لوحة: درويش صوفي |
التصوف الإجتماعي
بدأ التصوف كسلوك
روحاني مع العامة ضد الدولة وأغيارها,
والأغيار مصطلح صوفي يعمم على أهل السلطة والمال. وتُقاس درجة إلتزام الصوفي بثقافته
بدرجة التزامه بالخَلق, حيث أوضح عبدالقادر الجيلي وظيفة التصوف في شعاره: (إيجاد
الراحة للخلق). وكانت أفضل الأعمال عند عبدالقادر هو إطعام الجياع حيث يقول: (فتشت
الأعمال كلها فلم أجد أفضل من إطعام الطعام. أود لو أن الدنيا في يدي لأطعمتها للجياع).
يتميز الصوفي بحسه
المشاعي فهو لا يفكر في نفسه بل يرى أن نفسه ليست له, وماله ليس له, وعقله ليس له,
وقلبه ليس له, بل هو موجود في الحياة ليمنح السعادة والحياة للآخرين. وحتى في
الآخرة فهو يرفض النعيم له وحده أو لفئة من الناس. ومن هنا يناجي الحلاج ربه
قائلا:
"لو بعت مني
الجنة بلمحة من وقتي أو بطرفة من أحرّ
أنفاسي, لما أشتريتها! ولو رضت عليّ
النار بما فيها من ألوان عذابك لإستهونتها، في
مقابل ما أنا فيه من حال إستتارِكَ
مني فأعف عن الخلق ولا
تعفُ عني, وإرحمهم ولا
ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي،
ولا أسائلك بحقي فإفعل بي ما
تريد!"
وهنا عندما يفنى
الإنسان في حقيقته يكون شيء لا كالأشياء, فيندمج كيانه وقلبه في قلب الكون ويخرج
من لذائذية الجسد إلى الإنسان الكامل أي الروح الكونية التي تتخلى عن حظوظ النفس
في سبيل ايجاد الراحة للخلق. كذلك كان المسيح والحسين وبابك؛ وبابك زعيم ديني
فارسي قاد ثورة ضد الخليفة العباسي المعتصم، إلا أنها إنتهت بصلبه في سامراء. والمثقف
الكوني لا يملك شيء لكي لا يملكه شيء فيصبح كيان يصعب إمساكه, فهو قوي لا ضعيف,
حاكم لا محكوم. وأفعاله الخيرة ناتجه عن ارادته, لا طمعا في مكافأة ولا خوفا من
عقاب ولا إبتغاء في سعادة الدارين بقدر ما هو إبتغاء خالص لتحقيق إرادته الخيرة,
فتلك هي سعادته.
ولقصيدة إيليا أبو
ماضي معناً للطريقة الصوفية, يرى بأن الإنسان يجب ان يحذوا حذو الطير و الزهرة
وأنا أعطي الحلاج نموذجا لهذا البيت:
منذا يكافئ زهرة فواحةً أو من يثيب البلبل المترنما
ولهم رؤية في
النار نابعه من إحساسهم المرهف بالخلق, فقد يصل بهم الحال للإستهزاء بذلك القانون
الذي يقسم حياة الفرد في العذاب أو النعيم خالداً فيها بسبب الأفعال القصيرة
والمحدودة في الحياة الدنيا. ففي النظرية الجوهرية عند صدر الدين الشيرازي؛ وهو
فيلسوف ورجل دين شيعي جمع بين العرفان والفلسفة,
فكُفِّره القوم, وحورب من قِبل العامة. إعتزل الناس بالرياضة الروحية. وعاد لهم
مستبطنا العلوم, ويُعرف اليوم بلقب صدر المتألهين, وكما يقال انه لا تظهر قيمة
الإنسان الا إذا فقده الإنسان. يقول صدر المتألهين:
"إن كل
الأشياء تطلب الحق لذاتها وهي تشتاق إلى لقاء الله بالذات, وتلك هي طبيعة العالم
وطبيعة البشر, متوجهة نحو الخير, طالبةً للكمال, كما ان الباري هو أيضا يحب الناس
ولا يريد لهم الشر, فبين الله ومخلوقاته صداقة تنبع من طبيعة كل منهما, وما نراه من العداوة والكراهية
بينهما فهي أمور عارضة سببها مرض تصاب به نفس الإنسان, ولكن الله لا يتخلى عن
أصدقائه ساعة الشدة ولا يغير من حبه لهم ما يصدر عنهم من خلاف عليه, فهو يتولى
بلطفه معالجة هذا المرض, والعلاج يتم بتعريض الخاطئ لعذاب النار وقتا معلوما, حتى
يبرأ من مرضه ويعود إلى فطرته الأولى, وهذه اللمحة العابرة من الآلام هي لطف من
الله لأصدقائه, وهي لذلك سرعان ما تتحول لسعادة عابرة"
والنضال
الإجتماعي الصوفي ليس فقط في الدنيا وانما
هو يسعى للعفو عن الناس في الآخره, وهي أمنيه يسعى أبو يزيد البسطامي لإنجازها
فيقول: "اللهم إن كان في سابق علمك أنك تعذب أحدا من خلقك في النار فعظّم
خلقي (جسمي) حتى لا تسع معي غيري". وإبن الجوزي يوافق على إفتداء أبو
يزيد الناس بنفسه من العذاب بشرط أن يختص الفداء المسلمين... / (مدارات صوفية ص
61). لكن أبو يزيد يريد أن يكون فداء لكل الناس وذلك هو الفرق بين الفقيه والصوفي.
