السبت، 18 يناير 2014

جمود الشرع وحركة المجتمع / ديالكتيك

متخيلة لـ: أبو ذر الغفاري
 

من هنيهات الواقع

 

في أحدى الجمعات حيث إعتادت العائلة الإجتماع لتناول الغداء كما أغلب العائلات المسلمة بعد أداء فريضة الجمعة. دارت أحداث هذا الحوار في جمعة شتوية من جمعات يناير وبالتحديد ١٧ يناير لعام ٢٠١٤ . إبتدأ الحوار بإفصاح من والدي الذي كان يعمل مديرا للعلاقات العامة في إحدى الشركات البحرينية. وبصفة موقعة فهو يلتقي بشخصيات من كافة البلدان. يقول: تلقيت هدية من أحد الأصدقاء الأجانب وكانت عبارة عن زجاجات من النبيذ الفاخر تقدر قيمة الواحدة بـ ١٠٠ دينار أو أكثر... ربما لم تكن لدى ذاك الصديق دراية أن والدي مسلما ومسلما ملتزما ولو بالقواعد الأساسية للإسلام ومنها عدم التعامل مع الخمر لا حمله ولا شربه ولا بيعه أو التصرف فيه.

طلب الوالد المشورة، فقال أخي الذي يكبرني سنا:
_ يجب أن تُكسر الزجاجات

من هنا بدأت أنا بالكلام ودار بيني وبين أخي حديثُ تدخل فيه بعض الأطراف بين مؤيد ومعارض، فقلت:
_ ولماذا نكسر الزجاجات؟! من الأفضل بيعها على أحد الأماكن التي توفر فيها الدولة النبيذ. والتبرع بالمال للفقراء، فهناك الكثير من الفقراء في الدولة.

من هنا يؤيدني أبي من منطق العقل ومن منطق الشرع يؤيد أخي. وأنا لا أسمية منطق عقل وشرع. بل أسمية منطق الشرع الجامد ومنطق الشرع المتحرك. يقول أخي:

_ وكيف نبيع الزجاجات يا أبي، فهي حتى من منطق العقل غير مقبولة. إن بيعها يتسبب في ضرر نكون نحن السبب فيه؛ فربما ذاك السكير يخرج في حال سكره، يقتل، يزني، يرتكب جريمة ما، فنكون نحن مساهمين في الحادثة كوننا سهلنا الطريق لحصوله على الخمر وسببا رئيسيا في ذلك.

_ قانون الدولة يوفر الخمر يا أخي، ويستثمر من أمواله، إننا لا نملك اليد في منع أي سكّير من الذهاب لحانه أو أحد الفنادق على أي حال، إننا لا نملك القانون لنمنع النبيذ وهو مباح بإسم القانون يحتكر أمواله المتنفذين. نحن نملك يدا واحدة فقط هي في كيفية التصرف بالمال الذي سينفقه أي سكير في هذه البلاد، إما أن يشتري زجاجة من أي حانة فيستغلها صاحب الحانة في زيادة الفجور في هذا البلد، أو أن يشتريها منا فنساهم ولو بالقليل في سد رمق عائلة فقيرة.

_ ولكن الشرع يمنع التصرف بالمال الحرام ولا يجوز التبرع للفقراء بأموال الخمور. فأنت كأنك تقول يجب أن أسرق كي أعيش..!

_بالنسبة لي في دولة المحرمات وأنت لا تملك بيدك سوى أن تغير مجرى هذا المال لتنفقه في سبيل رضا الله فيجوز، في دولة تتصرف بهذا المال لزيادة إنتجها من بيع الأجساد والسياحة المقنعة بالمحرمات فيجوز، يجوز ان تبيع زجاجة من خمر أهديت إليك في هذا البلد الذي يبيح ما تحرم ويحرم ما تبيح لتفرح فقيرا يحلم برغيف الخبز بدل أن تذهب لأحد الأغنياء ليزيد تلذذاً بترفه. إن الوالد لم يشتري تلك الزجاجة، لم يشتريها وإنما أهديت إليه.

إنني لكنت أقف مع أخي وأشد على يده لو كنا نعيش في دولة إسلامية يحرم حرامها ويحل حلالها، ولكننا نعيش في واقع أخر، وإننا لا نتحمل الوزر الذي سيرتكب بعد شرب الخمر لأنه سيرتكب على أي حال، فالشارب سيشرب من زجاجتي أو من أحد الحانات والفنادق، إننا نملك ثلاث خيارات فقط:

١. إن الطرق الأخرى التي توفر الخمور في بلدي هي الحانات والفنادق التي يذهب مالها للدولة أنه لمن السهل أن يحصل أي سكير على زجاجته. يشتري من حانة فندق أو حانة في الطريق فيكون المال الذي ينفقه في سبيل زجاجة يجلب بها البائع زجاجة أخرى وأخرى.
٢ . أن تكون هذه الزجاجات فرصة ليذهب مالها للفقراء والمساكين والمحتاجين، فنكون قد منعنا المشتري أن يمول الدولة ولو لمرة واحدة ونمول بها نحن الجائعين.
٣. أن نكسر الزجاجات، فلا أنا ساهمت في إشباع جائع ولا ساهمت في منع ذلك السكير من تمويل الدولة والذي سيقوم على أي حال بشراء زجاجته، فالنبيذ بالنسبة له مغذٍ أساسي!

... قلت:
_ أعطني يا أبي الزجاجات وأنا أتصرف بها.

_ يا أخي، إنك بذلك تحرض الناس على بيع الخمور في الدولة بهدف مساعدة المحتاجين..!

_ بل أنا مع منع بيعها إن إستطعنا، ولكني لم أشتريها ولم أهدف لبيعها وهيهات أن يكون فلسا واحدا في جيبي منها بل هي هدية وأحاول أن أستثمرها من أجل قضية أؤمن بها. وهي تحقيق ولو مساعدة بسطية في وطن الجوع والقهر واللاعدالة.

_ أنا لا أؤيد رأيك مطلقا يا أخي.. فالحرام، حرام.


في اليوم الآخر سألت والدي هل يحق لي التصرف في الزجاجات الآن، فقال لي: "لقد بعتها ولكن لا تخبر أخاك".

 وأنا اليوم مرتاح البال والضمير ولا أشعر أنني إرتكبت أمرا خاطئاً في إقناع والدي بفعل الخير، لأنه قام بفعل نبيل قد لا يتفهمه الأباء في مثل عمره، وإني لفخور بهذا الأب إلا أنني لم أقل له ذلك قط ولست جيدا في إظهار ذلك. على أي حال أنا لست جيدا في التعبير عمّا أختلجه من مشاعر في كثير من الأحيان سوى لهذا القلم وهذه الأوراق، لهذا أكتب.

في هذا الموقف كنت ملتزما بذاكرتي جيدا بدأت القراءه منذ سنتين أو ثلاث ما ساهم في تدعيم قناعاتي ولازلت أغذيها بالرغم من أنها لا تروق لمن هم حولي ولا تروق لي كثرة الحديث عن تلك القناعات حتى لأقرب المقربين مني سوى أختي خريجة القانون وبعض الأصدقاء المثقفين والأميين وخرجي الثانوية فالثقافة بالنسبة لي لا تكمن في شهادة اكاديمية بل هي قد تكتسب من القراءات الأخرى والحياة وتجاربها المعاشة، والأكاديمية هي مجرد ثقافة تخصص في مجال علمي أو عملي معين لا أقيس بها الناس.

تعود بي الذاكرة لفصل الأبدال من كتاب مدارات صوفية في موجز أبو ذر الغفاري تلك الشخصية التي إمتازت بحسها المشاعي قبل وبعد دخولها في الإسلام حيث كان قبل الإسلام يعيش حياة قطاع الطرق. وعلينا هنا فهم معنى قاطع طريق مشاعي، فهو كان يؤمن بتحقيق العدالة في الأرض وكان ينظم حملات يشنها على قوافل وجهاء قريش وتجارها الذين كانوا يحتكرون المال الذي كسبوه من عرق وجبين العامة من الفقراء لأنفسهم. ومن هنا كان الإسلام قبل تكوين الدولة وفي مرحلته المشاعية يحارب إحتكار الأموال كي لا يموت الفقير بجوعه ويبقى الغني متربعا على عرش وجوده، فمن هنا جاءت آية الكنز: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
أما بعد تكوين الدولة وإمتلاك القانون نسخت آية الكنز بآية الزكاة فأباح الإسلام للأغنياء كنز المال بغرض إستثماره مع ضريبة لتزكية المال وتطهيره، فكان الشرع عند محمد حركيا مع حركة المجتمع والقانون، حتى أصبح اليوم جامدا في تقديسه للنص دون عرضه على الواقع المُعاش.

لم يكن أبو ذر سارقا بل كان يسترد حقوق العامة من خزينة كانزيها المحتكرين لثروات أهلها. لكنه لو شن حملاته على قوافل البسطاء أو العامة ممن ليس لهم قوة ولا حول لكنا نستطيع أن نسميه قاطع طريق لص. وهنا الفرق بين اللصوصية والمشاعية. أو أنه فعل ذلك في دولة فيها من الرفاهية والعدل ما يوفر المال للناس، لإستطعنا أن نسميها لصوصية. ولماذا يسرق المشاعي في دولة العدل؟ ولماذا أفكر في بيع زجاجة خمر لأهديها لفقير؟ ولماذا إقتنع والدي الملتزم بقواعد الدين بكلامي وباع الزجاجات وتبرع بمالها لو كنا نحن في دولة عادلة؟

الثلاثاء، 7 يناير 2014

هِجْرَةْ ..!





بين المحيط والمحيط هجرة

 
خذني إلى جنبيك
واخفض جناح الخيمة الزرقاء
كي تعلو إليك جوارح بيضاء
هاجت في وجع الليالي طِفلةٌ
لم تعرف الباب الذي حطّتهُ
 
ما بين سؤدَدِ غَيمةٍ
و الغيبُ يَعتَقِلُ الضَمير
ويَهجُرَ كُلَّهُ
 
هل في الحياةِ أم الممات نَسير
أم إننا نمشي على قَوسِ النّدى
فينتهي قَوسُ الحَنين بأعمقِ الكَلِماتْ
وفي النِّهايَةِ لم يجد من يأخذ ظِلّهُ
 
لا تَلُمْنا - بل لا تلم عاشقيكَ
إن هَجَروا المحيط - إلى المحيطِ
كي يَعرِفوا أنَّ البِحار جميعُها من ماء
ولا حياةَ إلى البِحارِ
إذا هي إتفقتْ على الوقوفْ
ولا حياة إلى الحنين إن لم يُهاجِر بَيتَهُ
"كي لا يُضَيِّعَ رَبّهُ"
 
إن كُنتَ أهديت الجميع قُلوبهم
فَكيفَ يَخونُ هذا القَلبُ قَلبهُ

هل هاهنا أنتَ أم هاهناك أم في هناي
أم في الهنيهاتِ التي أرقى لها ولم أَرها

هل هاهنا أضع يدي أم هاهنا
أم أنّها لا في المواضِعِ كُلِّها

إنْ كُنتُّ أَطمح أن أراكَ حقيقةً فهو الغرور
وكيفَ إذاً تِلكَ الحَقيقةُ لَمسَها

"من يدّعي وَصلَ الحَبيبْ فقد جَهَلْ
من يَحتَمي خَلفَ الحَبيبْ فلن يَصِلْ"

لا تَثنِنيْ بالقوس حتى أنطلق
فأنا هُنا ولَستُ سِوى أَنا هُنْا

لو زُرتَ يوما كُلَّ مَعابِدِ الدّنيْا
وقَرَأتُ جَميعَ مَقالِها ومَقالِها

فَلنْ أَصِلْ إلّا لِشيءٍ واحدٍ:

أنتَ هُنْا
وهاهُنْا
وهاهُنْاي
وفي هُناكْ
وفي الهُنَيهاتِ التي أَرقى - لَها ولَستُ لَها -
"أنتَ هُنْا"

الأحد، 5 يناير 2014

أثر الحركة الصوفية "إجتماعيا" على الإسلام / ج3: مواقف - نساء متصوفات

لوحة: درويش صوفي

مواقف من التصوف الإجتماعي:


-          يحكي أحد مريدي القطب عبدالقادر الجيلي أنه مرة رآى شيخه يشتري دجاجة محمصة وخبزاً ومقبلات فهاله ما رأى: أيجوز من شيخنا أن يأكل من هذا ونحن لا ندري؟ فتبعه من حيث لا يشعر به حتى إنتهى إلى منزل فدق بابه فخرجت إمرأة عليها سيماء الفقر فدفع الدجاجة إليها وعاد من حيث أتى. فعلم المريد أن شيخه لم يشترى الدجاجة لنفسه. (مدارات صوفية.. ص15)


-          ورد في ترجمة ابن عربي أن سلطان أرض الروم التركي أعطاه قصراً منيفاً ثمنه مئة ألف درهم, فسكنه مدة ثم جاءه شحاذ يطلب منه شيئاً فلم يكن عنده في تلك الساعة ما يعطيه فأعطاه القصر كله وخرج منه! (مدارات صوفية.. ص183)


إن هذيان المتصوفة في الكلام هو نفسه هذيانهم في السلوك... وقد مر بنا من جهة أخرى أنه كان يأخذ من السلاطين على خلاف أقطاب التصوف الإجتماعي الذين حرموا العلاقة مع الدولة وأغيارها. لكن ابن عربي المنتمي لأقطاب التصوف المعرفي لم يحرم على نفسه ذلك. إذ كان يأخذ من السلاطين وما يأخذه يوزع أكثره ويبقي ما يكفي لعائلته وكان له إبنان وبنت.. وابن عربي تزوج بواحدة ولكن أقطاب التصوف الإجتماعي لم يتزوجوا إذ كانوا يرون في الزوجة و تكوين العائلة أمرا يعيق عليهم إهتماماتهم الإجتماعية.. فإن الزوجة تريد حقوق والأبناء. فهم بمنظورهم هذا لا يتزوجون كي لا تلهيهم حظوظ الزوجة والعائلة وأنفسهم عن حقوق العامة. وهذه نزعة متطرفة عند المتصوف الإجتماعي لا يرقى لها إلى الأولياء والضنائن كالمسيح.


