متخيلة لـ: أبو ذر الغفاري |
من هنيهات الواقع
في أحدى الجمعات حيث إعتادت العائلة الإجتماع لتناول الغداء كما أغلب العائلات المسلمة بعد أداء فريضة الجمعة. دارت أحداث هذا الحوار في جمعة شتوية من جمعات يناير وبالتحديد ١٧ يناير لعام ٢٠١٤ . إبتدأ الحوار بإفصاح من والدي الذي كان يعمل مديرا للعلاقات العامة في إحدى الشركات البحرينية. وبصفة موقعة فهو يلتقي بشخصيات من كافة البلدان. يقول: تلقيت هدية من أحد الأصدقاء الأجانب وكانت عبارة عن زجاجات من النبيذ الفاخر تقدر قيمة الواحدة بـ ١٠٠ دينار أو أكثر... ربما لم تكن لدى ذاك الصديق دراية أن والدي مسلما ومسلما ملتزما ولو بالقواعد الأساسية للإسلام ومنها عدم التعامل مع الخمر لا حمله ولا شربه ولا بيعه أو التصرف فيه.
طلب الوالد المشورة، فقال أخي الذي يكبرني سنا:
_ يجب أن تُكسر الزجاجات
من هنا بدأت أنا بالكلام ودار بيني وبين أخي حديثُ تدخل فيه بعض الأطراف بين مؤيد ومعارض، فقلت:
_ ولماذا نكسر الزجاجات؟! من الأفضل بيعها على أحد الأماكن التي توفر فيها الدولة النبيذ. والتبرع بالمال للفقراء، فهناك الكثير من الفقراء في الدولة.
من هنا يؤيدني أبي من منطق العقل ومن منطق الشرع يؤيد أخي. وأنا لا أسمية منطق عقل وشرع. بل أسمية منطق الشرع الجامد ومنطق الشرع المتحرك. يقول أخي:
_ وكيف نبيع الزجاجات يا أبي، فهي حتى من منطق العقل غير مقبولة. إن بيعها يتسبب في ضرر نكون نحن السبب فيه؛ فربما ذاك السكير يخرج في حال سكره، يقتل، يزني، يرتكب جريمة ما، فنكون نحن مساهمين في الحادثة كوننا سهلنا الطريق لحصوله على الخمر وسببا رئيسيا في ذلك.
_ قانون الدولة يوفر الخمر يا أخي، ويستثمر من أمواله، إننا لا نملك اليد في منع أي سكّير من الذهاب لحانه أو أحد الفنادق على أي حال، إننا لا نملك القانون لنمنع النبيذ وهو مباح بإسم القانون يحتكر أمواله المتنفذين. نحن نملك يدا واحدة فقط هي في كيفية التصرف بالمال الذي سينفقه أي سكير في هذه البلاد، إما أن يشتري زجاجة من أي حانة فيستغلها صاحب الحانة في زيادة الفجور في هذا البلد، أو أن يشتريها منا فنساهم ولو بالقليل في سد رمق عائلة فقيرة.
_ ولكن الشرع يمنع التصرف بالمال الحرام ولا يجوز التبرع للفقراء بأموال الخمور. فأنت كأنك تقول يجب أن أسرق كي أعيش..!
_بالنسبة لي في دولة المحرمات وأنت لا تملك بيدك سوى أن تغير مجرى هذا المال لتنفقه في سبيل رضا الله فيجوز، في دولة تتصرف بهذا المال لزيادة إنتجها من بيع الأجساد والسياحة المقنعة بالمحرمات فيجوز، يجوز ان تبيع زجاجة من خمر أهديت إليك في هذا البلد الذي يبيح ما تحرم ويحرم ما تبيح لتفرح فقيرا يحلم برغيف الخبز بدل أن تذهب لأحد الأغنياء ليزيد تلذذاً بترفه. إن الوالد لم يشتري تلك الزجاجة، لم يشتريها وإنما أهديت إليه.
إنني لكنت أقف مع أخي وأشد على يده لو كنا نعيش في دولة إسلامية يحرم حرامها ويحل حلالها، ولكننا نعيش في واقع أخر، وإننا لا نتحمل الوزر الذي سيرتكب بعد شرب الخمر لأنه سيرتكب على أي حال، فالشارب سيشرب من زجاجتي أو من أحد الحانات والفنادق، إننا نملك ثلاث خيارات فقط:
١. إن الطرق الأخرى التي توفر الخمور في بلدي هي الحانات والفنادق التي يذهب مالها للدولة أنه لمن السهل أن يحصل أي سكير على زجاجته. يشتري من حانة فندق أو حانة في الطريق فيكون المال الذي ينفقه في سبيل زجاجة يجلب بها البائع زجاجة أخرى وأخرى.
٢ . أن تكون هذه الزجاجات فرصة ليذهب مالها للفقراء والمساكين والمحتاجين، فنكون قد منعنا المشتري أن يمول الدولة ولو لمرة واحدة ونمول بها نحن الجائعين.
٣. أن نكسر الزجاجات، فلا أنا ساهمت في إشباع جائع ولا ساهمت في منع ذلك السكير من تمويل الدولة والذي سيقوم على أي حال بشراء زجاجته، فالنبيذ بالنسبة له مغذٍ أساسي!
... قلت:
_ أعطني يا أبي الزجاجات وأنا أتصرف بها.
_ يا أخي، إنك بذلك تحرض الناس على بيع الخمور في الدولة بهدف مساعدة المحتاجين..!
_ بل أنا مع منع بيعها إن إستطعنا، ولكني لم أشتريها ولم أهدف لبيعها وهيهات أن يكون فلسا واحدا في جيبي منها بل هي هدية وأحاول أن أستثمرها من أجل قضية أؤمن بها. وهي تحقيق ولو مساعدة بسطية في وطن الجوع والقهر واللاعدالة.
_ أنا لا أؤيد رأيك مطلقا يا أخي.. فالحرام، حرام.
في اليوم الآخر سألت والدي هل يحق لي التصرف في الزجاجات الآن، فقال لي: "لقد بعتها ولكن لا تخبر أخاك".
وأنا اليوم مرتاح البال والضمير ولا أشعر أنني إرتكبت أمرا خاطئاً في إقناع والدي بفعل الخير، لأنه قام بفعل نبيل قد لا يتفهمه الأباء في مثل عمره، وإني لفخور بهذا الأب إلا أنني لم أقل له ذلك قط ولست جيدا في إظهار ذلك. على أي حال أنا لست جيدا في التعبير عمّا أختلجه من مشاعر في كثير من الأحيان سوى لهذا القلم وهذه الأوراق، لهذا أكتب.
في هذا الموقف كنت ملتزما بذاكرتي جيدا بدأت القراءه منذ سنتين أو ثلاث ما ساهم في تدعيم قناعاتي ولازلت أغذيها بالرغم من أنها لا تروق لمن هم حولي ولا تروق لي كثرة الحديث عن تلك القناعات حتى لأقرب المقربين مني سوى أختي خريجة القانون وبعض الأصدقاء المثقفين والأميين وخرجي الثانوية فالثقافة بالنسبة لي لا تكمن في شهادة اكاديمية بل هي قد تكتسب من القراءات الأخرى والحياة وتجاربها المعاشة، والأكاديمية هي مجرد ثقافة تخصص في مجال علمي أو عملي معين لا أقيس بها الناس.
تعود بي الذاكرة لفصل الأبدال من كتاب مدارات صوفية في موجز أبو ذر الغفاري تلك الشخصية التي إمتازت بحسها المشاعي قبل وبعد دخولها في الإسلام حيث كان قبل الإسلام يعيش حياة قطاع الطرق. وعلينا هنا فهم معنى قاطع طريق مشاعي، فهو كان يؤمن بتحقيق العدالة في الأرض وكان ينظم حملات يشنها على قوافل وجهاء قريش وتجارها الذين كانوا يحتكرون المال الذي كسبوه من عرق وجبين العامة من الفقراء لأنفسهم. ومن هنا كان الإسلام قبل تكوين الدولة وفي مرحلته المشاعية يحارب إحتكار الأموال كي لا يموت الفقير بجوعه ويبقى الغني متربعا على عرش وجوده، فمن هنا جاءت آية الكنز: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
أما بعد تكوين الدولة وإمتلاك القانون نسخت آية الكنز بآية الزكاة فأباح الإسلام للأغنياء كنز المال بغرض إستثماره مع ضريبة لتزكية المال وتطهيره، فكان الشرع عند محمد حركيا مع حركة المجتمع والقانون، حتى أصبح اليوم جامدا في تقديسه للنص دون عرضه على الواقع المُعاش.
لم يكن أبو ذر سارقا بل كان يسترد حقوق العامة من خزينة كانزيها المحتكرين لثروات أهلها. لكنه لو شن حملاته على قوافل البسطاء أو العامة ممن ليس لهم قوة ولا حول لكنا نستطيع أن نسميه قاطع طريق لص. وهنا الفرق بين اللصوصية والمشاعية. أو أنه فعل ذلك في دولة فيها من الرفاهية والعدل ما يوفر المال للناس، لإستطعنا أن نسميها لصوصية. ولماذا يسرق المشاعي في دولة العدل؟ ولماذا أفكر في بيع زجاجة خمر لأهديها لفقير؟ ولماذا إقتنع والدي الملتزم بقواعد الدين بكلامي وباع الزجاجات وتبرع بمالها لو كنا نحن في دولة عادلة؟