وكان أقطاب التصوف
اقرب إلى الخيال في زهدهم, وان الكثير من الباحثين في حياة المتصوفة يميل لوصف
الشخصية الصوفية بالشخصية الطوباوية بكل ما تحمل من معاني الحس الخيالي للزهد
والرحمة ومشاركة الخلق همومهم الحياتية. فكانوا لا يأكلون إلا لإدامة أرواحهم على
قيد الحياة. وفي الملابس إذ لا يلبسونها ترفا ومظهرا بل للإكتساء والدفْ. ولم
يوافق الأقطاب على لبس المرقعات فهذه كانت للصوفية الصغار وبعض المتصوفة الهنود. بل كانوا يركزون
على بساطة الملبس ونظافته. وقد روى الصوفية حديث عن النبي انه كان يركب حماراً بلا
برذعة وأنه جعل ركوب الحمار وقاية من التكبر لأن الأغنياء كانوا يركوبون البراذين, وكذلك يذكر الطبري وابو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني أن عمر بن الخطاب إذا أرسل واليا شرط عليه أن لا يركب برذونا وأن لا يتخذ حاجبا ولا يلبس رقيقا وأن لا يأكل نقيا. وعند علي ابن ابي طالب أمثله كثيرة تدل على منهجه الإشتراكي في إدارة أموال الدولة في رسالته لعثمان بن حنيف واليه في البصرة وفي كلماته المعبره عن إلتزامه الطبقي في نهج البلاغة.
أما في حسهم الروحي إتجاه الحيوانات فكانوا
يحرمون على نفسهم إراقة الدماء من أجل التغذي عليها, حتى بقوانين الشرع الإسلامي
لأنها في الحقيقة لا تمنع الحيوان من الإحساس بالتعذيب والألم, ويذكر هادي انه
توقف عن أكل اللحوم من سن الأربعين حتى نهايه حياته, وأول ما جرب ذلك يقول:
" قللت أكلي
وقلصت من اصنافه طيله عدد من السنين مع عدم أكل اللحم, فبدأت أعراض سوء التغذية
بأضرارها المباشرة على البدن. وحدث تهرؤ في الشفتين ففزعت إلى طبيبي العالم عبد
الستار الرفاعي وأخي الكبير كاظم, المختص بالصيدلانيات, فأتفق كلاهما على أن ذلك
ناتج من سوء التغذية ووضعا لي برنامج غذاء ضمن الخيار النباتي فزالت تلك الأعراض
وتحسنت صحتي"
ويعتبر هادي
آخر متصوفة العصر ويُلقب بحلاج القرن العشرين, فقد كان لا يأخذ مبلغ على
منشوراتهِ وكتاباتهِ في الجرائد, وأسس جمعية بغداد المشاعية, وهي جمعية خيرية مستقلة
عن الدولة والسلطة الدينية. فكان يضع ما يحصل عليه من إيرادات كتبه فيها
ويأخذ القدر الذي يعتاش به. وتعتمد الجمعية على المال الحلال من أموال المقتدرين
الغير ملوثة بمال الدولة. وجعلها مستقلة عن أيادي المتدينين لأنه كان يريد للمال
أن يشاع لجميع الخلق لا لفئة منهم دينية أو سلطوية. او أن تذهب هذه الأموال لبناء
المساجد أذ أنه كان يرفض بناء مسجد ما دام هناك فقير واحد في بغداد, وبغداد مكتضة
بالمساجد والفقراء. سائرا بذلك على نهج عمر بن عبدالعزيز حين رفض أن يجدد أساطين
الجامع الأموي مادام هناك فقير.
ونتيجه تأثري
بقراءة التصوف منذ فترة جربت وفي محاولات عدة عدم أكل اللحوم. ولكن الجسم الذي أعتاد على أكلها لمدة واحد وعشرين عام يصعب
عليه ان يتحمل الرفض المتتالي. فوضعت جدول ألتزم فيه وهو ان يكون هناك يومين في
الأسبوع لا آكل فيها اللحوم. وحرم إبن عربي قوانين الإعدام فقال في الفص اليونسي:
(إن الحق في هدم النشأة لله وحده ولا يجوز للبشر). وهذه أقدم معارضه لحكم الإعدام
تسحب من الإنسان صلاحية قتل الإنسان وتجعلها حقا حاصرا لله وقوانين الطبيعة التي
تميت الإنسان في أجله.
على أي حال فإن المتصوفة نسخوا كثيرا من
الأحكام الأخرى الغير ملائمة لمعشرهم ولم يتقيدوا بالشريعة, من هذه الأحكام الزواج
الضرائري وإقامة العائلة الأحادية مع عدم التسري. والمتصوفة نسخوا من الشريعة بعض
الأحكام عملا لا أدلجة بإمتناعهم من الزواج أكثر من واحدة وعدم التسري وعدم اتخاذ
العبيد من جهة أكثريتهم. وكذلك خروجهم من أحليّة الإكتناز المباح في الشرع.
وإعتماد مبدأ إشاعة الأموال وبعضهم لم يتزوج كأبو العلاء المعري وعامر العمبري و ابو يزيد
وابراهيم ابن ادهم والحلاج سائرين بذلك على نهج المسيح الذي أنشغل بنضاله
الإجتماعي وقتلته الدولة الرومانية قبل أن يأسس مشروعا لتكوين عائلة وعمره حين
يصلب في حدود الثلاثين عاما ويعتبر أصغر الأولياء.
وكذلك سلمان الفارسي وأسمه
الحقيقي قبل الإسلام روزبه الأصفهاني وكان ينتمي للمزدكيين. وربما لذلك لم يكن له
وقت لبناء عائلة لتمسكه بروحانية الشرق إتجاه الخلق, ومن تزوج من أقطاب التصوف
الإجتماعي هو عبدالقادر الجيلي وإكتفى بواحدة على نهج أبي ذرٍ الغفاري.
إن الزواج الضرائري كان في فترة صراع سياسي
إجتماعي قتل فيه الكثير من الذكور وترمل العديد من النساء . لا كما هو اليوم مباح
لكل ذكر, زيادة على قلة عدد المسلمين فإن حركة الإسلام كانت وليدة وتخوض حروب وكان
من الضروري على النبي أن يشرع مثل هذا التشريع والسبب: ألا يموت الإسلام وليدا,
وثانيا لإنتاج أجيال تنتمي إلى آباء مسلمين يحملون هذا الفكر ويناضلون من أجله
إجتماعيا, ولهذا حرم الإسلام على المرأة الزواج برجل غير مسلم.
في كتاب فصول عن
المرأة إقتباس يقول: " أساء الفقهاء فهم مسألة الضرائر فالإسلام حدد العدد
بأربعة وقلصه بعد أن كان سائبا على قدرة الرجل (من إستطاع منكم الباءة فاليتزوج)
بينما راح الفقهاء يعتبرون أن الدين ألزم بالأربعة. وكان من المفروض حين يكتمل
التطور الإجتماعي مجراه أن يكون هناك تقليص للأربعة بواحدة وهو ما قام به مارق غير
معترف به في الأوساط الفقهية. (أبو العلاء المعري). والآية فيها شرط العدل ونهي
العدل (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة, ولن تعدلوا أبدا) فالعدل مستحيل فإن طبيعة
النفس البشرية التفضيل ولولا الوضع الإجتماعي الصعب لما شرع النبي بهذا التشريع.
الذي يبدون على أرجوحة التحريم والتحليل إذ لا تقبله اي إمرأة في عصرنا الحالي
بصورته السائدة.
أبو
العلاء ليس متصوفا في المسلك الفكري, ولكنه يتبناه من ناحية حياتيه, و يتفق معهم
من نواحي كثيرة ويختلف معهم كونه لا يميل لأي فكر وأي عقيده فكريه, بل له إيمانه
ومدرسته الخاصة, ويتفق معهم في مسلكه الحياتي, فإرادته الحرة لم تمنعه يوما من نقد
سلطة الدين والدولة وكان ثاني من حرم على نفسه التغذي على الحيوانات بعد عامر
العنبري, وقد قال فيه محمد مهدي الجواهري:
أجللت فيك من الميزات
خالدةً حرية الفكر والحرمان والغضبا
والحرمان آية المثقف الكوني سنتكلم عنه لاحقا, وللمعري
بيت ينقد فيه التصوف ولكنه كان ينقد فيه أولاءك الصغار منهم الذين جعلوا منه مسلكا
لنشر الخرافة والرقص من معاصريه حيث قال:
ارى جيل التصـوف شـر
جيـل فقل لهـمُ وأهـــون
بالـــحلولِ
أقــــال الله حيــــن
عشقتــموهُ كلوا أكل البهائم
وأرقصوا لي
وفي الحقيقة هم لا
يأكلون أكل البهائم ولا يرقصون وإنما ابو العلاء ينقد صغارهم الذين اخذوا من
التصوف زبده وتركوا اصله كحركة اجتماعية ومعرفية. ولا يشوه الفكر دائما الا اصحابه,
والمتحدثين بأسمه, والدخلاء عليه.
ومن باب ايجاد
الراحة للخلق يجد العارف الصوفي نفسه ملزوما بالحرمان كلما زاد معرفة, ومعرفته
قرينة بالوعي والضمير الإجتماعي. و ضريبة المعرفة الحرمان عند التصوف واما عند علي
إبن ابي طالب فإن الحرمان ضريبة يلتزم بها الحُكّام, فالحاكم عند الإمام علي ملزوم
بأن يعيش كما يعيش ضعاف رعيته حتى لا يتسع على الفقير فقره كما يقول مثل عراقي
(ثرد الشبعان للجوعان مناول بطيء). ولم يعرف عنه انه كان يعيش حياة
التقشف الزائد قبل توليه الخلافه بل كان يعيش حياة الوسطية لا تقشف ولا ترف,
وتتبين فلسفته للحرمان في رسالته الخطابيه لواليه في البصرة عثمان بن حنيف عندما
دعي لوليمه فيها من اصناف الطعام والمأكولات ما لا يستطيع ان يأكله فقراء البصرة.
وعندما رأى الإمام أحد تلامذته (وهما اما ابا ذر او سلمان) متقشفا في معيشته وبخه
وقال له إن هذا لازما للحكام لا للرعية, وإن الله يحب أن يرى نعمه على عبادة. وقد
أخذ المتصوفة من علي بن أبي طالب الذي رسم للزهد حالين: الإعتدال في العيش دون
الحرمان من الطيبات وهذا لعامة الناس, وإختيار الفقر والحرمان للأئمة العارفين. فالحرمان
عند الصوفي يتكامل مع تكامل المعرفة المقرونة بالوعي والضمير الملازم للعامة حتى وإن
كان لا يملك سلطة, وأساسا الصوفي لا يملك شيء حتى لا يملكه شيء, وقد أخذ العارف
الصوفي منهج الحرمان هذا من تلميذي علي وهما أبو ذر وسلمان.
فهما
إلتزما الحرمان وهما لا يملكان شيئا, بل ذلك لمجرد إحساسهم وضميرهم الجمعي. والحرمان
الصوفي حركة فردية يختارها الفرد وهي ليست حركة جماعية بل إنها عندما صارت حركة
جماعية ودخل عليها الدين برزت فيها الإنحرافات والشذوذ الجنسي نتيجة الكبت
المفروض, فالحرمان لا يفرض على الإنسان وإنما يختاره إختياراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق