لوحة: درويش صوفي |
"وسلام على أهل الحق أينما كانوا وبأي لسان نطقوا
وسلام على الخلق وأصدقاء الخلق
وسلام على الماضين والآتين
من ضنائن الله وأوتاد الأرض
الذين يقيمون زيغها ويحفظونها من الفساد"
هادي العلوي
المقدمة
أختفت الكثير من الحركات الإسلامية بعد إنتهاء العصر العباسي ودخول الإسلام في عهده العثماني الظلامي, كما يفعل أي استعمار لأي دولة في تغييب العلم والثقافة والتراث. وبعضها لم يختفي تماما وإنما دخلت على فلسفته أو حركته الإجتماعية العديد من الطقوس لإنفتاحه على الشعوب وهذا ما حدث مع التصوف والتشيع.
وبدأت في القرن العشرين مبادرات ثقافية نهضوية لإعادة احياء ما تبقى من تراث الحضارة الإسلامية كمعرفة و سلوك إجتماعي. بِدأً من القدرية اولى الحركات الفكرية لمؤسسها معبد الجُهني, والتي نشأت كحركة فكرية ضد الحركة الجبرية التي تقول بأن الإنسان مجبور ان يخضع لقوانين القضاء والقدر, ولهذا منعت الجبرية الخروج على الحاكم مستندين إلى الآية القرآنية: يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
بينما القدرية تقول بأن الإنسان وحدة قادر على التغيير متى يشاء شاء الله، مستندين أيضا إلى الآية القرآنية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فقالوا إن الله محرك ومتحرك يتحرك بالإنسان, وعليه فإن الإنسان هو المغير لحركة التاريخ, وما الله إلا متحرك مع إرادة الإنسان.
الجبرية نشأت كسلوك فكري مناصر للدولة الأموية, والقدرية ثائرة ضد الدولة. وإنقسمت القدرية بعد ذلك إلى إثنى عشر فرقة منها المعتزلة والنظامية نسبة إلى إبراهيم النظام, والشيعة الكيسانية نسبة لكيسان مولى علي بن أبي طالب.
وبدأت في القرن العشرين مبادرات ثقافية نهضوية لإعادة احياء ما تبقى من تراث الحضارة الإسلامية كمعرفة و سلوك إجتماعي. بِدأً من القدرية اولى الحركات الفكرية لمؤسسها معبد الجُهني, والتي نشأت كحركة فكرية ضد الحركة الجبرية التي تقول بأن الإنسان مجبور ان يخضع لقوانين القضاء والقدر, ولهذا منعت الجبرية الخروج على الحاكم مستندين إلى الآية القرآنية: يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
بينما القدرية تقول بأن الإنسان وحدة قادر على التغيير متى يشاء شاء الله، مستندين أيضا إلى الآية القرآنية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فقالوا إن الله محرك ومتحرك يتحرك بالإنسان, وعليه فإن الإنسان هو المغير لحركة التاريخ, وما الله إلا متحرك مع إرادة الإنسان.
الجبرية نشأت كسلوك فكري مناصر للدولة الأموية, والقدرية ثائرة ضد الدولة. وإنقسمت القدرية بعد ذلك إلى إثنى عشر فرقة منها المعتزلة والنظامية نسبة إلى إبراهيم النظام, والشيعة الكيسانية نسبة لكيسان مولى علي بن أبي طالب.
اما التصوف فهو حركة منفردة, ويعزوا الكثير من المؤرخين أنها تأثرت بروحانية الشرق الأقصى، مستلهمة من طابعه الحضاري قيم الإنسانية فأدمغتها في الإسلام وأعطته مفاهيم أكثر شمولية - نوضحها لاحقا -, ذلك لأن عامر العنبري جاء مسافراً من الشرق, وفي سفر هادي العلوي للصين يقول بأن التصوف يتفق في مبادئه ونظرته للسماء مع التاوية. وهي فلسفة روحانية وليست دينا, إذ أن الصين لم تعرف الأديان إلا في فترة متأخرة نتيجة تلاقح العقول الدينية مع الفلسفة الصينية. وإنما وضع لاوتسه أساسيات السلوك الروحي قبل نصف قرن من الميلاد, ووضع لها كتابا أسماه(التاو), وهو المحرك الصيني الذي يوازيه المحرك أو المطلق الإسلامي (الله) لتمثل التاوية بذلك المعارضة الروحية ضد المال والدولة.