نساء متصوفات:


            إن المرأة أقدر من الرجل على ترك زوجها لأنها أقل طلبا للجنس وهي تكتفي برجل واحد, إلا الجانحات من النمط الأوربي وهن قلة في نساء الشرق وكنّ قلة في الغرب قبل العصر الرأسمالي وقد إنتشر البغاء الجنسي اليوم في الشرق بسبب إنتقال الثفاقة الغربية والجنسانية منها خصوصا إلى مواطن الشرق العربي والشرق الآسيوي, وتقيم على نشرها شركات رأسمالية تسمح لها إخلاقيتها ببيع الأجساد مقابل كسب الأموال, فالحب الروحي نادر والحب الجسدي أو المادي هو المسيطر على الساحة. ولولا أن مجتمع الإسلام في عصره الذهبي كان شديد الذكورية لوجدنا المتصوفات أكثر عددا من المتصوفين. و بينهنَ من إستحكمت في التصوف كالولية الكبرى رابعة العدوية, وميمونة بنت شاقولة وفاطمة النيسابورية. و زوجة رياح القيسي.

و الإسلام كما قلنا في عصره الذهبي كان شديد الذكورية, ولكن الشريعة وتعاليمها لم تمنع من أن تكون المرأة ولية وقد كرّس القرآن وليات منهنّ كمريم. ولدينا في تراثنا فاطمة وآسيّة وخديجة. واليوم بدأت المرأة تتحرر شيئا من قيود المجتمع الذكوري ليكون لها دور ولو نسبي في مشاركة الرجل الحياة الإجتماعية، إلا أنه لا زالت تكبلها العادات والتقاليد العثمانية لتمتد إلى حاضرنا لتجعل منها ممتلكا لا رفيقا وذلك يرجع للقانون. ويقول الشيخ الأكبر إبن عربي إن كل ما يصلح أن يناله الرجال من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء.


-          كانت رابعة تقول في مناجاتها: اللهم أتحرق بالنار قلبا يحبك؟

ولا ريب أنها لم تكن تخاف النار وإنما هي نار قلبها المحترق بالحب. وقد تكون رابعة هي المشرع لمذهب اللادارين: لا دار الدنيا ولا دار الآخرة في مقابل سعادة الدارين. وكانت تخاطبه بأنها لم تعبده خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته ولكن لأنه أهل لعبادتها. وكذلك كان علي بن أبي طالب يناجي ربه.

وهذه كما عبروا عنها عبادة الأحرار.

وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئا؛ تريد أن العمل الطيب يجب أن لا يُعرف حتى لا يحقق الجاه والشهرة لصاحبه. ورابعة لم تتزوج.


-          حَسَنة العابدة: عارفة جميلة الصورة لم تتزوج. قالت لها إمرأة: تزوجي. فقالت: "هاتي رجلاً زاهداً لا يكلفني من أمر الدنيا شيئاً وما أضنكِ تقدرين عليه، فإن وجدتِ رجلاً يبكي ويُبكيني ويصوم ويأمرني بالصوم, ويتصدق ويحضني على الصدقة ففيها ونَعِمت وإلا فعلى الرجال السلام".


-          أم الحُريش أو أم الحريش عُرفت بالكنية. عارفة متزوجة من عسكري. وكان الناس يقولون أنها أبتليت به ولم تذكر المصادر ملابسات الزواج. فكانت لا تأكل من طعامه وتعد لنفسها شيئاً تأكله لا يدخل فيه ما يكسبه من مال. إذ أن ذلك المال قد إختلط بدماء الناس وفقرهم على حساب غنى أهل الدولة.


-          رياح القيسي كانت له قَدَم في التصوف فتزوج من عارفة. وفي صبيحة العرس قامت العروس إلى عجينها تصلحه. فقال لها: لو نظرتي إلى إمرأةٍ تكفيكِ هذا؟ فقالت: (إنما تزوجت رياح القيسي ولم أتزوج جباراً عنيداً).


وفي هذه الرواية معنى عميق. فهي تنكر الخدمة المنزلية, ولا تريد ان تمتهن مخلوقا لخدمتها.

ولكنه في عصرنا الحاضر ومع إنشغال المرأة بالعمل في مساعدة الرجل فهي بحاجة لشغيلة أو مربية.

والإسلام لم يمنع من إتخاذ العبيد والجواري إنما حرمه المتصوفة على أنفسهم وهذا خيار نابع من إلتزام روحاني وطبقي إتجاه الخلق. ولكن هناك رواية لزين العابدين تقنن السلوك في معاملة العبيد، إذ يُروى أن عبداً له كان يشوي لحماً في التنور وبجانبه يقف طفل لزين العابدين فوقع السفود (حديدة دقيقة يُنَظَّم فيها اللحم ليُشوى) من يد العبد على رأس طفل لزين العابدين فقتله. سمع زين العابدين الصرخة فأسرع إلى المكان ولما رأى ولده غارقاً في دمه لم يلتفت إليه إنما إلتفت إلى العبد وقال له: لا تُراع .. أنت حر.


والعبيد في العادة يعتقون لمأثرة تصدر منهم وليس جريمة قتل يرتكبونها بالخطأ أو بالعمد. وهذا موقف لزين العابدين قد لا يصدر من غيره.




النهاية: كلمات في حق المدارات

إن العقل الأول يتلاشى عندما يتعرض لثقافات عديدة أو يتروحن خاضعا لسلطة القلب لا العقل
خارجا من سلطة الموجود
إلى وحدة الوجود
فيخوض صراعا بين الفكر والواقع
من هنا كان المتصوف خارجا عن سلطة الشرع
في نفس الوقت غير قادر على نقضه
فنسخه وتروحن
إستبدل الأرض بالسماء, وتذلل لله بدل الدولة

وحينا يراه في صورة الرفيق أو الحبيب فقال بالحلولية كالحلاج ورابعة
ولما سُئل ذاك المناضل الصوفي: مافي جبتك؟ قال: مافي الجبة غير الله.
صفى له فتصافى له حتى ظن أنه في نفسه صارخا في شوارع بغداد: أنا الحق!
فكانت جائزة العاشق الصلب في ذمة المعشوق.

أثر الحركة الصوفية "إجتماعيا" على الإسلام / ج2: التصوف الإجتماعي

لوحة: درويش صوفي
 


التصوف الإجتماعي

 
بدأ التصوف كسلوك روحاني مع العامة ضد  الدولة وأغيارها, والأغيار مصطلح صوفي يعمم على أهل السلطة والمال. وتُقاس درجة إلتزام الصوفي بثقافته بدرجة التزامه بالخَلق, حيث أوضح عبدالقادر الجيلي وظيفة التصوف في شعاره: (إيجاد الراحة للخلق). وكانت أفضل الأعمال عند عبدالقادر هو إطعام الجياع حيث يقول: (فتشت الأعمال كلها فلم أجد أفضل من إطعام الطعام. أود لو أن الدنيا في يدي لأطعمتها للجياع).

يتميز الصوفي بحسه المشاعي فهو لا يفكر في نفسه بل يرى أن نفسه ليست له, وماله ليس له, وعقله ليس له, وقلبه ليس له, بل هو موجود في الحياة ليمنح السعادة والحياة للآخرين. وحتى في الآخرة فهو يرفض النعيم له وحده أو لفئة من الناس. ومن هنا يناجي الحلاج ربه قائلا:

"لو بعت مني الجنة بلمحة من وقتي أو بطرفة من أحرّ أنفاسي, لما أشتريتها! ولو رضت عليّ النار بما فيها من ألوان عذابك لإستهونتها، في مقابل ما أنا فيه من حال إستتارِكَ مني فأعف عن الخلق ولا تعفُ عني, وإرحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسائلك بحقي فإفعل بي ما تريد!"

وهنا عندما يفنى الإنسان في حقيقته يكون شيء لا كالأشياء, فيندمج كيانه وقلبه في قلب الكون ويخرج من لذائذية الجسد إلى الإنسان الكامل أي الروح الكونية التي تتخلى عن حظوظ النفس في سبيل ايجاد الراحة للخلق. كذلك كان المسيح والحسين وبابك؛ وبابك زعيم ديني فارسي قاد ثورة ضد الخليفة العباسي المعتصم، إلا أنها إنتهت بصلبه في سامراء. والمثقف الكوني لا يملك شيء لكي لا يملكه شيء فيصبح كيان يصعب إمساكه, فهو قوي لا ضعيف, حاكم لا محكوم. وأفعاله الخيرة ناتجه عن ارادته, لا طمعا في مكافأة ولا خوفا من عقاب ولا إبتغاء في سعادة الدارين بقدر ما هو إبتغاء خالص لتحقيق إرادته الخيرة, فتلك هي سعادته.

ولقصيدة إيليا أبو ماضي معناً للطريقة الصوفية, يرى بأن الإنسان يجب ان يحذوا حذو الطير و الزهرة وأنا أعطي الحلاج نموذجا لهذا البيت:

منذا يكافئ زهرة فواحةً       أو من يثيب البلبل المترنما

ولهم رؤية في النار نابعه من إحساسهم المرهف بالخلق, فقد يصل بهم الحال للإستهزاء بذلك القانون الذي يقسم حياة الفرد في العذاب أو النعيم خالداً فيها بسبب الأفعال القصيرة والمحدودة في الحياة الدنيا. ففي النظرية الجوهرية عند صدر الدين الشيرازي؛ وهو فيلسوف ورجل دين شيعي جمع بين العرفان والفلسفة, فكُفِّره القوم, وحورب من قِبل العامة. إعتزل الناس بالرياضة الروحية. وعاد لهم مستبطنا العلوم, ويُعرف اليوم بلقب صدر المتألهين, وكما يقال انه لا تظهر قيمة الإنسان الا إذا فقده الإنسان. يقول صدر المتألهين:

"إن كل الأشياء تطلب الحق لذاتها وهي تشتاق إلى لقاء الله بالذات, وتلك هي طبيعة العالم وطبيعة البشر, متوجهة نحو الخير, طالبةً للكمال, كما ان الباري هو أيضا يحب الناس ولا يريد لهم الشر, فبين الله ومخلوقاته صداقة تنبع من  طبيعة كل منهما, وما نراه من العداوة والكراهية بينهما فهي أمور عارضة سببها مرض تصاب به نفس الإنسان, ولكن الله لا يتخلى عن أصدقائه ساعة الشدة ولا يغير من حبه لهم ما يصدر عنهم من خلاف عليه, فهو يتولى بلطفه معالجة هذا المرض, والعلاج يتم بتعريض الخاطئ لعذاب النار وقتا معلوما, حتى يبرأ من مرضه ويعود إلى فطرته الأولى, وهذه اللمحة العابرة من الآلام هي لطف من الله لأصدقائه, وهي لذلك سرعان ما تتحول لسعادة عابرة"

 

والنضال الإجتماعي الصوفي ليس فقط في الدنيا وانما هو يسعى للعفو عن الناس في الآخره, وهي أمنيه يسعى أبو يزيد البسطامي لإنجازها فيقول: "اللهم إن كان في سابق علمك أنك تعذب أحدا من خلقك في النار فعظّم خلقي (جسمي) حتى لا تسع معي غيري". وإبن الجوزي يوافق على إفتداء أبو يزيد الناس بنفسه من العذاب بشرط أن يختص الفداء المسلمين... / (مدارات صوفية ص 61). لكن أبو يزيد يريد أن يكون فداء لكل الناس وذلك هو الفرق بين الفقيه والصوفي.

وكان أقطاب التصوف اقرب إلى الخيال في زهدهم, وان الكثير من الباحثين في حياة المتصوفة يميل لوصف الشخصية الصوفية بالشخصية الطوباوية بكل ما تحمل من معاني الحس الخيالي للزهد والرحمة ومشاركة الخلق همومهم الحياتية. فكانوا لا يأكلون إلا لإدامة أرواحهم على قيد الحياة. وفي الملابس إذ لا يلبسونها ترفا ومظهرا بل للإكتساء والدفْ. ولم يوافق الأقطاب على لبس المرقعات فهذه كانت للصوفية الصغار وبعض المتصوفة الهنود. بل كانوا يركزون على بساطة الملبس ونظافته. وقد روى الصوفية حديث عن النبي انه كان يركب حماراً بلا برذعة وأنه جعل ركوب الحمار وقاية من التكبر لأن الأغنياء كانوا يركوبون البراذين, وكذلك يذكر الطبري وابو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني أن عمر بن الخطاب إذا أرسل واليا شرط عليه أن لا يركب برذونا وأن لا يتخذ حاجبا ولا يلبس رقيقا وأن لا يأكل نقيا. وعند علي ابن ابي طالب أمثله كثيرة تدل على منهجه الإشتراكي في إدارة أموال الدولة في رسالته لعثمان بن حنيف واليه في البصرة وفي كلماته المعبره عن إلتزامه الطبقي في نهج البلاغة.

           أما في حسهم الروحي إتجاه الحيوانات فكانوا يحرمون على نفسهم إراقة الدماء من أجل التغذي عليها, حتى بقوانين الشرع الإسلامي لأنها في الحقيقة لا تمنع الحيوان من الإحساس بالتعذيب والألم, ويذكر هادي انه توقف عن أكل اللحوم من سن الأربعين حتى نهايه حياته, وأول ما جرب ذلك يقول:
" قللت أكلي وقلصت من اصنافه طيله عدد من السنين مع عدم أكل اللحم, فبدأت أعراض سوء التغذية بأضرارها المباشرة على البدن. وحدث تهرؤ في الشفتين ففزعت إلى طبيبي العالم عبد الستار الرفاعي وأخي الكبير كاظم, المختص بالصيدلانيات, فأتفق كلاهما على أن ذلك ناتج من سوء التغذية ووضعا لي برنامج غذاء ضمن الخيار النباتي فزالت تلك الأعراض وتحسنت صحتي"

ويعتبر هادي آخر متصوفة العصر ويُلقب بحلاج القرن العشرين, فقد كان لا يأخذ مبلغ على منشوراتهِ وكتاباتهِ في الجرائد, وأسس جمعية بغداد المشاعية, وهي جمعية خيرية مستقلة عن الدولة والسلطة الدينية. فكان يضع ما يحصل عليه من إيرادات كتبه فيها ويأخذ القدر الذي يعتاش به. وتعتمد الجمعية على المال الحلال من أموال المقتدرين الغير ملوثة بمال الدولة. وجعلها مستقلة عن أيادي المتدينين لأنه كان يريد للمال أن يشاع لجميع الخلق لا لفئة منهم دينية أو سلطوية. او أن تذهب هذه الأموال لبناء المساجد أذ أنه كان يرفض بناء مسجد ما دام هناك فقير واحد في بغداد, وبغداد مكتضة بالمساجد والفقراء. سائرا بذلك على نهج عمر بن عبدالعزيز حين رفض أن يجدد أساطين الجامع الأموي مادام هناك فقير.

ونتيجه تأثري بقراءة  التصوف منذ فترة جربت وفي محاولات عدة عدم أكل اللحوم. ولكن الجسم الذي أعتاد على أكلها لمدة واحد وعشرين عام يصعب عليه ان يتحمل الرفض المتتالي. فوضعت جدول ألتزم فيه وهو ان يكون هناك يومين في الأسبوع لا آكل فيها اللحوم. وحرم إبن عربي قوانين الإعدام فقال في الفص اليونسي: (إن الحق في هدم النشأة لله وحده ولا يجوز للبشر). وهذه أقدم معارضه لحكم الإعدام تسحب من الإنسان صلاحية قتل الإنسان وتجعلها حقا حاصرا لله وقوانين الطبيعة التي تميت الإنسان في أجله.

على أي حال فإن المتصوفة نسخوا كثيرا من الأحكام الأخرى الغير ملائمة لمعشرهم ولم يتقيدوا بالشريعة, من هذه الأحكام الزواج الضرائري وإقامة العائلة الأحادية مع عدم التسري. والمتصوفة نسخوا من الشريعة بعض الأحكام عملا لا أدلجة بإمتناعهم من الزواج أكثر من واحدة وعدم التسري وعدم اتخاذ العبيد من جهة أكثريتهم. وكذلك خروجهم من أحليّة الإكتناز المباح في الشرع. وإعتماد مبدأ إشاعة الأموال وبعضهم لم يتزوج  كأبو العلاء المعري وعامر العمبري و ابو يزيد وابراهيم ابن ادهم والحلاج سائرين بذلك على نهج المسيح الذي أنشغل بنضاله الإجتماعي وقتلته الدولة الرومانية قبل أن يأسس مشروعا لتكوين عائلة وعمره حين يصلب في حدود الثلاثين عاما ويعتبر أصغر الأولياء.
وكذلك سلمان الفارسي وأسمه الحقيقي قبل الإسلام روزبه الأصفهاني وكان ينتمي للمزدكيين. وربما لذلك لم يكن له وقت لبناء عائلة لتمسكه بروحانية الشرق إتجاه الخلق, ومن تزوج من أقطاب التصوف الإجتماعي هو عبدالقادر الجيلي وإكتفى بواحدة على نهج أبي ذرٍ الغفاري.

إن الزواج الضرائري كان في فترة صراع سياسي إجتماعي قتل فيه الكثير من الذكور وترمل العديد من النساء . لا كما هو اليوم مباح لكل ذكر, زيادة على قلة عدد المسلمين فإن حركة الإسلام كانت وليدة وتخوض حروب وكان من الضروري على النبي أن يشرع مثل هذا التشريع والسبب: ألا يموت الإسلام وليدا, وثانيا لإنتاج أجيال تنتمي إلى آباء مسلمين يحملون هذا الفكر ويناضلون من أجله إجتماعيا, ولهذا حرم الإسلام على المرأة الزواج برجل غير مسلم.

في كتاب فصول عن المرأة إقتباس يقول: " أساء الفقهاء فهم مسألة الضرائر فالإسلام حدد العدد بأربعة وقلصه بعد أن كان سائبا على قدرة الرجل (من إستطاع منكم الباءة فاليتزوج) بينما راح الفقهاء يعتبرون أن الدين ألزم بالأربعة. وكان من المفروض حين يكتمل التطور الإجتماعي مجراه أن يكون هناك تقليص للأربعة بواحدة وهو ما قام به مارق غير معترف به في الأوساط الفقهية. (أبو العلاء المعري). والآية فيها شرط العدل ونهي العدل (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة, ولن تعدلوا أبدا) فالعدل مستحيل فإن طبيعة النفس البشرية التفضيل ولولا الوضع الإجتماعي الصعب لما شرع النبي بهذا التشريع. الذي يبدون على أرجوحة التحريم والتحليل إذ لا تقبله اي إمرأة في عصرنا الحالي بصورته السائدة.

 أبو العلاء ليس متصوفا في المسلك الفكري, ولكنه يتبناه من ناحية حياتيه, و يتفق معهم من نواحي كثيرة ويختلف معهم كونه لا يميل لأي فكر وأي عقيده فكريه, بل له إيمانه ومدرسته الخاصة, ويتفق معهم في مسلكه الحياتي, فإرادته الحرة لم تمنعه يوما من نقد سلطة الدين والدولة وكان ثاني من حرم على نفسه التغذي على الحيوانات بعد عامر العنبري, وقد قال فيه محمد مهدي الجواهري:

أجللت فيك من الميزات خالدةً     حرية الفكر والحرمان والغضبا

 والحرمان آية المثقف الكوني سنتكلم عنه لاحقا, وللمعري بيت ينقد فيه التصوف ولكنه كان ينقد فيه أولاءك الصغار منهم الذين جعلوا منه مسلكا لنشر الخرافة والرقص من معاصريه حيث قال:

 ارى جيل التصـوف شـر جيـل       فقل لهـمُ وأهـــون بالـــحلولِ
 أقــــال الله حيــــن عشقتــموهُ       كلوا أكل البهائم وأرقصوا لي

وفي الحقيقة هم لا يأكلون أكل البهائم ولا يرقصون وإنما ابو العلاء ينقد صغارهم الذين اخذوا من التصوف زبده وتركوا اصله كحركة اجتماعية ومعرفية. ولا يشوه الفكر دائما الا اصحابه, والمتحدثين بأسمه, والدخلاء عليه.

ومن باب ايجاد الراحة للخلق يجد العارف الصوفي نفسه ملزوما بالحرمان كلما زاد معرفة, ومعرفته قرينة بالوعي والضمير الإجتماعي. و ضريبة المعرفة الحرمان عند التصوف واما عند علي إبن ابي طالب فإن الحرمان ضريبة يلتزم بها الحُكّام, فالحاكم عند الإمام علي ملزوم بأن يعيش كما يعيش ضعاف رعيته حتى لا يتسع على الفقير فقره كما يقول مثل عراقي (ثرد الشبعان للجوعان مناول بطيء). ولم يعرف عنه انه كان يعيش حياة التقشف الزائد قبل توليه الخلافه بل كان يعيش حياة الوسطية لا تقشف ولا ترف, وتتبين فلسفته للحرمان في رسالته الخطابيه لواليه في البصرة عثمان بن حنيف عندما دعي لوليمه فيها من اصناف الطعام والمأكولات ما لا يستطيع ان يأكله فقراء البصرة. وعندما رأى الإمام أحد تلامذته (وهما اما ابا ذر او سلمان) متقشفا في معيشته وبخه وقال له إن هذا لازما للحكام لا للرعية, وإن الله يحب أن يرى نعمه على عبادة. وقد أخذ المتصوفة من علي بن أبي طالب الذي رسم للزهد حالين: الإعتدال في العيش دون الحرمان من الطيبات وهذا لعامة الناس, وإختيار الفقر والحرمان للأئمة العارفين. فالحرمان عند الصوفي يتكامل مع تكامل المعرفة  المقرونة بالوعي والضمير الملازم للعامة حتى وإن كان لا يملك سلطة, وأساسا الصوفي لا يملك شيء حتى لا يملكه شيء, وقد أخذ العارف الصوفي منهج الحرمان هذا من تلميذي علي وهما أبو ذر وسلمان.
 فهما إلتزما الحرمان وهما لا يملكان شيئا, بل ذلك لمجرد إحساسهم وضميرهم الجمعي. والحرمان الصوفي حركة فردية يختارها الفرد وهي ليست حركة جماعية بل إنها عندما صارت حركة جماعية ودخل عليها الدين برزت فيها الإنحرافات والشذوذ الجنسي نتيجة الكبت المفروض, فالحرمان لا يفرض على الإنسان وإنما يختاره إختياراً.

أثر الحركة الصوفية "إجتماعيا" على الإسلام / ج1: مقدمة


لوحة: درويش صوفي


"وسلام على أهل الحق أينما كانوا وبأي لسان نطقوا

 وسلام على الخلق وأصدقاء الخلق

وسلام على الماضين والآتين

من ضنائن الله وأوتاد الأرض

الذين يقيمون زيغها ويحفظونها من الفساد"                        

هادي العلوي 

 
 

المقدمة

أختفت الكثير من الحركات الإسلامية بعد إنتهاء العصر العباسي ودخول الإسلام في عهده العثماني الظلامي, كما يفعل أي استعمار لأي دولة في تغييب العلم والثقافة والتراث. وبعضها لم يختفي تماما وإنما دخلت على فلسفته أو حركته الإجتماعية العديد من الطقوس لإنفتاحه على الشعوب وهذا ما حدث مع التصوف والتشيع.

وبدأت في القرن العشرين مبادرات ثقافية نهضوية لإعادة احياء ما تبقى من تراث الحضارة الإسلامية كمعرفة و سلوك إجتماعي. بِدأً من القدرية اولى الحركات الفكرية لمؤسسها معبد الجُهني, والتي نشأت كحركة فكرية ضد الحركة الجبرية التي تقول بأن الإنسان مجبور ان يخضع لقوانين القضاء والقدر, ولهذا منعت الجبرية الخروج على الحاكم مستندين إلى الآية القرآنية: يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
بينما القدرية تقول بأن الإنسان وحدة قادر على التغيير متى يشاء شاء الله، مستندين أيضا إلى الآية القرآنية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فقالوا إن الله محرك ومتحرك يتحرك بالإنسان, وعليه فإن الإنسان هو المغير لحركة التاريخ, وما الله إلا متحرك مع إرادة الإنسان.

الجبرية نشأت كسلوك فكري مناصر للدولة الأموية, والقدرية ثائرة ضد الدولة. وإنقسمت القدرية بعد ذلك إلى إثنى عشر فرقة منها المعتزلة والنظامية نسبة إلى إبراهيم النظام, والشيعة الكيسانية نسبة لكيسان مولى علي بن أبي طالب.
 
اما التصوف فهو حركة منفردة, ويعزوا الكثير من المؤرخين أنها تأثرت بروحانية الشرق الأقصى، مستلهمة من طابعه الحضاري قيم الإنسانية فأدمغتها في الإسلام وأعطته مفاهيم أكثر شمولية - نوضحها لاحقا -, ذلك لأن عامر العنبري جاء مسافراً من الشرق, وفي سفر هادي العلوي للصين يقول بأن التصوف يتفق في مبادئه ونظرته للسماء مع التاوية. وهي فلسفة روحانية وليست دينا, إذ أن الصين لم تعرف الأديان إلا في فترة متأخرة نتيجة تلاقح العقول الدينية مع الفلسفة الصينية. وإنما وضع لاوتسه أساسيات السلوك الروحي قبل نصف قرن من الميلاد, ووضع لها كتابا أسماه(التاو), وهو المحرك الصيني الذي يوازيه المحرك أو المطلق الإسلامي (الله) لتمثل التاوية بذلك المعارضة الروحية ضد المال والدولة.

يقول (لاو تسه):
... وهكذا عند تتويج الإمبراطور
أو تنصيب الوزراء الثلاثة
لا تبعث بهدية من اليشب
أو فصيلاً من أربع خيول
بل إلزم مكانك وأظهر التاو

فجعل راية التاو ضد راية الدولة. وللتاو رديف عربي ويعني: الطريق. وهو مصطلح رائج عند الصوفية: الطريقة الصوفية. او يُقال: السلك الصوفي. ومن هنا يتشابه المطلق الصيني الذي يتحد فيه التاوي كما يتحد الصوفي بالمطلق الإسلامي. وهنا جعلوا الإتحاد بالوجود أو الإله البديل عن الإتحاد بالدولة والحاكم.

أما اليوم وبعد ١٤٠٠ عام كفيلة بإنهيار حضارات وقيام أخرى قد يبدوا لنا التصوف في حركته الإخلاقية والمبدئية العظيمة على ما بدى عليه اليوم طقوس دينية هي أقرب إلى الدروشة منه إلى التصوف. ويقول هادي في مدراته: "إننا لنجد المذاهب الإخلاقية التي تنحو منحى البساطة تتعقد إذا لامست الدين, أو طرأ عليها تغيَر ما يضفي عليها صفة العقيدة. وهكذا حصل مع التاوية عندما نشأ الدين التاوي من رحم الفلسفة فحولها إلى طقوس وأثقلها بالخرافة. وقد جرى مثله للتصوف عندما صار في أوائل العصر العثماني إلى دروشة وصارت للدراويش طقوس لم تكن لأهل التصوف".

ولما بدأ التصوف بدأ من هنا:
حركة متعلقة بمنحيين: منحى إجتماعي وآخر معرفي. إجتماعي: ضد سلطة المال والدولة. ومعرفي: ضد سلطة الدين. أي ضد أن تكون رابطة الفرد المحدودة بالفكر والعقيدة الدينية فوق رابطته الإنسانية اللامحدودة, وتتكامل هذه الرؤية عند إبن عربي ونظريته الكونية الشهرية (وحدة الوجود).

يبدأ النضال الإجتماعي عند المتصوفة من عامر العنبري وعامر أتى قبل عهد التصوف حيث عاصر خلافة عثمان بن عفان, ومحاربته للفساد المبكر في الدولة الإسلامية والأرستقراطية المتفشيه أنذاك أدت إلى قتله, ولكنه وضع أساسيات السلوك الصوفي:

.عدم الزواج         
.عدم أكل اللحم      
.مقاطعة أهل الدولة والمال    
.الدفاع عن العبيد

وإنما يرجع تأسيس التصوف إلى إبراهيم ابن أدهم كحركة إجتماعية متبلورة المفاهيم، يبرز التصوف الإجتماعي عند عبدالقادر الجيلي، وابو المغيث الحسين ابن منصور الحلاج، الذي صلبه الخليفة المقتدر بتهمة الزندقة وفي الحقيقة لم يُصلب لذلك وإنما لأنه كان شديد البأس ملتزما بروحه النضالية لتحرير العامة, وثائرا من أجلهم, ما كان يشكل خطرا على الدولة, ولذلك لم يتعرض أبا يزيد البسطامي للمضايقة من السلطة, مع جملة العرفاء الربوبيين الذين انكروا الوسائط , حيث غلب عليهم الهم الفلسفي ولم يكن لهم توجه اجتماعي يعرضهم للقتل أو السجن, بالرغم من أن شطحاتهم قد لا تقل عن شطحات الحلاج, والشطح عبارة مستغربة في وصف وجدٍ فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته.

من بين المتصوفة الإجتماعيين أيضا (بِشر الحافي) ويرجع تسميته بالحافي أنه كان نعله مفتوقا وجاء للإسكافي ليرتق هذا الفتق.فقال له: ما أكثر مؤونتكم على الناس أيها الفقراء.. فخلع نعليه وسلمها للإسكافي ومشى حافيا.

أما التصوف المعرفي فيبدأ عند أبي يزيد البسطامي ويتكامل عند إبن عربي شيخ الصوفية الأكبر وينتهي فلسفيا عند عبدالكريم الجيلي في القرن التاسع الهجري، أي أوائل العهد العثماني. ولم يعرف التاريخ قطب من أقطاب التصوف بعد عبدالكريم الجيلي وكل ما بعده هو دروشة وطقوس دينية. وبالرغم من إنقسام التصوف إلى فلسفي وإجتماعي لم يختلف مع إختلاف التكوينات الشخصية للأقطاب بين من غلب عليه الهم الفلسفي ومن غلبت عليه هموم العدل والمساواة بين البشر.

تعرضت الحركة الصوفية إلى الكثير من التهميش, وتم على إثر ذلك وصفها بالإنحراف وكثير منهم وصف بالزندقة, فهي ظاهريا كذلك لكنها باطنيا تحمل معاني لا يصل لها من هو خارج السلك الصوفي وانا شخصيا لم أفهم بعض كلام المدارات, ولم يُفهم الحلاج في عصره؛ ومن هنا قوله وهو على صليب المقتدر:

"هؤلاء عبادك قد إجتمعو لقتلي تعصبا لدينك, وتقربا إليك, فإغفر لهم! فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا!ولو سترت عني ما سترت عنهم لما أبتليت بما أبتليت"

وفي حقيقتي الآنية عن التصوف كما قرأته هو ليس عقيدة بقدر ماهو حركة احتوت المؤمن واللامؤمن. فالتصوف مسلك اجتماعي ينهض من أجل حقوق الخلق ضد استغلال المثقفين من أهل الدولة والسياسيين وفئة المتدينين أصحاب الضمير الضيق للعامة, وهو سلوك تندمج فيه روحانية المؤمن والملحد والسني والشيعي ليس من ناحية الفكر بل من ناحية روحانية السلوك. وإنهم رغم إنتماءهم لعقيدة ما, فإنهم يخرجون عن السائد فقد يكونوا داخل الإطار الإيماني أو خارجه لا فرق, فما يهمهم أن يتكلموا بإسم الخلق جميعا.

صنف بعض المعاصرين خطوط التصوف إلى ما يسمونه: تصوف مؤمن وتصوف ملحد. تصوف شيعي وتصوف سني. إلا أن هادي العلوي في المدارات يؤكد على أن التصوف لا يتصنف, فهو قائم بشروطه المعلومة فإذا فقد واحد منها فقد الإسم والهوية معاً. وهو يصنفه إلى تصوف إجتماعي وتصوف معرفي وتصوف وجداني. و في واقع المتصوف هو ربوبي لا مؤمن ولا ملحد ولا شيعي ولا سني.

العزة مبدأ جاهلي أقره الإسلام إلا أنه حصره في المؤمنين: (لله العزة ولرسوله والمؤمنين) وأطلقها المتصوفة فجعلوها لجميع الخلق. وهم على أي حال لا يستخدمون لفض مؤمن أو مسلم بل لفض الخلق لأنه شمولي ويعبر عن توجههم أكثر من لفض مسلم أو مؤمن. وفي مقابل إستقلال الشخصية وعزتها والتطرف في صون كرامة الإنسان يأتي التواضع والحُلم والبُعد عن المكابرة والإستعلاء على الغير. فالنقرأ هذا التوجيه للجيلي في المقالة 78 من فتوح الغيب وقد أخذه الجيلي من الغزالي في (بداية النهاية) ووسعه:

"... ومنها أن لا يبقى أحداً من الناس إلا رأى له الفضل عليه ويقول عسى أن يكون عند الله خير مني وأرفع درجة. فإن كان صغيراً قال هذا لم يعصي الله وأنا قد عصيت فلا شك أنه خير مني. وإن كان كبيراً قال: هذا عبد الله قبلي. وإن كان عالماً قال: هذا نال ما لم أنل وعَلِمَ ما جَهِلتْ. وإن كان جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم. وإن كان كافراً قال: لا أدري عسى أن يُسلم فَيُختم له بخير وعسى أكفر ويُختم لي بسوء العمل..."

وهكذا لا يبقى لأحد فضل على الآخر يسوغ له التعالي عليه أو إذاءه وقمعه, ولتوجيهات الجيلي نظائر عند التاويين. لنقرأ هذا النص الهام لتشوانغ تسه:

"إفرض أنك تجادلت معي. فإذا غلبتني بدلاً من أن أغلبك فهل أنا بالضرورة على باطل؟ وإذا غلبتك بدلاً من أن تغلبني فهل أنا بالضرورة على حق؟ هل أحدنا محق والآخر مخطئ؟ أو هل كلانا محق وكلانا مخطئ؟ لا أنا ولا أنت نعرف ذلك ولا سوانا. من ينبغي أن نسأل ليعطي القرار الصحيح؟ قد تسأل أحداً يتفق معك ولكن مادام يتفق معك كيف يمكنه صوغ القرار؟ قد نسأل أحد يتفق معي ولكن ما دام يتفق معي كيف يمكنه صوغ القرار؟" وهذه من الجيلي الصوفي وتشوانغ تسه التاوي تمرينات ضد القمع والشخصية القمعية.

ولهذا قالوا ان من صفات المتصوف انه قليل الكلام لا يكثر من الخصومة ولا يلج في المجادلة وهم يتداولون قولا ينسبونه إلى معروف الكرخي وغيره بأن الله إذا أراد بقوم خيراً فتح عليهم باب العمل وأغلق باب الجدل. وإذا أراد لهم العكس فتح عليهم باب الجدل وأغلق عنهم باب العمل.

في السلك الصوفي مقامات تبدأ بالمريد مرورا بالسالك حتى الوصول لمقام القطبانية. وكثير ما ترك التصوف وراءه زبد المريدين وهذا حال كل حركة إخلاقية فكان بعض المريدين يشرب الحشيش ولم تكن هذه تهمه. وكان غرض المريد الإسراع في الوصول لحالة السُكر مع الله والتواجد في حضرته. أما القطب ليس بحاجة لذلك لأن روحه إرتفعت عن الحسيات واللذائذ فصفت الروح لله وتصافى لها.

يركز هذا البحث على اثر التصوف كمنحى إجتماعي ولا يتطرق للأثر المعرفي الا ما يدخل في مجرى الحركة الإجتماعية وهناك جانب جمالي في الشعر الصوفي وهو التصوف الإهتيامي -الوجداني-. إلا أن ما يهمنا من كل فكر هو ما يترك فيه من أثر سلوكي في الفرد. وبالرغم من أننا نطرح آراءنا فيجب عدم إجبار الناس الإقتناع بها. وجميل جدا الجانب الإهتيامي في روحانية المتصوف إلا أنه من يحب قراءة التصوف الإهتيامي فهناك شعراءه كجلال الدين الرومي وإبن الفارض, وإذا أردت المعرفي فهناك إبن عربي الذي يعتبر المؤسس للمدرسة العرفانية في حضارة الإسلام, وله أشعار تعبر عن نظريته الكونية في وحدة الوجود، والتي تقول ان الوجود مطلق وواحد ولكنه تعدد في الموجودات وأن كل الأديان تسعى لمعرفة هذا الوجود المطلق وهي طريق للوصول لذلك الحق, ولما بدأ الإنسان يفكر في اسرار الوجود والكون والحوادث الطبيعية وضعها العقل في الحسيات قبل أن يتأملها في السماء ولهذا تسبق الوثنية الأديان السماوية. ويرى ابن عربي أن فكرة الآلهة من مكتشفات الإنسان وربما هذا الرأي يتفق مع ملاحدة العصر الحديث, إلا أنه يؤكد أزليته في الوجود ولا ينكر وجوده وإنما كل ما في الأرض من أفكار هي محاولات مثالية أدمغت في هذا الوجود المطلق فأعطته صورة محدودة، والفلسفة الصوفية المعرفية حررت هذه القيود المحدودة لتعطيها طابع وجودي لا موجودي، فكل سمات الحق والخير تظهر ظلالها على كافة الخلق للوصول لسر الكون ولكن الآلهة أي كانت فشلت في توحيد العالم تحت رايتها ومن أراد ذلك إختل ميزان يده فسفك وقتل وتفصد الدم من فمه. فإن المطلق في وحدة الوجود واحد متعدد وعلاقته بالوجود علاقة البذرة بالشجرة إذ أن البذره هي الأصل ولكن الشجرة متعددة الفروع والأغصان فتمد خيراتها كل الموجودات وكل ذلك يعبر عن وجود البذرة. أما اصحاب وحدة الموجود فيرون أن البذرة هي الشجرة والشجرة هي الأغصان وكل ما في خارج هذا الفكر فهو ضلال وكفر وباطل ولا يشمله الحق بعطاءه ورحمته وخيراته.

سر الكون لا يزال مجهولا والخالق الحقيقي للكون هو غير إله الآديان الذي يعتبره إبن عربي محدود بتصور ذلك المتدين في قلبه.ولا يتقبل أصحاب الأديان ذلك وإنما يتقبلها العارف الربوبي, والكون عند إبن عربي مدار بقانون داخلي لا بقوة خارجية. وكذلك تنظر الفلسفة التاوية بأن التاو ساري في داخل الكون والموجودات. ويتفق فيلسوف الإسلام إبن رشد في قوله: (من قال أن الله في السماء فليس من أهل البرهان, بل هو فينا وبيننا).

ولنبدأ من أساس الحركة لا نهاياتها. نبدأ من أقطابها, فتاريخنا الإسلامي دخلت عليه ثقافات عديدة منها أربعة قرون من الإستعمار العثماني وقرنين من الإستعمار الأجنبي من شتى دول الغرب حتى وصل إلى ما نحن عليه اليوم من سقوط ثقافي وتخندق طائفي وإنهيار حضاري.