد وإبعاد الناس عن جذورهم الثقافية المتعلقة بالتاريخ العربي الإسلامي والإشادة بكل ما هو غربي ففي كل تراث وثقافة هناك الغث والسمين، ويخلطون بين الثقافة الحديثة التي هي نتاج الإنسانية جمعاء وبين الثقافة الغربية الإمبريالية الوحشية منذ المدرج الروماني وحتى حروب الإبادة ضد السكان الأصليين للقارة الامريكية.


لماذا أغتيل ناهض حتر؟... يقال: (أينما وجدت مثقفاً مضطهداً فابحث عن سبب اضطهاده في السياسة لا في الفكر الخالص). فمن حرض على قتل ناهض يعرف توجهه السياسي جيداً، ففي بقعة يتعذر فيها أن نجد صوتاً، كان الوحيد ربما الذي قدم إعتذار للشعب البحريني في العام ٢٠١١ لأنه أردني أولاً وعربي ثانياً، ووجه نقداً لاذعا للحركة الوطنية الأردنية التي  لم تفعل شيئاً ذا بال حسب قوله، وكان معارضاً صلبا ضد تطبيع العلاقات العرب-إسرائيلة في الكثير من كتاباته منذ تواطؤ السادات ١٩٧٧م وحتى الحرب على سوريا اليوم... هذا هو السبب في اغتيال ناهض وهو السبب نفسه لاغتيال مهدي عامل والسبب نفسه في بقاء الكثير من اعوان الظلمة ممن يسيئون فِعلاً للذات الإلهية من داخل الإسلام وخارجه لا يمسهم الرصاص، ولا قوانين الإعدام. سلام لروح ناهض الإنسان الإنسان، وتقبله الله شهيداً.

الخميس، 22 سبتمبر 2016

المراثي والمآتم في التاريخ

"حلقات اللطم" لوحة فنية للمستشار السابق لحكومة البحرين: تشارلز بلغريف


ترجم الصينيون مصطلح رجعي إلى "فان دونغ" أي ضد الحركة. ولا يعني ذلك عدم العودة إلى الماضي. لأن الماضي هو تاريخ زاخر من صراع القيم المشاعية ضد قيم العبودية والإقطاع. من هنا تستلهم شعوب العالم من حكماء المشاعية وثوارها الإنسانيين قيمها ضد التسلط الإقطاعي والرأسمالي. فدمج الصينيون قيم الاشتراكية مع تراثهم الذي يحتوي على حكمة التاو العريقة، وطبع الهنود على عملاتهم صورة المهاتما غاندي، كما تحيي شعوب العالم ذكرى أبطالها التاريخيين، فالمقدس بالنسبة لقراءتنا للماضي ليس الأسماء ولا الأشخاص، وإنما القضية والثوابت المبدئية.

من هذا المنطلق يمكننا أن ننتقي من تراثنا ليس كما ينتقي الفرد العقائدي، وإنما ننتقي ما يساهم في صناعة حاضرنا وتوسيع مداركنا، وما يساهم أيضا في ترسيخ القيم الإنسانية المناهضة للظلم، ففي مقابل ثورة الحسين نجد ثورة شبيب الخارجي وأمه غزالة حيث قادا أطول حرب عصابات في تاريخ الإسلام، ومأساة شبيب مشابهة لمأساة الحسين إلا أنها لم تحضَ بنفس الوهج الإعلامي. ونجد في الأمويين الخليفة يزيد الناقص الذي نقّصَ من رواتب الجنود بغية ترسيخ قيم العدل وإلغاء القيم البوليسية، وقام بإسقاط الجزية عن الذميين، إضافة لذلك لم يتخذ لنفسه قصراً، ويرجح البعض أنه قُتل مسموماً من قِبل عائلته التي خرج عن سياساتها. ومن الأمويين أيضاً عمر بن عبدالعزيز الذي قرّب المعارضين منه وحاول الإصلاح بين الطوائف المختلفة، وفي العلويين زيد بن علي، أما في المثقفين من فلاسفة وشعراء، فنستشهد بالمعري الشاعر والفيلسوف الثائر على كل شيء، وكذلك الشاعر بشار بن برد الذي كان والده أحد ضحايا السبي جراء الفتوحات الإسلامية في طخارستان، وفي المتصوفة الحلاج المصلوب. 

في مجتمعنا البحريني تُقام في بداية كل عام هجري ذكرى يوم عاشوراء الحسين، وتُستذكر بطولاته التاريخية في المراثي والمآتم التي يشارك فيها جاليات من مختلف الأعراق، أو على شكل احتفالات شعرية، أو على طريقة اللطم والعزاء، وفي العصر الحديث دخل الفن التشكيلي والرسم ضمن الفعاليات التي تُقام في العاصمة المنامة، و كذلك تُقام مسابقات في فن التصوير الفوتوغرافي. فكيف بدأ هذا الأحياء وبأي شكل؟ وهل كل تلك الأشكال نتجت مرة واحدة أم لكل منها جذره وتاريخه المختلف؟

أثارت مأساة الحسين وما تخللها من بطولات شجون ومشاعر الشعراء، فكان الشعر هو أول وسيلة من قِبل مواليه عبروا فيها عن حزنهم وعواطفهم، ولعل أول من نظم مرثية حسينية في التاريخ هو تابعي معاصر للحدث يدعى (خالد بن غفران) من أهل دمشق، وقد توارى عن الأنظار عند وصول رأس الحسين، وسألوه عن السبب فقال: أما ترون ما حلّ بنا؟ وأنشدهم تلك الأبيات. ورويت مرثية صغيرة لرجل يدعى سليمان بن قُتَّة وُصف بأنه من موالي بني هاشم. والرجلان ليسا من الشعراء.

أما أول شاعر رثى الحسين فهو (الكميت بن زيد الأسدي) من قبيلة بني أسد المعروفة بموالاتها لأهل البيت، وهو المولود في العام الذي حدثت فيه واقعة عاشوراء، وقد كرر رثاء الحسين في هاشمياته ليُعرف كواحد من أكبر الشعراء في هذا المجال. وبعد سقوط الأمويين دشن السيد الحميري تاريخ المراثي الحسينية المتوارثة، على أن الكثير من المراثي بقيت على شكل رثاء عام لأهل البيت بدءاً من علي، ثم بدأت المراثي المطولة المخصصة للحسين وأقدم غرار لهذا الصنف قد يكون مراثي الشريف الرضي، التي تميزت بإحساس شديد بالفجعية تبين انتماء الأخير للحسين كإمام وجد.

في أواخر العصر العثماني اتّخذ الشعر شكل مبارزة سنوية تنعقد في المحرم ولا يسع أي شاعر التخلف عنها، على أنها لم تكن دائما مجرد ارتباط بالفاجعة، حيث أخذ الشعر الحسيني في القرن العشرين وصعود الاحتجاجات ذات الطابع الوطني أو الإسلامي دور المحرض للنهوض الممزوج بالفاجعة والبطولة. ويخفت هذا التقليد ويشتد حسب الظروف السياسية ولم يفلت منه حتى الشاعر الوطني الكبير محمد مهدي الجواهري الذي نظم قصيدة هي من أروع ما أنتج الشعر المعاصر في حق الحسين، وهو يخلده هنا كرمز للثورة والبطولة بخلاف قصيدة المديح في علي بن ابي طالب لغازي حداد التي يختلط فيها الافتخار بالأصول القبلية مع النزعة الطائفية. وهنا بالتأكيد تلعب ثقافة الشاعر ومشروعه الحاضر بين الوطنية والطائفية دوراً بارزاً.

وفي مجال المسرحية ألّف عبدالرحمن الشرقاوي مسرحيتين شعريتين بعنوان الحسين شهيداً و أخرى الحسين ثائراً، وفي غير العرب ألّف الشاعر الألباني نعيم فراشري ملحمة شعرية من عشرة آلاف بيت، وقد تم بعد ذلك توضيف الأدب في المسرح، حيث  تقام سنويًا في العراق والبحرين وعموم المناطق التي يتواجد فيها الشيعة احتفالات داخل المجالس وفي الساحات تقوم بإعادة المشهد على شكل مسرحي،  من المشهود ايضا له أن هناك أعلام معاصرة من الطائفة السنية الكريمة قد خصصت محاضرات في أحد أعوام عاشوراء تتعلق بالحسين أمثال د. عدنان إبراهيم وهو شافعي المذهب، وفي لبنان يخرج المسيحيون في الباحات ليحيون هذه المناسبة التي تتشابه مأساتها مع مأساة النبي المصلوب.

تعود مجالس التعزية إلى عهد طويل يرجعه المؤرخ العراقي هادي العلوي إلى القرن الرابع الهجري. وقد أمتدّ التقليد في العصر العثماني من مبارزة شعرية تقام في العاشر من محرم إلى احتفاءات من اليوم الأول في بداية العام الهجري حتى خمسين يوماً "٢٠ صفر" ويسمى هذا اليوم: "مرد الرأس".

ظهرت بعد ذلك شعائر اللطم في الساحات العامة والباحات أو قاعات المساجد والحسينيات. ويتولّاها حادي يُسمى رادود، يردّد عبارات قصيرة موزونة تسمى ردة ويلطم الجمهور على إيقاعها، وقد أرجع عبدالكريم إسماعيل في كتابه "شعائر الصورة" أول موكب لطم موحَّد يخرج من المأتم إلى الساحة في البحرين إلى العام ١٨٩١م، ويكون اللاطم أحياناً مكشوف الصدر حتى تؤثر اللطمة في جلده، وللمبالغة في الإيلام تستعمل زناجيل يضرب بها الظهر عارياً وفي مشاهد أكثر إيلاماً تستعمل قامات (سيوف) تُضرب بمقدمة الرأس وتحدث فيه جروح تكون أحياناً عميقة وتؤدي للوفاة، ولا يوافق معظم فقهاء الطائفة الشيعية على تلك الطقوس لكن الجمهور يؤديها بحكم العادة، وتعود بدايات شعائر التطبير في البحرين حسب الدلائل المتوافرة إلى عام ١٩٠٧م، إذ كان جزءاً من عزاء مأتم العجم، وفي سنة ١٩٣٧م بدأت القنصلية البريطانية بإصدار شهادة للأجانب تبيح لهم اقتناء الأسلحة في البحرين، وكان المأتم يتبع نظاماٌ في توزيع السيوف بحيث كانت تُعطى للمعزين في يوم العاشر وتُسترجع من عندهم لتحفظ بعد الانتهاء وتنظيفها جيداً. ويعود أيضا إدخال الموسيقى في شعائر العزاء البحريني إلى مأتم العجم في العام ١٩٣٠م، وأبرز الآلات كانت الطبل والمزمار، وكان العازفون يلتزمون بزي موحد، وتقام التدريبات قبل الموسم بأسابيع.

أما الفنون التشكلية والرسم فقد بدأت ضمن فعاليات جمعية المرسم الحسيني للفنون الإسلامية عام ٢٠٠١م، والتي ستطفئ شمعتها السادسة عشر هذا العام، ومن بعدها ظهرت مسابقات سنوية أخرى في فن التصوير الفوتوغرافي الحسيني.

وهكذا فإن الشعائر والتقاليد لا تنبثق مرة واحدة وإنما لها جذرها وتاريخها، وهي تتسع وتختلف وتتمايز بقدر اتساع رقعة الفكر وامتازجه بثقافات الشعوب المختلفة ووسائلها. وقد رأينا هنا كيف تطورت الشعائر من الشعر والرثاء إلى المأتم ، ثم اللطم والعزاء والمسرح، ثم الفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي.

ــــــــــــــــــــ
مصادر:
- شخصيات غير قلقة في الإسلام، هادي العلوي، فصل الحسين في كربلا: المآتم والمراثي
- شعائر الصورة، عبدالكريم إسماعيل

الجمعة، 26 أغسطس 2016

التصوف: نقيض التكفير منذ بواكير الإسلام


ربما أمكن لنا من خلال معرفة التصوف نقض قاعدة الكاتب الإماراتي "ياسر حارب": (الأديان أعظم من معتنقيها) لأن هنالك أفراد قد يعتنقون فكراً ما؛ فيروحنونه ويؤنسنون علاقته مع الوجود، بينما يعتنق أفراد آخرون الفكر ذاته فيُسيئون له ويجعلونه أكثر ظلامية. ويبقى الفِكر/الدين ونصهُ وسطاً يحمل أوجه، وهو الحالة النفس-إجتماعية للظروف التاريخية للفئة المتحدثة بإسمه، وكما يقول شكسبير: "في وسع الشيطان أن يستعين بالكتاب المقدس لتنفيذ مآربه"، وحسب مقولة شكسبير فإن المقدس لا يوجد في النص بقدر وجوده في الذات الإنسانية القادرة على تأويل النص تأويلاً قيمياً إنسانياً رفيعاً، في مواجهة تدنيس النص/الفكر وقدرة الذات التكفيرية الآخرى على تأويله تأويلاً ضيقاً ذاتياً طائفياً تكفيرياً.

كان أول من جمع بين الماركسية والتصوف هو المفكر العراقي الراحل هادي العلوي، حيث كان مهتماً بالحضارة الصينية أيضاً، فأضاف لكتابه "مدارات صوفية" حكمة التاو، ليقدم لنا فكرة جديدة تجمع بين ثلاثة محاور: الماركسية-التصوف الإسلامي-التاو. وبالرغم من التنافر المعرفي بين مادية ماركس وروحانية الإشراق الصوفي، يبدو لنا أن مشروع الجمع بين المحاور الثلاثة عند العلوي كان يعول على الموقف الوجداني المشترك في معاداة أهل الدولة والأغنياء من أهل المال وأصدقائهم الذين يعادون ضعاف الخلق، فالموقف الوجداني هنا يعني حب الخلق وتحريرهم من الحدود الضيقة التي تسعى لتمييز أفراد النوع الإنساني عن الآخرين، وهنا أيضا يكمن عداء أهل التصوف للحقائق المطلقة، وإستبدالها بالمجهول المطلق القابل لكل الأشكال والمعتقدات واللغات والأعراق.


المواقف الإجتماعية: "فتشت الأعمال كلها، فما وجدت أفضل من إطعام الطعام، وددت لو أن الدنيا بيدي لأطعمتها للجياع" - عبد القادر الجيلي


يُذكَر أنه عندما انتصرت الثورة البلشفية امتنع لينين عن اتخاذ الأدوية اللازمة لحالته الصحية في سبيل توفير طعام لازم للشعب الروسي، وهذا يذكرنا بقصة القطب الصوفي عبدالقادر الجيلي حيث "يُحكى أن أحد مريدي القطب الصوفي عبدالقادر الجيلي رأى شيخه يشتري دجاجة محمصة، وخبزاً ومقبلات، فهالهُ ما رأى: أيجوز من شيخنا أن يأكل من هذا ونحن لا ندري؟! فتبعه من حيث لا يشعر، حتى انتهى إلى منزل فدق بابه فخرجت إمرأة عليها سيماء الفقر فدفع الدجاجة إليها وعاد من حيث أتى. فعلم المريد أن الشيخ لم يشتري الدجاجة لنفسه"
هناك مباحات في الشريعة الإسلامية، مثل: "إتخاذ الجواري والعبيد مع تقنين العلاقة بين العبد والسيد، أكل لحوم الحيوانات مع تهذيب طريقة الذبح، تعدد الزوجات مع شرط العدل" إلا أن مجمل أقطاب التصوف حرموا على أنفسهم تلك المباحات كإلتزامات شخصية، فلم يتخذو الجواري والعبيد بحكم أن لا سلطة لإنسان على إنسان آخر، فالذلة تحق لله وحده. لم يأكلوا اللحوم وكانوا أقدم من عارض قوانين الإعدام بصفة أن الحق في هدم النشأة لله وحده ولا يجوز للبشر، وحرموا على أنفسهم التسري (تعدد الزوجات) وكان منهم من لم يتزوج على طريقة يسوع (عيسى بن مريم)، أما من يتزوج فعليه أن يلتزم بزوجة واحدة.


نظرية المعرفة في سبيل حرية الإعتقاد: "لون الماء لون إنائه" - الجنيد البغدادي


هل يمكن أن نضع المحيط في كأس من الماء؟! بشكل آخر يمكننا أن نختصر نظرية المعرفة الصوفية في العبارة التالية: (المحدود لا يحتوي اللامحدود، والواحد يتضمن الكثرة). المحدود هنا هي الحقائق البشرية التي تدخل قلب المؤمن لمحدوديته، فالمعتقدات كلها محدودة ولما كان قلب الإنسان محدوداً انعقد على الإيمان بها. أما الحقيقة/الإله الحق: فهو المجهول أبداً لأنه فوق العقل البشري المحدود. وإقرار الإنسان بحقيقة جهله هو الطريق الأول لتحرير العقل من التعصب المذهبي والغرور العقائدي، فيتأله الإنسان هنا ويصبح الواحد الذي يتضمن الكثرة.

- سمع الشبلي قائلا يقول: "أُسائل عن سلمى، فهل من مخبرٍ/ يكون له علمٌ بها اين تنزلُ؟ فصاح وقال: لا والله ما في الدارين مخبرٌ عنه. وسلمى كناية عن الله/الحق. المتصوفة دائما ما يستخدمون الإستعارات والمجاز للتعبير عن آرائهم نتيجة ملاحقة أهل الدولة والدين لهم بصفتهم زنادقة إلا أنهم كانوا من الإيمان ما يجعلهم مستعدون للموت ولقاء المحبوب، ويُذكر أن الحلاج كان يضحك وهو يردد نشيده الآخير مصلوباً على خشبة المقتدر العباسي عام 309هـ.

- في عوارف المعارف سُئل الجنيد عن النهاية فقال: هي الرجوع إلى البداية. المعرفة هنا تختلط باللامعرفة والطريق إلى العلم هو اللاعلم. ففي بداية أمره كان في الجهل، ثم وصل إلى المعرفة، ثم رد إلى التحير والجهل. ولهذا قال "لون الماء لون إنائه" والماء هنا هو الذات الإلهية والإناء هو المعرفة الإلهية، والماء لا لون له إنما يتلون بلون الإناء، فإذا كان الإناء/المعرفة أسوداً أصبح الماء أسود، وإذا كان أبيضاً إتخذ الماء/الذات الإلهية لون البياض، أما إذا كان شفافاً فإنه يصبح والماء شيئا واحداً "يتألّه". يتضمن الكثرة ويستقبل كافة الألوان. هذه هي الحالة الصوفية، ولهذا كان على هذه المعرفة ان تقف بطبيعتها في وجه التكفير، الأحادية الفكرية، اللون الواحد للحقيقة، وتُطارد وتُلاحق من قِبل أصحاب الشكل الواحد الذي لا يستقبل الا ما هو داخل إنائه.

- يقول السهروردي المقتول: "رقّ الدنان ورقّت الخمرُ*فتشابها فتشاكل الأمرُ - فكأنها خمرٌ ولا قدحٌ*وكأنما قدحٌ ولا خمرُ"


بين العلمية والغيبية الصوفية


حسب قول الروائي الروسي دوستويفسكي: "إن الأفكار العظيمة إلى حد ما هي ثمرة قلب كبير وليست نتيجة ذكاء كبير" من هنا يمكننا قراءة التصوف والإهتمام به كمعرفة وجدانية تقوم على تهذيب النفس، فالتصوف ليس فكراً علمياً، بل ليس لديه القدرة على تطوير الواقع العلمي شيء، وقد لا يعطي في ذلك إلا المخاريق والغيبيات. إلا أنه يستطيع من خلال تسفيهه لمحدودية العلم أن يهدي غروره إلى لامحدودية ولانهائية الروح الإنساني. فالعلمي قد يزدري التصوف بصفته وهم، ولكن التصوف في وهمه استطاع أن يقبل العلمي بصفته طالب حقيقة، ومفارقة دوستويفسكي هنا تدعونا لإعادة النظر في الأدب الرومانسي للأوربيين الذين إلتحموا مع روحانية الشرق من أمثال غوته وتولستوي. فبالرغم من أن العقل البشري أستطاع بذكائه أن يكتشف الطاقة المتجددة وعلم الذرة، إلا أنه لا يزال متعلقاً بالقلب الحجري البدائي الذي لايزال يوظف العقل في سبيل الكراهية والحروب والفتك بالأمم. علينا إعادة إحياء التصوف كفكر إسلامي ينتمي لتراثنا؛ لو كان يُدرّس هذا الفكر في المدارس بدل تدريس التمذهب والأحقاد والكراهية لكان قادراً على أن يكون علاجاً لمحدودية الفكر الإنساني وغروره، فهو الطريق إلى روحنة العقل المتأدلج واعادته إلى الروح اللامحدود، الكوني، المطلق.

الأحد، 17 يوليو 2016

في مشكلة الخلافة / قراءات في النزعات

قراءة في الجذور الإجتماعية للحركات السياسية الإسلامية وتطورها الفكري بعد وفاة النبي





ساهمت الثورة الإسلامية بقيادة النبي محمد، والتي سماها المفكر الشهيد حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية بـ "الثورة التقدمية"؛ وذلك لما تحمل من أهداف تسعى لنقل الرقعة العربية أنذاك من مجتمع القبيلة وإنقساماته الوثنية التعددية؛ إلى مجتمع موحّد. من هنا جاءت فكرة التوحيد أيضا، والتي مهد لها الحنفاء قبل الإسلام، فالتوحيد ليس مجرد شعار ديني، بل هو في مضمونه الإجتماعي التاريخي يعني وجود سلطة مركزية موحّدة تسعى لضمّ القبائل تحت رايتها، ونقلها من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة، أو الإمبراطورية، بما يحمل هذا الشكل من تغيرات جديدة على المستوى الإجتماعي، الإقتصادي، السياسي، والفكري.


القراءة التاريخية والقراءة الإيمانية


لا بد لنا أن نخرج من هذا الكتاب ونحن قادرين على أن نفرق عند القراءة لأي مؤرخ آخر بين القراءة التاريخية والقراءة الإيمانية، وبين القراءة التي تحمل مشاعر الكره أو الحب، وبين القراءة الموضوعية المتحررة من كل ذلك. فالكل من حقه أن يقرأ التاريخ بما يتوافق مع مصلحته في هذا الحاضر الذي يعيشه؛ ويبقى الحكم في نهاية الأمر لعقل القارئ وميزانه، فالقراءة الإيمانية هي التي تجعل من المتن هامشاً، وتجعل القراءة التاريخية من الهامش هناك متناً هنا، ما هو المتن هنا وما هو الهامش هناك؟

المتن في القراءة الإيمانية هو المقدس "الديني - الآيدلوجي - العقائدي" فهو مصدر الصراع وأساسه بين الحق والباطل، بينما يبقى الهامش هو الجذر التاريخي الذي تسير فيه حركة الفكر مهما كان مقدساً أو غير مقدس، ويصبح المقدس (القرآن والسنة مثلاً) الذي يعود لحدث تاريخي جزئي متطابقاً على جميع العموميات وصالحا لجميع الأزمنة والأماكن. أما القراءة التاريخية تجعل من المتن هناك هامشاً حين هي تقوم بتعرية حجاب المقدس، وتعمل على كشف الجذور التاريخية للفكر-النص-، ولا خصوصية أو إستثناء للإسلام أو للشعر الجاهلي، أو للنتاج الفكري الذي أنتجه المتكلمون من معتزلة وأشاعرة وغيرهم، وإن كان يأخذ بطبيعته مع مرور الوقت شكل الصراع الفكري، لكنه في باطنه لا يستطيع ان يتخلص من جذور الصراع الأولى، فيختلط  حاضر الإنسان ليصبح الدفاع عن؛ أو إستعادة الحق الإلهي أو الشورى الإسلامية اللذان جاءا في ظروف تاريخية محددة؛ هما الأولوية في مواجهة الباطل، ليختلط بأسم المقدس الأسود بالأبيض في الصراع الحاضر.

القراءة التاريخية بخلاف القراءة الإيمانية لا ترى الصراع التاريخي هو صراع بين الحق الإلهي والباطل الشيطاني، إنما هو صراع بين حق وحق، حق القبيلة مثلا، ومصالحها، وحق الثائرين عليها. حق الطبقة الإجتماعية تلك، وحق المناوئين لها. وإن كان لكلا الحقين ان يطغي على أحدهما السلب أو الإيجاب في حركة التاريخ، لكنه منها تأتي لغة الدفاع لتتخذ شكلها الفكري. ولا يمكننا معرفة سلبيات وإجابيات أي حركة تاريخية فكرية-إجتماعية إلا بالرجوع للواقع الذي تثور عليه أو تحاول تغييره، وتحرير العقل من النظر إليها نظرة الإعجاب أو الكره. فالصراع لا يأخذ شكلاً شخصانياً، وإنما هو الشكل الموضوعي لحركة التاريخ حتى لو تغيرت تلك الأسماء والشخصيات.


الإسلام: حربٌ على جبهتين!


يمكننا القول بأن الإسلام جاء في البداية ليحارب على جبهتين: "جبهة القبيلة وصراعاتها الإنقسامية الجاهلية، ويمثله من ناحية الفكر (الوثنية) وتعدديتها الإلهية" ومن هنا جاءت الكثير من الآيات التي تحث على الإعتصام بحبل الله وعدم الفرقة. فحرب الإسلام على الوثنية ليست حربا ضد الأصنام لذاتها، وإنما لما تمثله تلك التعدديات الإلهية من إنقسامات قبيلة هي في جوهرها سلبية وضد مشروع التقدم التاريخي للتوحيد الإسلامي وبناء الدولة العربية أنذاك. أما الجبهة الأخرى فهي جبهة الصراع ضد ظاهرة التمايز الطبقي: "الذي جعل من مكة والقبائل المجاورة لها منقسمة في داخلها إلى فئات فقيرة وفئات غنية" بعد أن قام العرب بتأسيس خط للتجارة يصل بين الساسانيين في الشرق والبيزنطيين في الشمال والأحباش جنوباً والذي سمي بـ "خط العطور" والذي يتمركز في مكة، خصوصا مواسم الحج الجاهلي. وقد جاء الإسلام أساساً على أنقاض ثورات فكرية وإجتماعية؛ حيث كان الحنفاء الموحدون يخوضون الصراع ضد التعددية الوثنية من الجانب الفكري، والذين لم يكونوا هودا ولا نصارى كما وصفهم القرآن، إنما جماعة من الناس يتأملون في وحدانية الخالق والكون والإنسان: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين". أما الصعاليك وغيرهم فيمثلون جبهة الصراع الإجتماعي ضد الطبقية، فهم جماعة من الفقراء غير المستفيدين  داخل قبائلهم؛ إنسلخوا عنها منزوين عن جماعتهم القبلية إلى الواحات، حيث كانت مهمتهم السلب من الأغنياء وقوافل الأغنياء. ويبدو هنا جليا أن الإسلام جاء ليكلل جهود تلك الثورات الفكرية-الإجتماعية حيث جاء في بدايته داعياً لتحريم كنز المال وأن يتكافل المسلمون فيما بينهم: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، إلا أنه سرعان ما نسخت أيه تحريم الكنز بآيه الزكاة بعد فتح مكة، التي أحلت لوجهاء قريش كنز المال مقابل تزكيته بنسبة قليلة منه، وهذا النسخ في التشريع واحد من نتائج نسخ التشريعات نتيجة لتغير الظروف الإجتماعية والمصلحة التاريخية لحركة الإسلام.


في مشكلة الخلافة


بالرغم من أن الإسلام جاء محارباً للتمايز الطبقي، إلا أنه كان واضحا بأن النبي محمد كان يفضّل المهاجرين على الأنصار في توزيع غنائم الحرب وتقسيم الثروة والمناصب السياسة ايضا، فالمهاجرون هم أوائل الداخلين في الإسلام والذين هاجروا من مكة مع النبي وعانوا ما عاناه داخل أسوارها. أما الأنصار فهم الذين إستقبلوا النبي في المدينة.

ما إن مات النبي سنة ٦٦١م حتى تنبهت تلك النوازع المكبوتة بين المهاجرين والأنصار، وقبل أن يشيع جثمان النبي إلى مثواه الأخير؛ صار كل فريق يريد أن تكون له سلطة الخلافة بعد النبي، وأن تكون له القيادة الفعلية لهذه السلطة.
في ذات الوقت أيضا برزت نوازع الإنقسام بين المهاجرين أنفسهم، وتنبهت رواسب القبلية الجاهلية بين بني هاشم الذين ينتمي لهم النبي محمد، وصهره وابن عمه علي بن ابي طالب. وبين بني عبد شمس وتميم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي لهم سائر المهاجرين، ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب. وعلي أن اكرر أن الموضوع هنا ليس موضوع شخصيات وانما موضوع صراع اجتماعي وضرورة تاريخية تستحثها طبيعة حركة التاريخ وقوانينه لامحالة؛ ذلك نتيجة لهذا الانتقال المفاجئ من الصراع القبلي الى صراع اوسع، وهو: "من هو الذي يجب ان يتولى شؤون المسلمين بعد تمركز جميع الصلاحيات في شكل سلطة مركزية واحدة، وهي الخليفة والخلافة!".


كيف إنفجر الصراع؟!   


هذه الجزئية ننقلها حرفيا عن  حسين مروة في كتابه لأهميتها ولأنها لا تحتمل الإيجاز: لمراجعة الكتاب (طبعة ٢٠٠٢، دار الفارابي-بيروت، ج١ ص٤٣٤)، وهو ينقل هذه الحوادث من مصدرين تأريخيين (تاريخ اليعقوبي، وتاريخ الطبري)، يقول:

"في حين كان علي بن ابي طالب والعباس بن عبدالمطلب عم النبي، وأسامة بن زيد أحد الصحابة، مشغولين في غسل جثمانه وتكفينه، ثم حمله إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها ببيت زوجه عائشة، كان منادي "الأنصار" ينادي في "المهاجرين" قائلا: (اجعلوا لنا في رسول الله نصيباً في وفاته، كما كان لنا في حياته). فبدا أول الأمر أن ذلك لا يعني أكثر من أنهم يريدون أن ينالوا شرف توديعه والمشاركة في عملية الدفن. ولذلك بادر علي بن أبي طالب بدعوة أحد الأنصار، وهو "أوس بن خولي" أن يشارك في النزول معهم إلى القبر لدفن النبي وتوديعه الوداع الأخير. إلا أنه سرعان ما أنكشف المعنى الذي يقصدونه بكلمة "النصيب" التي أطلقها مناديهم. فقد ظهر أنه بينما علي بن أبي طالب يدعو صاحبهم أوس إذا بزعماء الأنصار هؤلاء يعقدون إجتماعاً طارئاً في "سقيفة بني ساعدة" ثم يعلنون إمارة المسلمين -أي الخلافة- بعد محمد لزعيم الخزرج الأنصاري: سعد بن عبادة.

بلغ الأمر أبا بكر وعمر بن الخطاب وبعض المهاجرين، فجاءوا مسرعين إلى حيث يجتمع الانصار، وأبعدوا الناس عن سعد بن عبادة الذي أعلنه أهل المدينة -الأنصار- اميراً. وشق أبو بكر طريقه إلى صدر الإجتماع وخطب في المجتمعين قائلاً: (يا معشر الأنصار! منّا رسول الله، ونحن أحق بمقامه) فأجاب الأنصار: (منا أمير، ومنكم أمير). فقال أبو بكر: (منا الأمراء، ومنكم الوزراء)، وإحتدم الجدال بين الفريقين "المهاجرين" و "الأنصار" وكادت الفتنة تشتعل بينهم، لولا أن أنقذ الموقف واحد من زعماء الأنصار: أبو عبيدة الجرّاح. إذ تقدّم إلى أبي بكر وبايعه بالخلافة فانقاد الأنصار لرأي أبي عبيدة الحاسم، فأصبح أبو بكرأول خليفة من الخلفاء الأربعة بعد وفاة النبي. والذين أطلق عليهم لقب (الخلفاء الراشدين): أبو بكر من تميم، ثم عمر بن الخطاب من بني عدي، ثم عثمان بن عفان من بني امية، ثم علي بن أبي طالب من بني هاشم، وكلهم من المهاجرين.

غير أن الصراع لم ينحسم بذلك، فقد كان بنو هاشم وهم آل محمد غائبين عن المشهد، فلما علموا بالأمر ثار بهم الغضب. وقَدِمَ بعضهم إلى حيث حدث الأمر، ووقف أحدهم وهو "عتبة بن أبي لهب" ينشد شعراً يمدح به علياً بن أبي طالب وكأنه يرشحه للخلافة دون غيره؛ داعيا إلى كون علي هو صاحب الحق وحده بالخلافة. وقد اتخذت حادثة الغدير التي سنتحدث عنها في الجزئية القادمة "تحول الصراع من سياسي إلى صراع ديني -إلهي-" حجة قوية لموقف أنصار علي الإجتماعي ولكن إختلف بنو هاشم مع غيرهم من قبائل المهاجرين والأنصار في تفسير الحديث لإختلاف الدافع الإجتماعي والطبقي في الصراع وموقعهم منه. ويقول اليعقوبي وهو مؤرخ شيعي موثوق أن علي بن أبي طالب بعث إلى عتبة هذا ينهاه عن دعوته التي أعلنها. ولكنه -أي علي- تخلّفَ عن مبايعة أبي بكرومعه جماعة من بني هاشم وبني أمية. ويبدو أن فريقاً من الغاضبين ذهب إلى علي بن أبي طالب يريدون مبايعته بالخلافة، فطلب إليهم أن يرجعوا إليه في الغد، فلما جاء الغد لم يحضر منهم سوى ثلاثة أنفار/ الطبري: ج٢ ص٢٠٢.

صحيح ان علي بن ابي طالب تعاون مع الخليفة الأول ابي بكر، وتعاون مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وصحيح قبل هذا أن الأنصار انقادوا لكبيرهم أبي عبيدة، لكن الصراع بقي كامناً أول الأمر، ثم ظهر واحتدم احتداماً دموياً حيناً وفكرياً أيديولوجيا حيناً. لأن الدوافع القائمة وراءه بقيت دون حسم، ولأن المحتوى الإجتماعي - السياسي لهذا الصراع هو هو لم يتغير. غير أنه صراع إيجابي تاريخياً، فهو من جهة أولى كان ضرورة يقتضيها قانون حركة التطور الإجتماعي، وهو من جهة ثانية كان مصدرا خصباً لنشوء حركات فكرية أصبحت فيما بعد من مكونات حركة تطور الفكر العربي الإسلامي، ولا سيما الفكر الفلسفي منه".

الحصيلة من هذه الجزئية: "أن الصراع لم يكن يأخذ بعدا طائفياُ أو دينياُ -فكرياُ- لأن النموذج الفكري للصراع هو شكل منبثق عما يسبقه من صراع اجتماعي سياسي بعد أن يركد ويستقرالأخير، فهو لم يكن يتعدى كونه صراع بين أحزاب أو فرق سياسية أتخذ أما شكلا طبقيا بين المهاجرين والأنصار أو شكلا قبلياً مترسبا من قيم الجاهلية ونموذجها القديم الذي لم يستطع الإسلام في عشرين سنة من دعوته أن يزيله تماماً، وهو ما سيشكل نظرية المعرفة عند شيعة علي متمثلة بعد ذلك في نظرية الحق الإلهي لوراثة الخلافة في بني هاشم، وبين نظرية المعرفة المنبثقة من موقف القبائل الأخرى من المهاجرين والأنصار وهي نظرية الشورى "شبه الديمقراطية" والتي تجعل الحق للبشر في انتخاب خليفتهم وليس الله، إلا أنها ليست الشورى بالصورة التامة، إذ أنها كانت محصورة في نخبة من المسلمين وقد أقصي فيها أخرون، من خلال انتخاب الخليفة نفسه لأشخاص معينين يقع عليهم الإختيار منه وتكون الشورى عليهم".


تطور الصراع من الشكل السياسي إلى شكله الديني


بالرغم من أن الصراع كان مسوقا بدوافع إجتماعية - وسياسية غير خفية، فقد إتخذ شكله الديني، لأن هذا هو الشكل التاريخي له موضوعياً في ذلك العصر. ومن هنا تحول ظاهر الصراع من صراع بين المهاجرين والأنصار إلى صراع بين حق الهاشميين وسائر القبائل على الخلافة.

وهنا أشغل الصراع الإجتماعي العقل في إيجاد المفهوم الإسلامي المناسب للخلافة: فهل هي حق إلهي؟ وهل الخليفة يجب أن يكون منصب من قبل الله، شأنه شأن النبوة والنبي عند المسلمين؟ أم أن الخلافة منصب رئاسي لا يأتي اختياره من عند الله، بل هو حق من حقوق المسلمين أنفسهم، فهم الذين يقررون الصفات التي يرون ضرورة توافرها في من يتولى امر هذا المنصب؟... بين القائلين برفض كون الخلافة منصبا إلهيا، نشأ نزاع أخر وسؤال آخر: هل واجب أن يكون الخليفة من بني هاشم في قريش؟ أم واجب أن يكون من قريش بوجه عام، أم يصح أن يكون من غير قريش في العرب، أم يصح أن يكون من العرب وغير العرب من المسلمين حتى لو كان "عبداً حبشيا" والأخير هو رأي الخوارج، وهو الوجه الإجابي والإنساني لحركتهم. وكل تلك الآراء لا تنفصل عن الموقع الطبقي الذي يتبوأه القائلون بالرأي دون الآخر، كون تلك الآراء إنطلقت من بيئة الصراع نفسها ومواقع المتصارعين فيها.

القول بأن الخلافة حق إلهي/ هو القول الذي إتخذه أنصار علي بن أبي طالب، وصار بعد ذلك أصلا من أصول العقيدة والإيمان عند الشيعة، حيث الإيمان بالإمامة شرط من شروطها. والنص الأكثر إعتماداً لهم والأقوى سنداً تاريخيا واسلامياً عند كافة المؤرخين (سنة وشيعة) هو ما يسمى بـ "حديث الغدير"، وقصة الحديث هي:
"أنه عندما عاد النبي من حجه الآخير"حجة الوداع"، أوحي إليه في الطريق: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته). وجمع الناس عند غدير يقال له "غدير خم" ثم أخذ بيمين علي ورفعها وقال: (يا أيها الناس! ألست أولى منكم بأنفسكم!). قالوا: بلى. فقال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه. اللهم وال من والاه وعادي من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق حيثما دار).

هذا الحديث يتفق على صحته كما يقال تاريخياً، فهو حدث تاريخي من تلك الناحية، ولكن أختلف المسلمون في دلالته، ومركز الإختلاف كلمة: "مولى" او "الموالاة" الواردة في الحديث. فالشيعة يفسرونها على أنها تعني وراثة الخلافة في أمور المسلمين؛ جملةً وتفصيلاً. اما سائر الفرقاء من المسلمين قالوا: إن كلمة مولى وكل ما ورد في الحديث من أفعال ومشتقات للكلمة، تدل على المودة والمحبة فقط، وليست تعني النص على الإمامة. في مثل هذا الجانب الديني قال بعض المسلمين أن النبي نص نصاً خفياً على خلافة أبي بكر، لا على خلافة علي. وذلك ما يذكرونه من ان النبي امر الصحابة، أثناء مرضه الأخير، ان يصلّوا جماعة وأن يكون أبا بكر إمامهم في صلاتهم هذه. فقالوا إن الإمامة في الصلاة هي الإمامة الصغرى، وإن ذلك يوحي بإسناد النبي الإمامة الكبرى لأبي بكر. وقد إستند عمر بن الخطاب إلى هذه الحجة في طلب البيعة لأبي بكر يوم السقيفة...
وهناك طرفاً آخر دخل خط التنافس على منصب القيادة العليا للسلطة الإسلامية. إذ نرى مثلاً، حين إنتهى الأمر لخلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، أن أبا سفيان بن حرب  - والد معاوية مؤسس الدولة الأموية -  تخلف عن مبايعة أبي بكر، وقال مثيراً زعماء قريش: (أرضيتم يا عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم). وبنو عبد مناف هو الفرع الذي ينحدر منه أجداد القبائل القرشية. وتقول المصادر إن بني هاشم وبني أمية بالرغم من إختصامهم؛ غضبوا أن يتولى أمرهم رجل من تميم -أي أبو بكر-، من هنا ظهرت آراء في الخلافة: هل هي حصر في فئة من قريش، أو في قريش جملة، أو هي حصر في العرب، أو هي للمسلمين جميعا، عرباً وغير عرب؟!

كان شكل الصراع في كل ذلك فكريا دينيا، وكانت الحجج لكل فريق دينية أيضا، لكنه صراعٌ إجتماعيٌ-سياسيٌ بجوهره ومضمونه. وقد انتهى عصر الخلفاء الراشدين الأربعة تاركاً في الحياة الإجتماعية والسياسية والفكرية ثلاثة تكتلات رئيسية: "شيعة علي بن أبي طالب، حزب الأمويين، الخوارج." وهناك كتل أخرى ثنوية ظهرت سريعاً وانطفأت سريعاً، دون أن تترك في الحياة الإجتماعية والسياسية أثرا مهماً. وإنتهى عصر الخلفاء الراشدين بعد علي بن أبي طالب ولا تزال المسألة في صراعها الفكري الأيدلوجي لتلك الحوادث التاريخية رهن الصراع الفكري الإسلامي اليوم، بل إن هذا الصراع الفكري لا يمكنه أن يبني الحاضر إلا على أساس إرتهانه لذلك الصراع وإستعادة إما الحق الإلهي لعلي في الخلافة متمثلناُ في حق شيعته، أو حق الشورى بشكلها في عصر الخلفاء. لتتخذ اليوم شكل الصراع الديني ايضا بين الفكر والفكر، وهي لا تزال في جوهرها ومضمونها ليست كذلك.

الاثنين، 20 يونيو 2016

نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي ومخطط الإرتقاء الأول




هذا الكتاب جوهرة معرفية نفيسة، والذي عدت إليه بعد حوار دار  حول موضوع عقلنة الحيوان: "هل للحيوان عقل أم 
.لا؟" وهذه المقالة لن تتطرق للإجابة على هذا السؤال  بقدر ما هي تطرح أسئلة جديدة ومعارف أساسية أخرى


ترى النظريات المثالية ثبات الماهيات: "الإنسان إنسان، والحيوان حيوان، والنبات نبات" وكل هذه الكائنات موجودة بماهيتها وهي قديمة ومستقلّة عن الأخرى -هكذا وُجِدت على الأرض-. وأحدثت نظرية الحركة الجوهرية للفيلسوف الاسلامي صدر الدين الشيرازي (١٥٧٢-١٦٤٠م) الذي يُلقب بصدر المتألهين أو الملا صدرا أحيانا؛ طفرة في تراثنا المعرفي، والتي أثارت حنق معارضيه وجعلته ينأى في عزلة عن العالم. إلا أن هذه الطفرة كانت الخطوة الأولى في سبيل معرفة أعمق للوجود، وتستحق هذه الشخصية ان يُحيى تراثها، ولو كانت الشخصية شخصيةً غربية لرأينا عنها آلاف الدراسات والأعمال السينمائية.

مادة الكتاب المكون من ١٧٠ صفحة، صعبة ومتقدمة علي، وتحتاج أن يُفحص محتواها من قِبل شخصٍ حاذقٍ ومتبحرٍ في مباحثِ الفلسفة والطبيعيات، واعترف أن الكتاب الذي أخذ معي قرابة الشهر ونصف من القراءة المتأنية لا أزال أجهل ما دار في بعض صفحاته، ولازالت تغيب عني معاني بعض الكلمات. وسأحاول بقدر الإمكان تلخيص جزء مما يهمنا هنا في هذه المقالة.

تقوم نظرية الحركة الجوهرية على فكرة رئيسية وهي أن الحركة في الأجسام ناتجة عن حركة جوهرية في داخلها، وهذا ما يثبته علم الفيزياء الحديث، حيث أن الجسم المتحرك يتألف من مجموع حركة الجسيمات* داخله (الجسيم هو أصغر جزء في الجسم). فالمتغير لا يصدر عن الثابت حسب قول الشيرازي. وهذا ما سيحيله في نهاية المطاف إلى القول بعدم ثبات الماهيات، نتيجة التغير المستمر في الجوهر -المادة- وأزليتها وفق مبدأ: المتغير لا يصدر إلا عن متغير مثله. ويستشهد الملا صدرا بالآية القرآنية: "كل يومٍ هو في شأن" في محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة.

"الحي خرج من اللاحي"  فعند الشيرازي العالم كله مرتبط ببعضه في وحدة تامّة. والحركة عنده تنقسم إلى ثلاث أشكال: حركة كيفية، وحركة كمية، وحركة أينية وهي تحرك الشيء من مكان لآخر. أما الحركة الكيفية فمثالها التغير الحاصل مثلا في إسوداد قشرة الموز، والتعفن مثلاً، أو إشتداد حركة الماء عندما تحيله السخونة بالقوة إلى بخار، إلا أن جوهر الماء والبخار يرجع الى أصلٍ واحدٍ مشترك في المعادلة الكيميائية قبل ان يتحد مع الهواء. أما الحركة الكمية فهو ما يحدث في الاجسام من نمو وتذبّل. وللشيرازي تفسير للموت؛ بأنه يحدث نتيجة اشتداد تجوهر النفس في البدن فلا يستطيع لمحدوديته ان يتسع لها: "إن الموت هو قوة تجوهر النفس واشتدادها في الوجود"

ما يهمنا من نظرية الحركة الجوهرية أنها ستكون نقطة الفصل في تراثنا المعرفي بين من يعتبرون الماهية البشرية ثابتة متميزة الى كونها ماهية ارتقت تدريجياً عبر تاريخ حركة الجوهر في الوجود والتي تشترك في خصائصها مع سائر الموجودات، ومادتها مستمدة من مادة الطبيعة التي تمدنا بالطاقة والغذاء.

إن القول بتطور الوجود إلى مراتب وأطوار يستدعي كل منها معنىً ذهنياً يتحد بها، أي يقتضي بالضرورة ماهيات أوكائنات غير ثابتة تبعاً لعدم ثبات الوجود -الجوهر، المادة-. على أن الإعتراف للماهية بعدم الثبات لابد أن يفضي إلى قبول التغير الفعلي في الأنواع. تلك الظاهرة المخيفة التي منعت السابقين من إيقاع الحركة في الجوهر.

"العالم لم يوجد كاملاً، كما هو عليه الآن، بل تدرج في مراتب الوجود حتى بلغ هذه المرحلة، وهي ليست آخر المراحل، فما دام الوجود في حركة فالإرتقاء مستمر"


هادي العلوي في نقده وتقييمه للنظرية، يقول: الإتفاق اليوم حاصل على تسلسل الإنسان من حيوانات منقرضة، أحط منه في سلم التطور، أما الإنتقال من الشكل اللاحي إلى الشكل الحي من المادة فيكاد أن يصبح من بديهيات العصر. وتكشف هذه الحقيقة العلمية الراهنة عن الأهمية القصوى لحدس الشيرازي واصحابه، ولكن سلسلتهم لم تعد صحيحة من وجهة نظر العلم. ومن أخطائها اعتبارها الحيوان منحدراً من النبات. إن البيولوجيا الحديثة قد عالجت هذا الموضوع فرجحت أولا أن الخلية الأولى ليست نباتاً ولا حيواناً وإنما هي مادة حية تتألف من مادة البروتوبلازم* بكيفية لا يزال الكثير من تفاصيلها مجهولاً. ولكن ثمة افتراض أن يكون النبات أسبق إلى الظهور من الحيوان، ومستنده أن النبات يستطيع بفضل الكلوروفيل تركيب الكيربوهيدرات من المواد اللاعضوية البسيطة مثل ثاني أوكسيد الكربون والماء بمشاركة الضوء كمصدر للطاقة. أما الحيوان فيحتاج الى البروتين الجاهز المتوفر في العضويات الأخرى، التي يفترض أن تكون اسبق منه وجوداً كما تفرض عليه هذه الحاجة أن يسعى للحصول على الغذاء وهذا يستدعي أن يكون للحيوان قوى عالية التطور تمكنه من الحركة والتنقل. وليس من شك إن هذه القوى لا تظهر إلا في مرحلة متقدمة من تطور المادة العضوية.

لكن، أليس لدى علماء الإحياء ميل معلن إلى مثل تلك النظرية القائلة بتسلسل الحيوان عن النبات؟

حسب المخطط الإرتقائي المبسط الذي وضعه مسكويه، والشيرازي وأصحابهم من الفلاسفة، فإنهم يجعلون تسلسل المادة في الطبيعة هكذا: جماد /حلقة وسيطة/ نبات /حلقة وسيطة/ حيوان /حلقة وسيطة/ إنسان. والحلقة الوسيطة هي التي يسميها العلماء همزات وصل أي هي مخلوقات تتمتع بخصائص مشتركة -نباتية حيوانية- ومنها: العينون الأخضر Euglena viridis من السوطيات. والعينون وامثاله من الكائنات تجمع بين الإغتذاء الداخلي "التمثيل الكلوروفيلي" والإغتذاء الخارجي إذ أنها تواصل التغذي مع غياب الضوء وهو ما يفرق مملكة الحيوان عن النبات. وقد اعتبر أخوان الصفا الكمأه وهي نوع من الفطريات fungi بأنها مشتركة بين الجماد  والنبات، وهو رأي لا يخلو من وجاهة، فهي عند العلماء اليوم كائنات دنيا تقبع في أسفل شجرة الحياة وقد اختلفوا فيما بينهم بين من وضعها في مملكة النبات ومن صنفها ككائنات عضوية مستقلة عن مملكتي النبات والحيوان، أما الإنسان فهو خلية حيوانية في الأساس من جملة الثديات.


الكمأة أو بالعامية الفقع Terfeziaceae 
العينون الأخضر Euglena viridis 


"يستحيل المعدن إلى جسم النبات بالتغذية ويستحيل النبات إلى جسم الحيوان بنفس الطريقة"


أليس جسمك يحوي كل معادن هذي الأرض؟ يقول الفيلسوف في كتابه شواهد الربوبية حول مراحل نشوء الفرد البشري: (النفس الآدمية ما دام كون الجنين في الرحم درجتها درجة النفوس النباتية على مراتبها. فالجنين نبات بالفعل وحيوان بالقوة. إذ لا حس له ولا حركة إرادية. وبهذه القوة يمتاز عن سائر النباتات. وإذا خرج الطفل من جوف أمه صارت (النفس) في درجة النفوس الحيوانية فهو حيوان بالفعل إنسان بالقوة ثم تصير (النفس) ناطقةً مدركة للكليات بالفكر والروية). وهذا القول مشابه إلى حد كبير لِما قاله عالم الطبيعة الألماني أرنست هيگل (١٨٢٤-١٩١٩م): "إن سلسلة الأشكال التي يمر بها جسم الفرد في أثناء نموه من البيضة المخصبة إلى أن يكتمل هي إعادة موجزة للسلسلة الطويلة من الأشكال التي اجتازها أسلاف هذا الفرد من أقدم أزمنة الخلق العضوي حتى الآن". وتشكف دراسة الجنين الإنساني عن حقائق مدهشة؛ فقد لوحظ أن جسم الجنين مغطى كله عدا الشفتين وباطن اليدين والقدمين بشعر كثيف يشبه فروة القرد، ويسمى (الوبر الجنيني) وهو يختفي قبيل الولادة، وقد يبقى في أحوال شاذة. كذلك توجد لدى الجنين خمس مجموعات من الغدد اللبنية تنتشر في أنحاء جسمه وهذه تشير إلى حلقة سحيقة من حلقات التطور كان فيها أسلاف البشر يمتلكون أكثر من زوجين من الأثداء. ولا يرى علم الأحياء اليوم أن الإنسان تطور تطورا مباشرا عن القرد الذي نشاهده ونعرفه كما تفهم النظرة السطحية لتلك الحقيقة العلمية عن الإرتقاء، وقد عني علماء الأحياء من بينهم نستورخ بدراسة خصائص فصيلة من الحيوانات المنقرضة هي القرود البشرية Anthropoid apes وهي الفصيلة المرجح اعتبارها سلف الإنسان القردي المسمى بإنسان بيثيكانتروبوس والفصائل الأخرى المشابهة كإنسان النياندرتال.




بعد عرض كل هذه الحقائق العلمية التي رفض الأقدمون التطرق لها إما نتيجة رؤية إعتقادية في الخلق الكامل للكائنات ونزولها من السماء على احسن وجه، أو ثبات الماهيات. نقول هل بعد عرض هذه الحقائق يبقى للإنسان فضل وتميز على سائر الكائنات؟ أم للكائنات الفضل كل الكائنات على ذلك الإنسان، حيث إرتباطه الوثيق بها؟ وهل العقل هو تميز في الانسان ام هو تطور تدريجي يوجد عند سائر الكائنات، كما يقول ابن رشد بقنونة العالم: "العقل ملازم لكل موجود. فالعالم معقول، لأنه يخضع للقوانين" واذا قلنا بأزلية المادة فإنها عند الشيرازي تبقى وسط اشتداد النفس ومفارقتها للجسد...فهل تفعل الطبيعة في جسد الإنسان ما تفعله في المطر؟ اي ما تفعله في الماء من خلال التبخر والتكثف، وإعادة التسخين... فتعيده ماءً؟ ألهذا السبب أوصى المفكر العراقي الراحل هادي العلوي أن يُحرق جسده بدل أن يُدفن، حتى يتحول بصورة أسرع إلى طاقة وتستفيد منه كائنات الوجود؟ إن لهذه الطبيعة أسرارٌ محيرة لا تزال تستحق الإكتشاف قبل أن نسلمها جزافاً لإرادة السماء.



ــــــــــــــــــــ
*البروتوبلازم: يطلق العلماء على المادة الحية مصطلح (البروتوبلازم) الذي يعد الأساس الحيوي للكائن الحي وهو التركيب الذي له القدرة على القيام بعمليات الأيض من هدم وبناء، ويقوم بجميع متطلبات الكائن الحي من تكاثر واستمرارية وثبات.

الخميس، 9 يونيو 2016

القصبي وكوميدياه السوداء للتعصب المذهبي


  • القصبي وكوميدياه السوداء للتعصب المذهبي

  • قراءة تحليلة لحلقة "على مذهبك" من برنامجه "سيلفي٢"



  • نصف الصورة "سراب"

  • هناك صورة قد نُشرت على صفحات الانترنت قد قُسِّمت إلى نصفين: نصف يُظهر القاتل قتيلا، والنصف الآخر يُظهر القتيل قاتلاً، ولكن الصورة الحقيقية هي التي يمكن ان نطلقها على من شاهد المشهد كاملاً بكل حقيقته وموضوعيته
    كان قد دعاني احد الاصدقاء لمشاهدة الحلقة إلا أن الوقت قد سبقني للحاق بها وحين عدت لشقتي كنت قد فتحت التلفاز على الثلث الأخير من المشهد: "ناصر القصبي في الحسينية، وكأنه يقدم شخصية رجل الدين الشيعي الصفوي كما سماه شريعتي، وهو الذي يهتم بالخرافة دون الحقيقة، ويحب لكنه لا يعرف" ومن هنا يأتي الغلو. وبالرغم من أنني اصبحت أميل للقراءات الأدبية والفلسفية الإنسانية على القراءات الدينية، إلا أنني قد أختلفت مع صديقي الذي شاهد الحلقة كاملة بصورتها الكوميدية المنصفة. وما كان مني إلا أن أعدت على اليوتيوب دمج الصورة لتتضح. ويمكن ان يشاهد آخر تلك الصورة كاملةً ولكنه سينظر إلى ما يمسه منها اي سينظر لتلك الحلقة على أنها تمسه هو فقط. وليس ضعفاً ان يخطئ الإنسان في رؤيته أو أن تكون ناقصة ولكن الضعف هو أن يرى الصورة كاملة ولا يعترف بها


    كوميديا سوداء

  • تُعَرَّف الكوميديا السوداء على أنها تُقدم أسوء ما في الواقع بصورة ساخرة. فمن قال بأن الحلقة هي عبارة عن تشويه للشيعة او تشويه للسنة، فإن الواقع هو ليس في الحلقة بل الحلقة هي انعكاس لأسوء ما في الواقع الشيعي والسني، فعندما يقول القصبي مثلا بلسان رجل الدين الشيعي: "بأن من لم يعترف بكامل الطقوس الشيعية فلن يشم رائحة الجنة" وعندما يقول في مقولة اخرى لإبنه الذي تربى في بيئة سنية: "نروح الحسينية بس مو تفجر!" لا يعني في الأولى أن الشيعة حقاً يؤمنون بعلاقة الطقوس والجنة ولكن هناك الكثير من الاصوات الشيعية الصفوية او التشيع الاسود كما سماه شريعتي تصرح علانية على الفضائيات مثلاً: بأن من لم يوالي علي بن أبي طالب مهما فعل من خير ومهما فعل من أعمال في خدمة الناس وحتى لو كان مسلماً لا يدخل الجنة!
    في الجانب الآخر لا يعني قول القصبي لإبنه المتربي تربية سنية "مو تفجّر" بأن الآخوة من الطائفة السنية يدعون لتفجير الشيعة ويحلون دماءهم، ولكن هناك نموذج بارز في الفضائيات السلفية المتشددة يدعوا بصورة واضحة لمهاجمة الشيعة وحلية دمائهم، بل وغيرهم من المتصوفة والزيدية واهل الشرك! فالحلقة هي عبارة عن كوميديا سوداء فلا نحملها اكثر مما هي عليه، اي ما نحمّله النقاد العلميين. فالتشويه للتشيع والتسنن هو حادثٌ من داخلهما، ولا ننتظر حلقة سلفي لتشوههما، وعلى الاصوات المنصفة من التسنن المحمدي والتشيع العلوي ان تجتمع لنبذ هذين النموذجين من التعصب الأسود الفاقع

  • *أحمد السعيد

الأحد، 29 مايو 2016

الأشهر الحُرُم/ قراءات في النزعات

جانب من مناسك الطواف قديماً


الأشهر الحرم هي الأشهر التي حرم فيها العرب القتال وإنتهاك الحرمات. وكانت الظروف التي هيئت لهذا العرف أن الأرستقراطية المتمثلة في تجار قريش وقبائل الحجاز قبل الإسلام قد إستغلت موقعها الاستراتيجي الواصل بين الإمبراطوريتين الرومانية والساسانية المتصارعتين أن وقفت مكة موقف الحياد. وهذا الموقف الحيادي إلى جانب موقع مكة الإستراتيجي كان من مصلحتها، إذ سهل لها ان تكون هي الخط التجاري الواصل بين إمبراطورتي: الروم البيزنطية، والفرس الساسانية. حيث ينقل محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد" بأن هاشم بن عبد مناف قام بعقد معاهدة مع الإمبراطورية الرومانية، وعقد عبد شمس بن عبد مناف معاهدة تجارية مع النجاشي في الحبشة، وعقد نوفل والمطلب بن عبد مناف حلفاً مع فارس.

إلا أن الأوضاع الداخلية في شبه جزيرة العرب كانت لا تزال تخضع للشكل التنظيمي القائم على أساس الصراع القَبَلي، وكان لا بد من وضع أعراف تقوم على تأمين خط التجارة ذاك، والذي كان يستفيد منه فئات كبيرة من سكان المدن والبادية، سواء كانوا ممن يقوم بتأمين القوافل، أو بتشغيل بعضهم كأدِلّاء أو مقدمين خدمات ضرورية على طول الطريق. إضافة لرؤساء القبائل الذين يأخذون الإتاوات والضرائب والهدايا مقابل حماية القوافل التي تمر على حدود جغرافيتهم. فقاموا بتنظيم أسواق موسمية كموسم "الأشهر الحرم".

ينقل الدكتور جواد علي في "تاريخ العرب قبل الإسلام" أن أهل الحجاز في الجاهلية قد قسموا أشهر السنة إلى إثنتي عشر شهراً، أربعة منها سميت بالأشهر الحرم. ثلاثٌ منها متوالية: ذو العقدة، وذو الحجة، ومُحرّم. وشهر منفرد وهو رجب. وقد رتبوا أوقات هذه الأسواق على نحو يضمن لها الهدوء والأمان، لأنهم إعتبروها مقدسة لا يجوز فيها القتال ولا البغي ولا إنتهاك الحرمات. وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش.

وطريق التجارة هذا والمستفيدون منه خلق تمايزاً أجتماعياً كان الأساس هو الآخر في تفكك النظام القبلى القائم على المقايضة ودخول الاقتصاد النقدي الذي هو نمط غريب على أهل الحجاز وخاص بالإقتصادات الكبرى -الإمبراطوريات- وهذا كذلك ما سيُحتم على الثورة القادمة أن تبدأ من مكة القرشية لتسابق هي كذلك الأمبراطوريات العُظمى. وحافظ الإسلام على حرمة هذه الشهور والتي فرضت أن تكون أشهر سِلم: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" حيث ظل ذلك الخط التجاري مصدراً أساسياً لتنمية إقتصاد الدولة الإسلامية

* راجع: حسين مروّة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية، طبعة دار الفارابي-بيروت ٢٠٠٢، ص٢٦٨-٢٧٣

الثلاثاء، 24 مايو 2016

القبيلة-التمايز الطبقي-الصعاليك-الإسلام



تُعَرَّف القبيلة على أنها النظام الإجتماعي القائم على رابطتي الدم والنسب. ونتيجة لهذا النظام كان كلُّ من ينضوي تحت رابطة القبيلة تلك يحضى بجميع ما يحضى به أفرادها من خيرات. وفي الجاهلية الأولى كان المرء يمر على البئر فلا يُقال هذا بئري وإنما يُقال هذا البئر لبني فلان، وذلك المرعى لإبل١  بني فلان. أي مُلك مشاع للقبيلة. ومن رواسب المشاعية البدائية تلك قول النبي محمد: "الماء والكلأ مشاع". أي الماء والعشب لا يباعان ولا يشتريان.٢

وأما العلاقات الإقتصادية فإنها ضمن هذا السياق كانت تأخذ شكل التبادل البضاعي الجماعي. أي بين القبلية والقبيلة الأخرى كوحدتي إنتاج. وكانت البضاعة التي تُقَيَّم بها سائر البضائع هي "الإبل" وهي بضاعة البضائع كما عبر عنها فريدرك إنجلز؛ أي هي وِحدة الإنتاج الحالّة محل النقود. وذلك كان لما تحمله الإبل من مكانة عند أهل البوادي -البدو-.

ولكن التبادل التجاري هذا يحمل في داخلة صيرورة النفي والولادة، نفي نظام الملكية الجماعية، وولادة نظام جديد يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فالقيمة التي حضيت بها الإبل في العصر الجاهلي الأخير كوسيلة إنتاج أساسية في التبادل التجاري جعلت من الأفراد يتسارعون في الإستحواذ عليها. فأصبح يُقال هذه الماشية لفلان، وذاك المرعى لفلان، وأشهر ما يدل على تطور الملكية الخاصة بهذه الصورة ما حدث في أواخر القرن الخامس الميلادي -أي حوالي القرن ونصف القرن قبل الإسلام-٣   نقصد "حرب البسوس" التي كانت نتيجة قيام جساس بن مرة الشيباني بقتل إبن أخته كليب بن ربيعة الذي أدمى ناقة خاله لأنها دخلت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبلهِ.

أما رؤساء القبائل فإنهم علاوة على المكانة الإجتماعية التي كانوا يحضون بها أصبحت لهم مكانة إقتصادية تميزهم على سائر أبناء القبيلة، إذ صاروا يمتلكون خياماً أرفع وأجود قماشاً، ويستحوذون على الكم الأكبر من الماشية، والتي كانت تدر عليهم أموال ومقتنيات وفيرة: كالسجاجيد النفيسة والأواني المعدنية والزجاجية الغالية الأثمان، كذلك أفضل الأسلحة وأسرجة الخيل جراء التواصل التجاري بينهم وبين الإبراطوريتين البيزنطية في الغرب والساسانية -الفارسية-  في الشرق، إضافة لأهل الحواضر الذين كانوا يسكنون الواحات والأماكن المناسبة للزراعة حيث كانوا يتقايضون الفائض منها مع الماشية.

إذن كان من الضرورات الحتمية جراء تطور البنية الإجتماعية بهذا الشكل أن تنشأ إنقسامات أخرى هي أعمق وأشد، فعلاوة على إنقسام شبه جزيرة العرب إلى قبائل أصبح الإنقسام الطبقي القائم على الملكية الخاصة هو العامل الجديد في حركة التاريخ والذي أوجد في كل قبيلة: "مترفون" يقابلهم "فقراء" يعانون الشقاء المادي. حيث ان الإنقسام الطبقي أصدق تعبيرا من الإنقسام القومي والقبلي؛ لأنه المكون الأساس لحاجات الإنسان، وهو الذي أدى لنشوء تحالفات قبلية جديدة قائمة على المصالح التجارية بين الرؤساء وولاءات أخرى إنضمت فيها القبائل الضعيفة إلى القبائل القوية. وإيضاً إلى نشوء ظاهرة الصعلكة التي هي نتيجة مباشرة لهذا التمايز الإقتصادي-الإجتماعي. والصعلكة مشتقة من الصعاليك؛ وهم فئات من الفقراء الذين يعانون الشقاء المادي في قبائلهم فإنسلخوا عنها وتفردوا في الصحراء للغزو والسلب. ويبدو جلياً الآن ما قاله برتراند راسل: "إن أول شرير هو أول من إتخذ قطعة أرض وقال هذا ملكي".

ولنا أن نذكر أشهر شعراء الصعاليك "عروة بن الورد" المتوفي عام ٣٠ قبل الهجرة، والذي عُرف بسطوه على قوافل الأغنياء ليطعم منها الفقراء، حيث قال في أحد أشعاره:
لحى الله صعلوكاً إذا جنَّ ليله      مضى في المشاشِ آلِفاً كلَّ مجزرِ
وهو هنا يصوِّر حالة الصعلوك الذي لا يجد في ليلهِ غير رؤوس العظام يمضغها...

 كل هذه التطورات في القرنين السابقين على الإسلام هو ما سيؤدي إلى نشوء ثورة إجتماعية تغير مجمل تاريخ العرب وهي الثورة الإسلامية بقيادة النبي محمد في مكة، الموقع الإستراتيجي المهم الواصل بين البيزنطيين شمال البحر الأحمر والساسانيين غرب جزيرة العرب. وحسب ما يورد حسين مروّة أن هذه الثورة ليست ثورة غيبية، ليست صدفة من خارج التاريخ، وإنما للمعرفة نحتاج الدخول في صلب البنية الإجتماعية، في داخل حركة التاريخ المادي لشبه الجزيرة العربية أنذاك، وبالتحديد في مكة، وبتحديدٍ أكبر في بني هاشم.



ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) الإبل: هو الجَمَل. وجمعها: آبال
(٢) المشاعية: المرحلة الأولى من الملكية في تاريخ الإنسان حسب التأريخ الماركسي، وتعني الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج
(٣) ينقل حسين مروة أن المصادر الوحيدة التي يمكن أن ندرس فيها العصر الجاهلي قبل الإسلام هو الشعر الجاهلي إذ أن الشعر هذا لا يعبر فقط عن خيالات ومشاعر فردية بل يعبر أيضا في كثير منه عن البنية الإجتماعية والإقتصادية في شبه الجزيرة العربية أنذاك، إلا أن هذه الأشعار أقدمها يعود لقرن ونصف أو قرنين قبل الإسلام. وتبدو المصادر ضعيفة بل غائبة إذا ما أردنا التحدث عن الجاهلية الأولى إلا من خلال الشعر الجاهلي نفسه.


* كانت هذه المقالة إسهاماً أو محاولة لأن تسلط الضوء على تطور البنية الإجتماعية في النظام القبلي ونشوء ظاهرة الصعاليك قبل الإسلام معتمدين على ما ورد في "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" للشهيد حسين مروّة، ولا يسع ان نذكر كل ما ورد في الكتاب من تحليلات وأفكار في مقالة واحدة. راجين ان يكون في الوسع كتابة ملخص بعد الإنتهاء يضم أهم ما ورد فيه إضافة للمنهج الذي يستد عليه الكاتب في قراءة التاريخ.

** راجع: حسين مروّة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، طبعة دار الفارابي - بيروت ٢٠٠٢، ص ٢٤٦ - ٢٥٦