يقول (لاو تسه):
... وهكذا عند تتويج الإمبراطور
أو تنصيب الوزراء الثلاثة
لا تبعث بهدية من اليشب
أو فصيلاً من أربع خيول
بل إلزم مكانك وأظهر التاو
فجعل راية التاو ضد راية الدولة. وللتاو رديف عربي ويعني: الطريق. وهو مصطلح رائج عند الصوفية: الطريقة الصوفية. او يُقال: السلك الصوفي. ومن هنا يتشابه المطلق الصيني الذي يتحد فيه التاوي كما يتحد الصوفي بالمطلق الإسلامي. وهنا جعلوا الإتحاد بالوجود أو الإله البديل عن الإتحاد بالدولة والحاكم.
أما اليوم وبعد ١٤٠٠ عام كفيلة بإنهيار حضارات وقيام أخرى قد يبدوا لنا التصوف في حركته الإخلاقية والمبدئية العظيمة على ما بدى عليه اليوم طقوس دينية هي أقرب إلى الدروشة منه إلى التصوف. ويقول هادي في مدراته: "إننا لنجد المذاهب الإخلاقية التي تنحو منحى البساطة تتعقد إذا لامست الدين, أو طرأ عليها تغيَر ما يضفي عليها صفة العقيدة. وهكذا حصل مع التاوية عندما نشأ الدين التاوي من رحم الفلسفة فحولها إلى طقوس وأثقلها بالخرافة. وقد جرى مثله للتصوف عندما صار في أوائل العصر العثماني إلى دروشة وصارت للدراويش طقوس لم تكن لأهل التصوف".
ولما بدأ التصوف بدأ من هنا:
حركة متعلقة بمنحيين: منحى إجتماعي وآخر معرفي. إجتماعي: ضد سلطة المال والدولة. ومعرفي: ضد سلطة الدين. أي ضد أن تكون رابطة الفرد المحدودة بالفكر والعقيدة الدينية فوق رابطته الإنسانية اللامحدودة, وتتكامل هذه الرؤية عند إبن عربي ونظريته الكونية الشهرية (وحدة الوجود).
يبدأ النضال الإجتماعي عند المتصوفة من عامر العنبري وعامر أتى قبل عهد التصوف حيث عاصر خلافة عثمان بن عفان, ومحاربته للفساد المبكر في الدولة الإسلامية والأرستقراطية المتفشيه أنذاك أدت إلى قتله, ولكنه وضع أساسيات السلوك الصوفي:
.عدم الزواج
.عدم أكل اللحم
.مقاطعة أهل الدولة والمال
.الدفاع عن العبيد
.عدم أكل اللحم
.مقاطعة أهل الدولة والمال
.الدفاع عن العبيد
وإنما يرجع تأسيس التصوف إلى إبراهيم ابن أدهم كحركة إجتماعية متبلورة المفاهيم، يبرز التصوف الإجتماعي عند عبدالقادر الجيلي، وابو المغيث الحسين ابن منصور الحلاج، الذي صلبه الخليفة المقتدر بتهمة الزندقة وفي الحقيقة لم يُصلب لذلك وإنما لأنه كان شديد البأس ملتزما بروحه النضالية لتحرير العامة, وثائرا من أجلهم, ما كان يشكل خطرا على الدولة, ولذلك لم يتعرض أبا يزيد البسطامي للمضايقة من السلطة, مع جملة العرفاء الربوبيين الذين انكروا الوسائط , حيث غلب عليهم الهم الفلسفي ولم يكن لهم توجه اجتماعي يعرضهم للقتل أو السجن, بالرغم من أن شطحاتهم قد لا تقل عن شطحات الحلاج, والشطح عبارة مستغربة في وصف وجدٍ فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته.
من بين المتصوفة الإجتماعيين أيضا (بِشر الحافي) ويرجع تسميته بالحافي أنه كان نعله مفتوقا وجاء للإسكافي ليرتق هذا الفتق.فقال له: ما أكثر مؤونتكم على الناس أيها الفقراء.. فخلع نعليه وسلمها للإسكافي ومشى حافيا.
أما التصوف المعرفي فيبدأ عند أبي يزيد البسطامي ويتكامل عند إبن عربي شيخ الصوفية الأكبر وينتهي فلسفيا عند عبدالكريم الجيلي في القرن التاسع الهجري، أي أوائل العهد العثماني. ولم يعرف التاريخ قطب من أقطاب التصوف بعد عبدالكريم الجيلي وكل ما بعده هو دروشة وطقوس دينية. وبالرغم من إنقسام التصوف إلى فلسفي وإجتماعي لم يختلف مع إختلاف التكوينات الشخصية للأقطاب بين من غلب عليه الهم الفلسفي ومن غلبت عليه هموم العدل والمساواة بين البشر.
تعرضت الحركة الصوفية إلى الكثير من التهميش, وتم على إثر ذلك وصفها بالإنحراف وكثير منهم وصف بالزندقة, فهي ظاهريا كذلك لكنها باطنيا تحمل معاني لا يصل لها من هو خارج السلك الصوفي وانا شخصيا لم أفهم بعض كلام المدارات, ولم يُفهم الحلاج في عصره؛ ومن هنا قوله وهو على صليب المقتدر:
"هؤلاء عبادك قد إجتمعو لقتلي تعصبا لدينك, وتقربا إليك, فإغفر لهم! فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا!ولو سترت عني ما سترت عنهم لما أبتليت بما أبتليت"
وفي حقيقتي الآنية عن التصوف كما قرأته هو ليس عقيدة بقدر ماهو حركة احتوت المؤمن واللامؤمن. فالتصوف مسلك اجتماعي ينهض من أجل حقوق الخلق ضد استغلال المثقفين من أهل الدولة والسياسيين وفئة المتدينين أصحاب الضمير الضيق للعامة, وهو سلوك تندمج فيه روحانية المؤمن والملحد والسني والشيعي ليس من ناحية الفكر بل من ناحية روحانية السلوك. وإنهم رغم إنتماءهم لعقيدة ما, فإنهم يخرجون عن السائد فقد يكونوا داخل الإطار الإيماني أو خارجه لا فرق, فما يهمهم أن يتكلموا بإسم الخلق جميعا.
صنف بعض المعاصرين خطوط التصوف إلى ما يسمونه: تصوف مؤمن وتصوف ملحد. تصوف شيعي وتصوف سني. إلا أن هادي العلوي في المدارات يؤكد على أن التصوف لا يتصنف, فهو قائم بشروطه المعلومة فإذا فقد واحد منها فقد الإسم والهوية معاً. وهو يصنفه إلى تصوف إجتماعي وتصوف معرفي وتصوف وجداني. و في واقع المتصوف هو ربوبي لا مؤمن ولا ملحد ولا شيعي ولا سني.
العزة مبدأ جاهلي أقره الإسلام إلا أنه حصره في المؤمنين: (لله العزة ولرسوله والمؤمنين) وأطلقها المتصوفة فجعلوها لجميع الخلق. وهم على أي حال لا يستخدمون لفض مؤمن أو مسلم بل لفض الخلق لأنه شمولي ويعبر عن توجههم أكثر من لفض مسلم أو مؤمن. وفي مقابل إستقلال الشخصية وعزتها والتطرف في صون كرامة الإنسان يأتي التواضع والحُلم والبُعد عن المكابرة والإستعلاء على الغير. فالنقرأ هذا التوجيه للجيلي في المقالة 78 من فتوح الغيب وقد أخذه الجيلي من الغزالي في (بداية النهاية) ووسعه:
"... ومنها أن لا يبقى أحداً من الناس إلا رأى له الفضل عليه ويقول عسى أن يكون عند الله خير مني وأرفع درجة. فإن كان صغيراً قال هذا لم يعصي الله وأنا قد عصيت فلا شك أنه خير مني. وإن كان كبيراً قال: هذا عبد الله قبلي. وإن كان عالماً قال: هذا نال ما لم أنل وعَلِمَ ما جَهِلتْ. وإن كان جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم. وإن كان كافراً قال: لا أدري عسى أن يُسلم فَيُختم له بخير وعسى أكفر ويُختم لي بسوء العمل..."
وهكذا لا يبقى لأحد فضل على الآخر يسوغ له التعالي عليه أو إذاءه وقمعه, ولتوجيهات الجيلي نظائر عند التاويين. لنقرأ هذا النص الهام لتشوانغ تسه:
"إفرض أنك تجادلت معي. فإذا غلبتني بدلاً من أن أغلبك فهل أنا بالضرورة على باطل؟ وإذا غلبتك بدلاً من أن تغلبني فهل أنا بالضرورة على حق؟ هل أحدنا محق والآخر مخطئ؟ أو هل كلانا محق وكلانا مخطئ؟ لا أنا ولا أنت نعرف ذلك ولا سوانا. من ينبغي أن نسأل ليعطي القرار الصحيح؟ قد تسأل أحداً يتفق معك ولكن مادام يتفق معك كيف يمكنه صوغ القرار؟ قد نسأل أحد يتفق معي ولكن ما دام يتفق معي كيف يمكنه صوغ القرار؟" وهذه من الجيلي الصوفي وتشوانغ تسه التاوي تمرينات ضد القمع والشخصية القمعية.
ولهذا قالوا ان من صفات المتصوف انه قليل الكلام لا يكثر من الخصومة ولا يلج في المجادلة وهم يتداولون قولا ينسبونه إلى معروف الكرخي وغيره بأن الله إذا أراد بقوم خيراً فتح عليهم باب العمل وأغلق باب الجدل. وإذا أراد لهم العكس فتح عليهم باب الجدل وأغلق عنهم باب العمل.
في السلك الصوفي مقامات تبدأ بالمريد مرورا بالسالك حتى الوصول لمقام القطبانية. وكثير ما ترك التصوف وراءه زبد المريدين وهذا حال كل حركة إخلاقية فكان بعض المريدين يشرب الحشيش ولم تكن هذه تهمه. وكان غرض المريد الإسراع في الوصول لحالة السُكر مع الله والتواجد في حضرته. أما القطب ليس بحاجة لذلك لأن روحه إرتفعت عن الحسيات واللذائذ فصفت الروح لله وتصافى لها.
يركز هذا البحث على اثر التصوف كمنحى إجتماعي ولا يتطرق للأثر المعرفي الا ما يدخل في مجرى الحركة الإجتماعية وهناك جانب جمالي في الشعر الصوفي وهو التصوف الإهتيامي -الوجداني-. إلا أن ما يهمنا من كل فكر هو ما يترك فيه من أثر سلوكي في الفرد. وبالرغم من أننا نطرح آراءنا فيجب عدم إجبار الناس الإقتناع بها. وجميل جدا الجانب الإهتيامي في روحانية المتصوف إلا أنه من يحب قراءة التصوف الإهتيامي فهناك شعراءه كجلال الدين الرومي وإبن الفارض, وإذا أردت المعرفي فهناك إبن عربي الذي يعتبر المؤسس للمدرسة العرفانية في حضارة الإسلام, وله أشعار تعبر عن نظريته الكونية في وحدة الوجود، والتي تقول ان الوجود مطلق وواحد ولكنه تعدد في الموجودات وأن كل الأديان تسعى لمعرفة هذا الوجود المطلق وهي طريق للوصول لذلك الحق, ولما بدأ الإنسان يفكر في اسرار الوجود والكون والحوادث الطبيعية وضعها العقل في الحسيات قبل أن يتأملها في السماء ولهذا تسبق الوثنية الأديان السماوية. ويرى ابن عربي أن فكرة الآلهة من مكتشفات الإنسان وربما هذا الرأي يتفق مع ملاحدة العصر الحديث, إلا أنه يؤكد أزليته في الوجود ولا ينكر وجوده وإنما كل ما في الأرض من أفكار هي محاولات مثالية أدمغت في هذا الوجود المطلق فأعطته صورة محدودة، والفلسفة الصوفية المعرفية حررت هذه القيود المحدودة لتعطيها طابع وجودي لا موجودي، فكل سمات الحق والخير تظهر ظلالها على كافة الخلق للوصول لسر الكون ولكن الآلهة أي كانت فشلت في توحيد العالم تحت رايتها ومن أراد ذلك إختل ميزان يده فسفك وقتل وتفصد الدم من فمه. فإن المطلق في وحدة الوجود واحد متعدد وعلاقته بالوجود علاقة البذرة بالشجرة إذ أن البذره هي الأصل ولكن الشجرة متعددة الفروع والأغصان فتمد خيراتها كل الموجودات وكل ذلك يعبر عن وجود البذرة. أما اصحاب وحدة الموجود فيرون أن البذرة هي الشجرة والشجرة هي الأغصان وكل ما في خارج هذا الفكر فهو ضلال وكفر وباطل ولا يشمله الحق بعطاءه ورحمته وخيراته.
سر الكون لا يزال مجهولا والخالق الحقيقي للكون هو غير إله الآديان الذي يعتبره إبن عربي محدود بتصور ذلك المتدين في قلبه.ولا يتقبل أصحاب الأديان ذلك وإنما يتقبلها العارف الربوبي, والكون عند إبن عربي مدار بقانون داخلي لا بقوة خارجية. وكذلك تنظر الفلسفة التاوية بأن التاو ساري في داخل الكون والموجودات. ويتفق فيلسوف الإسلام إبن رشد في قوله: (من قال أن الله في السماء فليس من أهل البرهان, بل هو فينا وبيننا).
ولنبدأ من أساس الحركة لا نهاياتها. نبدأ من أقطابها, فتاريخنا الإسلامي دخلت عليه ثقافات عديدة منها أربعة قرون من الإستعمار العثماني وقرنين من الإستعمار الأجنبي من شتى دول الغرب حتى وصل إلى ما نحن عليه اليوم من سقوط ثقافي وتخندق طائفي وإنهيار حضاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق